السبت ٣١ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم بسام الطعان

صديقي كولومبس

عند الأصيل تماما، اقتحم خلوتي بابتسامة عريضة وكأنه قد انتصر على فرقة الحزن المجوقلة التي كانـت ترابط في عينيه وبين حاجبيه الكثيفين، ولأن ابتسامته هذه جاءت بعد سنوات من الخصام مع الفرح, بالتحديد بعد أن تخرج من الجامعة ولم يحصل على فرصة عمل، خمنت أنه قد ربح الجائزة الكبرى، أو أن أمنيته قد تحققت واشترك في مسابقة المليون.

جلس فوق الأريكة وملأ الغرفة بفوضى الضحك، شوقني الفضول لمعرفة التحولات التي طرأت على شخصيته، فرجوته أن يشرح لي كيف تحول من السالب إلى الموجب وهو الذي كان دائما تسيطر عليه حالة خذلان وتذمر من كل شيء، لكنه ظل يبعثر ضحكاته من حولي، حتى انه كاد ينقلب على قفاه ويتدحرج مثل برميل فارغ.

بقيت أنظر إليه بذهول بعد أن سرق مجمل أفكاري، وسرق معها قسما كبيرا من موضوع القصة التي كنت اكتبها، وحين ظلت زوبعة ضحكاته مشتعلة، رجوته مرة أخرى أن يفــجر قنبلته, لكنه لم يفعل، فأدرت له ظهري وأفهمته أنني سأستمع إليه عندما يهدأ.

دخلت زوجتي وهي تحمل صينية الشاي، فهدأت نوبة ضحكه واعتدل في جلسته، ولكن ما أن خرجت حتى أزعجني مرة أخرى بعد أن خلع حذاءه ونشر رائحة سدت أفق الغرفة.

قال وهو يرشف الشاي ويبتسم:

ـ اكتشفت يا صديقي بعد كل هذه السنوات أنني كنت مخطئا تماما، ولم أعرف أنني امتلك نعمة كبيرة.. منذ الآن لن أفكر لا بالعمل، ولا بالمشاكل، ولا بالحياة، ولا بالمستقبل ولا بأي شيء.

ظننت أنه قد جن، أو أنه في طريقه إلى الجنون، فأنا أعرف أنه عاطل عن العمل ولا يملك قوت يومه.

ـ عن أية نعمة تتحدث؟!

ـ تلك النعمة، ألا تعرفها؟ قالها وهو يشير برأسه إلى جهة ما.

ـ سحب لفافة من علبة تبغي، أشعلها , نفث الدخان في وجهي، ثم أضاف:

ـ لنفترض أنك جائع ومفلس ومدين للبقال واللحام والخضري وتريد أن تتخلص منهم، فالأمر سهل جداً , ولا يكلفك سوى بضع كلمات تقولها وأنت تقف في الشارع وسط العيون، وتأكد خلال لحظات ستكون هناك"آكل شارب نايم".

ـ "لطيف".. أرجــــوك ارحمني من خزعبلاتك.. هل تريد أن تنام
هنا؟ أم أنك تريد نقوداً؟ قل ولا تخجل.

عاد إلى مرحه من جــديد ولم يعرني اهتماما، فما كان مني إلا أن خطفت كتاباً وحاولت أن أضربه به، لكنه غطى رأسه بيديه وظل يضحك.

تطلع إليّ وقال:

ـ أرى الحزن يتلألأ في عينيك، لماذا الحزن يا صديقي؟ الدنيا كلها لا تساوي مسماراً في حذائك.. لا تحزن لأن الحزن يخرب العقول والقلوب.

نهضت من فوري ورفعت صوتي في وجهه، وعلى إثر ذلك اندفعت زوجتي وهي تظن أن معركة حامية قد وقعت بيننا، وقبل أن تتفوه بكلمة سألتها:

ـ كم هو عدد عجائب الدنيا؟

وزعت نظراتها علينا بالتساوي وأطل الاستغراب:

ـ سبعة!

ـ لا، ثمانية، فعندما يطلب هذا من شخص ما ألا يحزن أو يتذمر

وهو الذي كان يتآخى مع الحزن فهذا والله من عجائب الدنيا.

خرجت زوجتي وهي تبتسم وتهز رأسها، أما "لطيف" فقال:

ـ بكلمات قليلة ستتخلص من الهم كله.. يا بلاش، وإذا..

ـ وإذا خرجت وتركتني كنت سأرتاح جداً.

ـ اتركنا مع الجد الله يخليك.. إذا أردت..

ـ "لطيف".. اسكت أرجوك وإلا سأرميك من النافذة.

هنا تلونت هيئته بألوان غير مريحة وسارت في وجهه كل جيوش الحزن والسخرية والتذمر وقال بغيظ واضح:

ـ ألا تعرف ما هي النعمة التي تحدثت عنها كل هذه المدة؟ هي أن
تشتم الحكومة وبعدها بدقائق ستكون ضيفاً عزيزاً في بيت خالتك.

أحسست لحظتئذ بحزن شديد على صديق انهالت عليه هراوات العذاب والبؤس والفاقة وربما الجنون أيضاً.

ـ إلى أين يا كولومبس زمانك؟ سألته حين نهض وأراد الخروج.

ـ إلى الشارع ومنه إلى أي مكان لا يهم.

ولم أستطع أن أمنعه من الخروج, فما كان مني إلا أن قلت بأسف:

ـ ولله في خلقه... وقصص قصيرة وروايات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى