الجمعة ١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم جوني منصور

صرخة الاسكندرية: «الوطن للجميع»

لم تفتح سنة 2011 أبوابها بفرح وبسمة في أعقاب التفجير الإجرامي الذي طال كنيسة القديسَين في الاسكندرية. ويبدو جليًّا أن مصر كانت على موعد مع هذا التفجير. فتحركت مصر وبقية الدول العربية ودول العالم لتعبر عن مخاوفها ورهبتها ولتطلق موجة من مشاعر وعواطف تجاه أقباط مصر خاصة ومسيحيي المشرق عامة. لن نجيب على السؤال: هل احتاج مثل هذا التحرك إلى سفك دماء بريئة؟ لكننا نود التطرق إلى تشخيص الحالة موضوعيا بالاستناد إلى أحداث ومواقف تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية وسلوكية، وإلى فهم كنه وجوهر التحرك العربي والإسلامي المتعلق بما جرى. وهل هذا التحرك صحيح أم أنه ظاهري ومؤقت؟

لا شك في أن عملية تشخيص الحالة تعود بنا إلى فهم التحولات التي حصلت داخل المجتمعات العربية في الشرق منذ قرابة قرن من الزمن وحتى يومنا هذا. لم تثر قضية مسلم ـ مسيحي علنًا إلا في نهاية القرن التاسع عشر، إذ عاش المسيحيون والمسلمون معًا وإلى جانب بعضهم البعض، وتعاونوا في كل ما يمكن أن يدعم وجودهم وبقاءهم، وفي أحيان معينة كانت تحدث إشكاليات بين الطرفين على صعيد أفراد أو جماعات صغيرة وضيقة الأفق، وتتشكل دائمًا فعاليات لتطويق مثل هذه الإشكاليات وتوفير حلول لها. حصل تحول في شبكة العلاقات بين الطرفين حينما ازدادت وتيرة التدخل الاوروبي الغربي الاستعماري بذريعة توفير حماية للأقليات المسيحية في لبنان ثم في العراق ومصر وسواها.

كيف جرى ذلك؟ لقد تعرضت الدولة العثمانية إلى حالات من الضعف والترهل مع نهاية القرن الثامن عشر واشتدت وتيرتها في القرن التاسع عشر. وللدول الاوروبية اطماع استعمارية توسعية كبيرة مع ظهور الثورة الصناعية وانتشار الفكر الكولونيالي التوسعي. ومن بين مركبات الاستعمار اللجوء إلى التفتيت المجتمعي والقومي والديني، وبالتالي إلى خلق نعرات طائفية ومذهبية وفتن على هذا الاساس. ومن ثم المناداة الاوروبية والغربية إلى تشكيل دويلات ومناطق حكم ذاتي للمسيحيين ولأقليات أخرى في الشرق الأوسط بذريعة حمايتها. وبالفعل تعرض لبنان وسوريا إلى فتن مذهبية في منتصف القرن التاسع عشر وارتفعت أصوات فرنسا وبريطانيا وروسيا مطالبة بحماية مسيحيي المشرق من كاثوليك وارثوذكس وغيرهم. ونجحت القوى الاستعمارية من تحقيق مشروعها التفتيتي في لبنان ولكنها لم توفر الحماية للمسيحيين فيه في المستقبل. وأدركت قيادات سياسية وفكرية مسيحية أن مشروع الغرب لن يعمل من أجل مصلحة مسيحيي المشرق مطلقًا، بل إنه احد أسباب تدمير النسيج الاجتماعي الذي جمع كل مواطني المشرق على تعدد دياناتهم ومذاهبهم وتوجهاتهم.

وعرف مسيحيو المشرق كيفية المساهمة في رفع شأن أوطانهم من خلال التعاون والعمل والعيش المشترك مع إخوانهم المسلمين، وتشهد على ذلك الحركات الفكرية والثقافية النهضوية في بيروت ودمشق والقاهرة وبغداد والموصل والقدس ويافا وحيفا وعكا ونابلس والاسكندرية وغيرها. ما كان يمكن للشرق العربي أن يبرز كقوة فكرية لولا القاعدة القومية العربية التي جمعت الجميع ودعمت وجودهم. أي أن المظلة القومية هي الضمانة الوحيدة للعيش المشترك. العيش المشترك أساسه تذوق المر والحلو معًا، والمشاركة معًا في كل أسس الحياة ومناحيها، وبناء مستقبل المنطقة معًا، وعدم وقوف طرف على الحياد ناظرًا إلى ما يجري عند الطرف الآخر. فالعيش المشترك الذي عرفته المنطقة عكَسَ صورة من الواقعية ونظرة نحو المستقبل.

أما التحولات التي بدأت تعصف بالمنطقة عامة وببعض الدول العربية خاصة، كانت جرّاء ابتعاد قطاعات واسعة من المواطنين أولا ثم المؤسسات الحاكمة عمّا يقرب ويوّحد هؤلاء في الوطنية والقومية الصرفة، حيث جنحت شرائح نحو التيارات الدينية المتشددة والتي تم تغذيتها بالمال(خاصة البترودولار) والسلاح والتكنولوجية الإعلامية من فضائيات ومواقع انترنت تحريضية، وبيانات وتصريحات إذاعية ومسجلة ، وانتشرت ظاهرة الفتاوى المتناقضة في كل مكان، وتهادنت حكومات عربية مع هذه التيارات إما خوفًا منها وعلى كراسيها، أو لمنع انتشار تيار قومي قد يودي بالنظام في نهاية الأمر. وهذا ملاحظ بقوة في الحالة المصرية، حيث سلك السادات أثناء حكمه طريق المواجهة الحادة مع الإخوان المسلمين، وميله الشديد نحو اسرائيل والولايات المتحدة. وزيارته إلى القدس في عام 1977 فجّرت معارضة قوية من مصريين كان من بينهم البابا شنودة الثالث الذي تعرض إلى مضايقات وملاحقات وفَرض عليه نظام السادات إقامة جبرية في دير النطرون. لكن البابا لم يعترض علنا على سياسات الحكومات المصرية اللاحقة، إنما بقي معترضًا بإصرار على زيارة السادات ونهجه، ولم يقم بأي خطوة فيها تأييد لعملية السادات مع اسرائيل إلى يومنا هذا.. ومال السادات إلى التقليل من التوجه العروبي لمصر، بل بالأحرى إلى إلغاء عروبة مصر. وبالتالي إلى إفساح المجال أمام التيارات الدينية لتنمو سرا، ثُم علنا. ووضعت هذه الحركات حدًّا لنظامه باغتياله في عام 1981، وبتأكيد ان مصر تبقى عربية الرؤية والحياة.

ولم تدرك القيادة المصرية بصورة جدية (أو الصحيح أنها أدركت ولاذت بالصمت) خطورة ما كان يجري من تغذية للحركات الدينية المتطرفة في مصر وفي غيرها، بل مالت إلى مسايرة هذه التيارات. أما الأقباط فوجدوا أنهم مهمشون، فزادوا من تهميش أنفسهم والتقوقع ضمن مؤسساتهم الدينية والخدمية على مختلف أنواعها. فباتَ في مصر شعبان، الأول مسلم والثاني قبطي. وتم إزاحة المصرين نحو إقصاء "مصريتهم" و "عروبتهم" جانبًا.

إن ظاهرة التباعد هذه التي أوجدتها السياسات التمزيقية الاوروبية والامريكية والظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية ومنهج عمل حكومات مصر وعدد من المؤسسات الناشطة، دفعت بقوى قبطية في الخارج إلى توجيه أصابع الاتهام مرارًا وتكرارًا إلى سياسات المؤسسة الحاكمة في مصر. ودفعت حكومات اوروبية والإدارة الامريكية إلى المطالبة بحماية مسيحيي المشرق وخاصة مسيحيي مصر. أما على أرض الواقع فتعرض أقباط مصر إلى ضيقات ، ومنعوا من تولي وظائف حكومية ذات أهمية، ووضعت عوائق وحواجز أمام مشاركتهم في الحياة العامة في مصر، وبالتالي تقلص حضورهم العام في مصر سواء في المؤسسات التعليمية أو الاجتماعية والثقافية والسياسية وغيرها.

وتعرضت مصر إلى مسلسل من الأعمال الإجرامية والإرهابية خلال العقدين الأخيرين، وخاصة مواقع قبطية حساسة في نجع حمادي والكشح وفي قرى جنوب مصر وفي الصعيد حيث تنتشر تجمعات قبطية كثيرة وغيرها. إضافة إلى مسلسل التهديد والترهيب والتخويف والتخوين، وكانت هذه مؤشرات حمراء للحكومة لتقوم بتقويم سياساتها تجاه الأقباط الذين هم مواطنو مصر ومن سكانها الأصليين وليسوا غرباء عنها مطلقا. لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، إلا أن الحكومة تلكأت وماطلت وأرخت يدها في القبض على المجرمين.
ما حصل في الاسكندرية حرّك مصر كلها، وهذه خطوة جيدة بالرغم من الألم الذي اعتصر قلوبنا جميعا لفقدان الأبرياء في الكنيسة ومحيطها. التحرك العام من رئاسة وحكومة ومؤسسات دينية واجتماعية وثقافية وسياسية تعبير صارخ عن حالة القلق والرهبة التي بدأت تسود مصر. أصبح الخطر في عقر البيت المصري. فاليد الخارجية تطال مصر. هكذا صرح مسئولون في مصر. فمن هي هذه اليد يا ترى؟ هل يجب الاكتفاء بالتعميم أم أن هناك حاجة ماسة إلى تحديد الجهة بالاسم؟ باعتقادنا أنه يتحتم على حكومة مصر أن تعلن من هي الجهة المسئولة التي تقف وراء هذا الحادث الإجرامي. الإشارة إلى "يد خارجية" فيه طمأنة إلى الجهة المجرمة بألا يذكر اسمها وأن تتابع عملياتها الإجرامية مستقبلاً. الإشارة إلى أن "رأس الأفعى في خارج مصر وأن ذيلها" هو الذي ضرب الكنيسة، هذا أيضا يندرج تحت مظلة التهرب من الإشارة بالإصبع إلى الجهة المسئولة.

ووعود الحكومة المصرية ومؤسسات أخرى بنهج طرق تجعل القبطي ابنًا لمصر كما المسلم هو في حد ذاته تحد صارخ وسور منيع للوقوف في وجه مخططات امريكا واسرائيل الساعية إلى تفتيت المجتمع العربي والإسلامي، ومن ثم تركه ومغادرة المكان.

إن الحادث في الاسكندرية يندرج بقوة وبعمق في شبكة العمليات الامريكية والاسرائيلية الساعية إلى تمزيق ما يوحد المنطقة من حركة قومية عربية ومن تفاعل سكان المنطقة عبر ميراثهم الحضاري الضارب في عمق التاريخ، وإلى خلق قوميات وإثنيات متناحرة ومتنازعة فيما بينها. لهذا، فإن الدعوة التي تطلقها الإدارة الامريكية وبعض الدول الاوروبية إلى توفير حماية لمسيحيي المشرق تندرج في صلب الفكر الاستعماري التفتيتي والتمزيقي. لهذا، على مسلمي العالم عامة ومسلمي المشرق خاصة الإعلان صراحة، كما جرى في الأيام الماضية ويجري إلى الآن، أن مسيحي المشرق ومسيحية المشرق جزء من هذا الشرق ولهم مساهمات تاريخية وحضارية لا يُستهان بها، وهم من مكونات المشرق الأساسية إذ بدونه لا وجود ولا بقاء لهذا الشرق. وعلى الحكومات ومنظمات العمل الأهلي العمل على بناء الإنسان العربي ذي القيم العربية حضارة وفكرًا وقومية، لأن مظلة القومية هي التي تجمع وتوحد وتُقَرّب، مع نشر فكر منفتح وعقلاني ومتسامح مؤسس على قيمة الإنسان والحياة. ولا يتوقف الأمر عند الجانب التنظيري، إنما يجب تطبيقه في مناحي الحياة كتغيير برامج ومناهج التعليم وكتب التدريس في مصر والدول العربية، بحيث تتطرق هذه إلى الاختلاف في الرأي وحرية العبادة وممارسة الشعائر الدينية والطقوس الاجتماعية ضمن نظام دولة علماني ومدني، وهذا يتيح الفرصة لأتباع الديانات الأخرى غير الاسلامية من عيش حياتهم بطمأنينة وهدوء وسكينة واستقرار. عندها تعود مسألة بناء الثقة المتبادلة بين المسلمين والمسيحيين على قاعدة "الدين لله والوطن للجميع".

وأخيرًا على المسلمين والمسيحيين من مواطنين ومؤسسات توفير كل ظروف العيش المشترك، لأن التاريخ يعلمنا أن هذه المنطقة تعرف كيف تداوي جراحها بدون أي تدخل خارجي مهما كان مصدره ومهما كانت معتقداته وتصريحاته، وتعرف المنطقة كيف توفر لأبنائها عيشا كريمًا مشتركًا أساسه المواطنة العربية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى