الجمعة ٢ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم محمد محمد علي جنيدي

صغيرتي إخلاص

سُبْحَانَ الَّذِي جعل لها مِنْ اسمِها نصيباً، أختي وصغيرتي إخلاص.

أتذكرُها، وكيف أنساها، فهي في خيالي كما هي.. مازالت أميرةَ ذكرياتي..

أتذكُّرُ جمالَها، فكلُّ شيءٍ فيها كان يبوحُ بعظمةِ خالقِه، حتَّى أنَّك إذا رأيْتَها تجدُ نفسَك مُسَبِّحاً لله تسبيحاً صادقاً عفويّاً بغيرِ أيِّ عناء.

فآهٍ من جمالِها بل وألْفُ آهٍ من صبرِها - نعم - هذه قصَّتُها معي وكأنَّما شاءتْ الأقدارُ أن تعتلي هذه الصَّغيرةُ عرشَ الصَّبرِ والجمالِ معاً.

أتخيَّلُها حينما كانتْ تنامُ على صدرِ والدي فلا يكادُ يتنفَّسُ من فرطِ حرصِه على راحتِها، فكم كان الرجلُ أيضاً جميلاً وكم كان سعيداً بذلك، ولِمَا لا وقد غَفِلَتْ عينُ صغيرتِه عن عناقِ الألمِ وصمتْ لسانُها قليلاً عن نشيدِ الآهِ وابتعدتْ بنومِها ولو لِلحظاتٍ عن سكناتِ العذابِ وغاراتِ الحياةِ، هكذا وَجَدَتْ - إخلاص- نفسَها بالحياةِ تعيشُ بنبضاتِ قلبٍ حائرٍ.. ينتظرُ قضاءَ ربِّه ما بين لحظةٍ وأخرى.

تراها تتألَّمُ ولكن وهي تتألَّمُ لا تفارقُ وجهَها ابتسامةُ الرِّضا - لا تشكو أبداً- تُرَى! هل كان السَّخطُ لا يعرفُ طريقاً لقلبِها المريضِ؟!

هذا القلبُ الَّذي بدا وكأنَّه قد وسع صبرَ الحياةِ فارتضى بكلِّ ما أنزله فيه ربُّه من حكمةٍ وقضاء - لا أدري والله - أم كان عذابُها ستراً لخلوةٍ دائمةٍ مع خالقِها العظيمِ والَّذي شاء بحجبِ حقائقِ الغيبِ عن أعينِ النِّاسِ إلّا لِمَنْ شاء من عبادِه وأذن له بعارفةٍ من عوارفِ علمِه سبحانه، اللهُ أعلم بأمرِها!

كان أخرُ عهدِي بها في الدُّنيا بشارةً من حروفٍ قليلةٍ.. قالتْ لي: لا تخفْ يا أخي فسوف تعودُ إلينا وسوف ينصرُكم اللهُ وتُنْهي حياتَكَ العسكريَّةَ سالماً أمناً فاثبتْ على الحق.

وقد تحقَّقَتْ بشارتُها بالفعلِ ونصرنا اللهُ وأنهيتُ حياتي العسكريَّةَ ولكنَّني لم أكُنْ أعرفُ أبَداً بأنَّني سوف أعودُ إلى بَلْدَتِنا يومَ رحيلِها عن الدُّنيا – وهكذا - أسرعتْ الأقدارُ خطاها إليها أو هكذا كان إحساسِي لهذه الصَّدمةِ حينئذٍ، ويظلُّ الأصعبُ عندي دائماً أنّ والدي قد تأثَّر لوفاتِها ومرض لِفراقِها مرضاً فتّاكاً - ومِنْ هُنا- غزتْ الظُّنونُ أوطانَ فكري ومعتقداتي ووجدتني أغرقُ في حواراتِ النَّفسِ وتتخبَّطُني قضايا القضاءِ والقدرِ وتتخطَّفُني نَزَغَاتُ الشَّيَاطِين وتسقطُ بي في ظلماتِ الضَّلالةِ وتساؤلاتٍ.. بحقٍّ يصعبُ على كثيرٍ من النَّاسِ الإجابةُ عليها إلّا لِمَنْ أُذِن له بعلمٍ مِنْ لَدُنِ اللهِ سبحانه وتعالى.. هكذا وعلى هذا النَّحوِ كِدْتُ أخلعُ لباسَ اليقينِ حتَّى حضرتني صغيرتي - في منامِي - وهي تُحَدِّقُ في عيني و تختارُ لي الطَّريقَ ثمّ تصطحبني فيه مسرعةً، وإذا بنا نقفُ معاً على أرضٍ فارغةٍ ولكنِّني لا أستطيعُ الإبصارَ فلا مكانَ لِشعاعٍ في الفضاءِ أو على الأرضِ، وقد غَيَّم علينا الظَّلامُ تماماً - وحينها - تَمَلَّكَتْني مشاعرُ الخوفِ و الهلعِ ولكنَّني رأيتُها رحمها اللهُ تضعُ يدَها الشريفةَ على عيني - وهكذا - أخَذَتْ تَسْحَبُها مُتَأنِّيَةً مِنْ على وجهِي - والمُفاجأةُ - أنَّني هنا بدأتُ أبصرُ آياتٍ مِن القرآنِ الكريمِ تَمْلأُ صفحةَ الأفقِ مِنْ خَلْفِ أصابعِها وتنشرُ الضِّياءَ في أركانِ الكَوْنِ المُعْتمِ وقد غزا نورُ الضِّياءِ عُيُونِي تماماً فرأيتُها جميلةً رائعةً كما هي - ولكنَّها هذه المرَّة- تصرخُ في وجهي قائلةً: محمد.. رَبُّنا موجود وأخذتْ تكررها وتكررها وتشحذُ بها أوصالي فانْطَلَقَتْ رجفةُ الإيمانِ تهزُّني هَزّاً وتطردُ مِنْ نفسي كُلَّ هواجسِ الحيرةِ والظُّنونِ وإذا بي أراني أُردِّدُ معها.. ربُّنا موجود.. ربُّنا موجود - وهُنَا - اخترق أذني صوتُ آذانِ الفجرِ وهو يُكَبِّرُ:اللهُ أكبر.. اللهُ أكبر.

فاستيقظتُ من منامِي وأنا أبكي وأستغفرُ اللهَ وأُرَتِّلُ قولَه سبحانه وتعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا) الأحزاب/36


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى