الاثنين ٢٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم توفيق الحاج

صبر..صبرا..صبرة

لو فكر أحدكم في زيارة أو مداهمة العبد الفقير..!!

سيجد أول من يستقبله عند مدخل البيت.. "الصبير"..!! وهو نبات ظريف مستأنس للزينة.. يختلف كثيرا عند ذلك"الصبر " المتجهم الغليظ الذي تعارفنا عليه منذ الطفولة في حواكير وحواري المخيم القديم، وغرس أشواكه الحادة والدقيقة في جلودنا وذاكراتنا وقت أن كنا نحاول مغافلته لسرقة "بلابيل أزهاره الصفراء أو ثماره الحمراء المكتنزة.

دهش إدراكي الصغير وانأ اسمع المرحومة أمي تكرر كلمة الصبر والصابرين،مع كل صلاة ومع التضرع والبكاء في كل حادثة تمر بنا، وكنت أتساءل..

أالى هذه الدرجة تحب امي ذلك النبات الفظ وتؤمن به..؟!!

بعد سنوات أدركت انها تقصد بالصبر شيئا آخر..!!

حاولت.. باميتها الفريدة وحنانها الفياض، أن تغرس في هذه الفضيلة،ولكنها لم تنجح تماما،لأن العامل الوراثي كان له رأيا مخالفا..!!

اكتشفت أني -رغم التمني،ورغم آخر كلمة أسرت بها إلي قبل وفاتها- لم أعد أطيق صبرا على مايمر بي من أحداث،وكلما أتذكر أن جيناتي الحساسة خذلتني وخذلتها،ابكي بصمت..!!

كبرنا وكبر معنا مفهوم الصبر والصبار،وأصبح الصبار بحلده المشمع وأشواكه التي تهزأ بالجفاف،في قاموسنا الشعري البسيط رمزا معبرا عن المقاومة والتحدي..!!

لا أدري لم يقترن شهر ايلول هذا في مخيلتي دائما بالصبر والصبار..

لعله الشهر الذي تباع فيه ثمار الصبر اللذيذة،والتي تستوجب حرصا عند أكلها،والا الاحتمال وارد لفضيحة مدوية..!!

أو لعله الشهر الذي تلوث يوما بدماء الأبرياء أهلنا الغرباء على يد عربنا الأشقياء في صبرا وشاتيلا..!!

أو لعله الشهر الذي يحل فيه كاملا شهر الصيام ضيفا عزيزا،وهو شهر الصبر والتقوى،والذكريات الطفولية الحميمة

أو لعله الشهر الذي تلوث قبل أيام بدم الأبناء من الأبناء..!!

نعم فالقاتل والقتيل من نفس الدم واللحم والدين والهوية..!!

في الماضي استهجنا أن يذيح الإنسان أخاه الإنسان، إلى أن رأينا ذلك في الثلاثاء الحمراء،ودير ياسين،وقبية،وكفر قاسم..!!

وفي الماضي القريب لم نكن نتوقع أن يقتل العربي أخاه العربي وبشكل أكثر شراسة وفظاعة، إلى أن رأينا ذلك في تل الزعتر،و صبرا،وشاتيلا..!!

وفي الماضي الأقرب..لم نكن نتصور وتحت أي مبرر حتى في أشد كوابيسنا أن يمثل الفلسطيني بجثة أخيه الفلسطيني إلى أن شاهدنا مرارا وتكرارا ذلك على ناصية نهايات الانتفاضة الأولى ثم في مزاريب ومجاري الثانية..!!

لقد أحزنني سقوط القتلى في الصبرة قبل أيام،كما أحزنني قبل أسابيع في الشجاعية،ولا أفرق مطلقا بين ابنين سقطا قاتل وقتيل في معركة ليست لهما،فكليهما ابناي والخاسر إياي،مهما اختلفت الأسماء والأهواء..!!

ولن يختلف اثنان على ان المقتتلين كليهما بحكم الحديث الصحيح سندا ومتنا في ضيافة جنهم خالدين..!!

قد يقنع قابيل نفسه بقتل أخيه هابيل،ويجادل ما شاء الله له أن يجادل من خلال مبررات وحجج يزينها لنفسه، أو يزينها له أخلاؤه،لكنه سيدرك طال الأجل أم قصر،انه ارتكب كبيرة ما بعدها كبيرة وان الجزاء يكون غالبا من جنس العمل..!!

عندما أقرأ خبرا يتكرر بين الفينة والأخرى عن مختطف من هنا أو هناك يموت تحت التعذيب الوحشي ويلقى على الطريقة العراقية في حاوية للقمامة أو على قارعة الطريق.. أكره نفسي كانسان وأكره زمني الذي أوصلني إلى هذا المآل،ويغمرني إحباط شديد من القادم،وأسأل ذاتي :

هل من درك ستقودنا إليه أقدامنا أسوأ من هذا الدرك المظلم والموحل والقذر..؟!!

..أتذكر بكثير من الحزن الممزوج بقليل من الأمل "جارسيا لوركا" ذلك الشاعر الاسباني اليساري الشهير الذي اغتالته الفاسية المجرمة يوما وبنفس الطريقة، ولكن في النهاية تبخر القتلة، وبقي القتيل..!!

قد أكون ساذجا إذا ما أصررت على حلم أن يستفيق الإخوة ذات صباح من فيلم الرعب الذي أنتجوه،ويصرون على أن نشاهده، ونعايشه،ونعاني منه،لكني سأظل أحلم..!!

لأنه لا بديل آخر إلا الموت كمدا..!!

كنا في طفولتنا نتشاتم صباحا ونتعارك ظهرا ونتصالح مساء عند رؤية أنوار مئذنة جامع "السنية"،أو عند سماع أول آذان المغرب،ونحن نهرول عائدين الى بيوتنا للحاق بوجبة الإفطار العامرة،وان لم يكن فعلى ضوء القمر،مع لعبة "بتحيا" أو " حدر بدر"..!!

يا لله..أعد لنا براءتنا ومحبتنا..

يا لله.. أنقذنا من أنفسنا..

يا لله..عليك بشهواتنا وأحقادنا..

ومادمنا قد أبحرت بنا خواطر الهم واللغة من باب الصبر الى باب الشعر فخير ختام لوجع الكلام ما قاله الشاعر أحمد مطر في ذات قصيدة عن الصبر والصابرين..!

" فألقينا بباب الصبر آلافا من القتلى..

وآلافا من الجرحى..

وآلافا من الأسرى

وهد الحمل رحم الصبر،حتى لم يطق صبرا..

فأنجب صبرنا صبرا..!! "

وان الله مع الصابرين..!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى