الاثنين ٢٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
رَسَائلْ تتَحَدَّى النَّارَ والحِصَارْ·
بقلم إبراهيم سعد الدين

شَهَادَة الصُّمودْ.. في زَمنِ الهَوانْ

حين قَرَأْتُ زكيّة علاَّلْ· أوّل مرَّة داخلني الخوف؛ ذلك الخوف الذي يستشعره أحَدُنا وهو يتحسَّسُ جوهرةً نادرةً ثمينة مُتفرَّدةً في جمالها فيخشى أن تكون طفرةً من طفراتِ الطبيعة غير قابلة للتكرارْ. كان ما قرأته رسالةً من رسائلها التي تتحدّى النّارَ والحصار ـ ذلك الشكل الأدبيّ البديع الذي ابتكرتْه زكيّة ليجمعَ بين أدب الرسائل وفَنّ القِصَّة ـ وكان ما قرأته رائعاً واستثنائيّاً بحقّ، فكان خوفي مُبَرَّراً. لكنَّ رسائلها توالتْ على نفسِ الوتيرةِ من القيمة الجمالية والإنسانيَّة، فأدركتُ أنَّ هذه هي زكيَّة عَلاّل وهذا هو مستوى إبداعها الرّاقي وفَنِّها الأصيلْ، وأنَّه لم يعُد ثَمَّة موجبٌ للخوف.

قَبْل أن تَصْدُرَ هذه الرَّسائلُ في كتاب، نُشِرتْ تِباعاً في كثير من المواقع الإلكترونيَّة، وأحدثتْ صَدى واسعاً بين جمهور القُرّاء، ولَقِيَتْ تجاوباً غير مَسْبوقٍ مع مشاعر الناسِ وأحاسيسهم، بل إنَّ مُخْرِجَةً مصريّةً شابَّة أعَدَّتْ بعْضاً من هذه الرسائل إعداداً مسرحيّاً ونالتْ عنها جائزة أفضل عرضٍ مسرحيّ في مهرجان المَسْرح بالقاهرة. كيفَ استطاعت هذه الرسائل أن تُحْدِثَ هذا الأثَرَ البليغ في نفوس جمهورٍ تتَنَوَّعُ فيه الأمزجة وتَتَعَدَّدُ الانتماءاتُ وتتفاوَتُ مستوياتُ الثقافةِ والتَّفكير والتَّلَقِّي..؟! يَرْجِعُ ذلك ـ في تقديري ـ إلى جُمْلَةٍ من الأسبابِ بعضها ذاتِيٌّ يتعَلَّقُ بالخصائص والسِّماتِ الفَنِّيَّة التي تُمَيِّزُ هذه الرَّسائل، والبعضُ الآخَرُ موضوعيٌّ يَتَمَثَّلُ في الظَّرْف التَّاريخيّ الرَّاهن والمُناخ العربيّ السَّائد الذي شَهدَ مَخاض هذه الكتابة الأدبيَّة. فنحنُ نَعيشُ في عَصْرٍ تَراجَعتْ فيه قيمُ النَّضال والكرامة الوطنيّة والعِزَّة القَوميَّة لتَحِلَّ مَحَلَّها سياسة التهادنِ والمُساومة والتَّفريط في الحَقِّ تحتَ شِعار الاعتدالِ وثقافة السَّلام والتَّعايش مع الآخَر، حتى لو كان هذا الآخَرُ غاصِباً ومُعْتَدياً وسَفَّاحاً مُلَطَّخةٌ أياديه بدمِ الأطفالِ الأبرياءِ والنساءِ العُزَّلْ. في هذه الأجواء التي تُكَرِّسُ فيها النُّخبة الحاكمة سياساتها العاجزة وتُبَرِّرُ تَخاذلها المهين وتُرَوِّجُ لاستسلامها المَشين لإملاءاتِ العَدُوِّ وغطرسته وشروطه المُذِلَّة ـ تَجيءُ رسائل فاطمة ابنة المُخَيَّم الفلسطينيّ القابِضة على جَمْرِ الإباء والشموخِ والكبرياء، لتكون انتفاضَةَ الذَّاتِ العربية الحُرَّة، وصَرْخةَ الوجدانِ العَرَبيِّ الصَّامد والمُقاوم والرَّافض لصكوكِ الهزيمة والاسْتسلامْ. انتفاضَةٌ وصَرْخَة يَلْتَفُّ حول نَبْرَتهما الجسورْ أمانيُّ الكادحين في العَدْل، وأشواقُ المَقْموعين إلى الحُرِّيَّة وطموحاتُ الوطنيِّين للاستقلالْ. وقد استطاعت زكيَّة عَلاّلْ ـ بمَوْهِبَةٍ فَذَّة وحسٍّ راقٍ ووعْيٍ كاشِفٍ ومُضيء ـ أن تَبْتَدعَ هذا الشَّكْل الأدبيّ الفريد الذي يَمتزجُ فيه أدبُ الرسائل بفنون القَصِّ، ويَتَّسعُ إطاره لِكُلِّ خلجات الرُّوح ونبضاتِ الوَجَع وهواجس النَّفس وتَجَلِّيات الخيالْ، فجاءت رسائلها التي تَتَحدَّى النارَ والحصار قطعاً مُقْتَطعة من حَدائق الإبداعِ فِكْراً ورؤىً ولُغَةً وتَعْبيراً وتصويراً وقُدرةً على النَّفاذ إلى جواهِرِ الأشياء والأحداثِ ومحاورة الواقع واستنطاقِ الحاضِر واستشرافِ المُستَقْبَلْ.

في رسالة بعنوان (الجَنين المُتَمَرِّدْ) تقولُ فاطمة في رسالتها إلى زَوجها عبد اللّه المُسافِر سَفراً بَعيداً لا أحد يَعلَمُ أجَلَه غَيْرُ الله:

"اقتحموا خيمتي ذات صباح لا لون له.. عددهم لا يُحْصى .. وجوههم مظلمة كقطع من الليل .. أياديهم كانت تتحرّق شوقا لأن تقتل وتذبح وترقص نشوة على فوهة دمي.

نظروا إلى بطني المنتفخة وسألوني: هل أنت حامل ؟ أصحيح ما سمعناه ؟

قلت : ومتى كان الحَمْلُ جريمة ؟

تقدَّم مني أسْوَدُهم ونظر إليّ بعينين بارزتين أحسستهما تنهشان جسدي، ثم قال: ألا تعرفين أن الحكومة منعت الحمل لمدة خمس سنوات؟!"

وفي رسالةٍ بعنوان (اعْتِذارْ) تقولْ:

"وصلني احتجاجك هذا الصباح ..

تقاسيم وجهك الغاضب حركت ستائر خيمتي ..

صوت قلبك المفجوع دق على باب صدري.. أوجعني بنظرة عتاب

وصفعني بدمعة وألف سؤال:

أين أنت يا فاطمة ؟

رسائلك ـ أيتها المسافرة في دمي ـ كانت عزاء لي ..

حروفك ـ أيتها الراسخة في شرايين حلم تَحَنّط ـ كانت وطناً كبيرا وشامخا أحمله معي من منفى إلى منفى وأتدثر به في زمن الصقيع ..

كلماتك .. كانت شاشة كبيرة مفتوحة على جرح غزة ..

آهاتك المتجبّرة .. تجعلني أحس أنني وأنت مازلنا تحت خيمة واحدة ، بل تحت خيبة واحدة !!

لكن .. فجأة .. ما عادت تصلني رسائلك ..

ما عدت أشمّ عطر جراحاتك .

فهل انتصرت عليك النار وغلبك الحصار؟

أم طلّقت وفاءك لي ؟

أم أنك اغتسلت من ملامحي ودمي ؟

........

لا يا عبد الله ..

أنا ما نسيتك يوما ، ولا جرحا ..

ما نسيت أنك محور قضيتي ..

وكنت ـ دَوْماً ـ دفء خيمتي وأنك تكتب تفاصيل خيبتي، وترسم لوحات ضياعي في كل مطارات العالم .. وأنك من جعل دمي نكتة يقذف بها الكبار في وجوه الصغار !!

أنا ما نسيت أنك جرحي .. وجعي .. ألمي .

ما نسيت أنك زَوْجٌ مُحَنَّطٌ في دمي ..

نزيفي لك ما انقطع يوما ..

ورسائلي إليك ما توقفت لحظة ..

فعند عتبة كل ليلة مجنونة، أجلس عند مدخل فجيعتي اليومية .. أفترش لون الضياع على وجوه أطفالنا، وأكتب لك ببريق الخوف الذي يسكن عيونهم ..

أروي لك كل تفاصيل مهزلة غزة التي يحاصرها الجوع والخيانات الرسمية ..

لكن هذه الرسائل ما عادت تصلك، لأن المانع هاهنا.. في صدري .

رسائلي .. كانت قوية تتحدى النار والحصار، وتعبر الحدود والمسافات لتصلك .

لكنها أصبحت عاجزة أن تعبر صدري .. أن تتصدى لهذه النار المتأججة في قلبي وأنا أرى الوطن يُختزل في مدينة ..

في قرية صغيرة..

بل في شارع ضيق !!"

وتَمضي فاطمة في رسائلها تُؤرِّخُ لزَمَنٍ عَرَبيٍّ توالتْ فيه النكباتُ واتسعت الجِراحُ وسالَ الدَّمُ الغالي أنهاراً ـ مَرّةً بيدِ العدوّ ومرَّةً بأيدي الإخوة والأهل والعشيرة ـ رسائلُ تنفذُ إلى القلوب وتُدمي الأحاسيس والمشاعرَ وتَجْلو البَصائرَ وتَسْتَنْفِرُ الهِمَمَ وتَسْتَحِثُّ الضَّمائرْ.

شُكراً فاطمة.. شُكْراً زَكيَّة عَلاّلْ.. فقد جاءتْ رسائلُكَ رايَةً خَفَّاقة في زَمنٍ نُكِّسَت فيه رؤوسٌ وانحنتْ هاماتٌ ولانَتْ إراداتٌ وهانتْ أصْواتٌ وتَدَنَّتْ أيادٍ اسْتِجْداءً لبِعْضِ فِتاتْ. جاءتْ رَسائلُكِ صَوْتاً لِمن لا صَوْتَ لهم، وبُشارَةً بغَدٍ عَرَبيٍّ مُشْرقٍ من ليْلِ الألمِ والنَّزْفِ والجوعِ والمظالمْ، غَدٍ آتٍ لا رَيْبَ فيه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى