السبت ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٥
بقلم سليمان نزال

شمس النهار الآخر...

مع أني كنتُ أصارعُ ذاكرتي على قرنفلة أريدها و في ساعات النكوص، لا أريدها، فقد وقفتْ في صبيحة تلك المواقيت الربيعية، مقابل قلبي، كان يشيرُ إليَّ بعطرها و أشيرُ إليه بأعذاري، تمنيتُ استشارة تأتيني من لفتات صقرية و عيون حارسة.. و لما لبثت أن فتحت ستائر َ الانتظار، و أخذت أراقب حضورها بنظراتي و بأمواج تصعدُ و تهبطُ ما بين الرضاء و الفرار.

حين دخلتْ، تقلصت مساحة الشكوى في ضلوعي، مسحتُ على جدائلها بزفراتي..ثم بأسئلتي..شعرتُ أنني أغتسلُ من مكابدات السفر الصعب.. لكن الوقت أشعلَ شموعه بيننا بسرعة حيَّرتني.. و هي تتعجل العودة إلى جذورها و أهلها في ضاحية العاشقين..خشيتُ أن تتركني على أيقاع أخطائي المتكررة.. و خفتُ أن أتركَ نفسي لقيود أثقل من رغباتي، لكني تذكرت كم كنت أتلهفُ على عطاء مواسمها من كلِّ مواعيدي...أتذكر و أتراجع، أجمعُ شيئاً حميميا في كياني، أبددُ شيئاً مع رياح التردد.

قالت "يارا" بصوت خجول ودود: سأبقى عندك حتى آخر النهار.. و مهما كانت النتيجة سأعود..

قلت لها: لو تبقين أكثر..كي أعرف أكثر و أقرر في هذا التيه صوتا..

  كما تريد... أنا لا أطالبك بشيء.

لم تكن قد ارتفعت موجات الظلام الأولى، لما استأذنت" يارا" دمي في الرحيل، مختصرة ساعات اللقاء في مفردات قليلة، و لما ألحّتْ في الذهاب، ساعدتها على ارتداء معطف كل الفصول و أخذتُ أجيل الطرف بين بطنها و توقعاتي، لكنها و هي تشد على يدي فضلتْ أن تنظر في عيني، قبل متابعة الطريق و الاختفاء بين الأشجار، لتقرب المسافة- كما تقول دائما- بين أشواقها و البيت.

أغلقتُ المكان خلف حلمي، و أصغيتُ إلى خطوات غزال تنزل الدرج..كنت أفكرُ، أيضا، في الخطوة التي تلي الاعتراف الذي لم يكتمل نتيجة لمخاوفي و تسرعي و قلقي كما قدَّرت..آنذاك.

كانت زهورها في أعماقي تتمنع عن البوح بكل أسرارها، كان الشذا يطوقني بصفاء تدانيها، و المكابرة تبعدني عن منطقة المكاشفة، و " يارا" تلوكُ الأسى، كي تتجنبَ احراجي في موقف حسبت فيه أن خيوط الارتباط مع البلاد أهم من أي ارتباط بأي قمر يتحرك مني في أحشائها..لذا كانت قوراب الصمت تمخر مياه الحب،دون أن تفصح عن حمولتها، و كانت الشاطىء ينأى كلما رغبتْ في الكلام...فأتظاهر بأني لم أفطن للأمر..فأواصل سيري على سطوح متحركة من العبث..بيننا تواصل "يارا" اهتمامها بأحزاني..

الآن أدرك بأنني ظلمتها مع مزاجية لا تحتملها فتاة سواها..ما كان ينبغي أن أحدثها عن تفاصيل النزيف في شموس و كواكب و حقول، بمثل هذه الطريقة، و أنا على سفر أتوق إلى وداعه بأوسع وثبة ممكنة..ما ذنبها و أنا من تجاهل نبتة الدفء، و كأنني لست من غرسها في أعماقها، و لأمضي كأنني لم أفعل شيئا..و كأنني لم أصرف شهرا كاملا في استمالة ربيعها إلى ضلوعي..شجرةٌ كبرتْ في حضوري و أثمرت لي وحدي لأنصرف عنها في هروب مستمر بين ذاكرتي و الهروب..

لم أنم تلك الليلة..أحسستُ بأنني أستغل خجلها كثيرا و اضغط عليها بمبرراتي كي أدفعها إلى التخلص من الجنين، و هي التي تدافع عن حبها بمحاولة فهم أسبابي و مواصلة السكوت..

طلبتها على الهاتف..أرسلتْ " يارا " طيرا في أسلاك المحبة..تابعته بأنفاسي، سرحتُ في سحره الملون، حاولتُ احتضانه، اختفى ثم عاد.. ليدخلَ من باب غرفتي المشرعة، حاملا بمنقاره صورة و خريطة.. وضعتهما فوق طاولتي الخضراء، بعد أن رماني بنظرة مُجنحة حزينة تعلن العتاب..

كم يشبهني.. يشبهني الطائر.... لكنه غاب..لم يترك لي فرصة لتفسير حرقتي في كلمات..

... أعدتُ الاتصال ثانية بالغالية معترفاً لها بغرسي..قالت يارا : كن مستعداً حتى يقبلك و هو فيك..يبحث عن فضاء.

أجبتها بصوت مجدول بالتوق، يخالطه الندم: و أنتما بي تبقيان..لكنه سيكبر مع أيامنا و سيلتحق بأجوائنا، و يتدرب مع صقورنا..

  و أنا معه..قريباً تراني في شمس النهار الآخر..

فتحتُ نوافذُ الاعتذار..لم أنتظر طويلا عندما رأيتها في باحة الدار، و بين يديها طفل جميل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى