الأحد ١٣ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم عادل حمودة

صلاح نصر والمشير عامر والنسوان

 16-
وغاص المشير عامر الى شوشته

في أكتوبر 1956 – بعد حرب السويس – انضم الى المخابرات العامة . . فولدت الأسطورة.

في أكتوبر 1967 – بعد حرب يونيو – دخل السجن الحربي. . فانفجرت المأساة.

إنه صلاح محمد نصر النجومي. . وشهرته صلاح نصر.

إن مصر هي أرض النبوات والمعجزات.. لكن صلاح نصر أضاف: وأرض المخابرات أيضاً.

لقد أخرس حوار المقاهي. . وقهقهات التلاميذ وهم يعبرون الشوارع. .واشترى بالوعد والوعيد بنات الهوى ورجال القلم.. وجعل المبدعين في بلادنا يطفون على بحر من النميمة . . وجعل البشر العاديين يرددون ما قاله نزار قباني: يا ربي .. إن الأفق رمادي. . وأنا أشتاق لقطرة نور.. إن كنت تريد مساعدتي يا ربي.. فاجعلني عصفور.

في صيف 1976 رحت الى بيته في حي "مصر الجديدة" لأجري معه حواراً صحفياً .. تأملت كثيراً.. وسرحت بعيداً.. هل هذا هو "الرجل" الذي جعل الخوف عادة قومية مزمنة؟ ..هل هذا هو "الفك المفترس" الذي وضع وطناً بأكمله بين أسنانه وأنيابه؟

إنه يبدو مثل دب عجوز. .يلتقط أنفاسه بصعوبة وكأنه في حالة ربو دائمة. . فقد مخالبه. .لم يبق له سوى الخوف والشكوى.. والدفاع المميت عن نفسه. . وهو يحدثني عن يوم سقط في مكتبه مطعوناً في صدره بخنجر الذبحة. . وكيف نقلوه الى مستشفى "القوات الجوية" في العباسية. . وخوفه من القتل.. أو من الاختفاء وراء الشمس كما كان يفعل مع ضحاياه.. حتى إنه وقف كالمجنون في شرفة بالمستشفى ليصرخ في المارة.. إنه صلاح نصر. .وإنهم سيقتلونه. .لقد ذاق الكأس نفسه الذي شرب منه المصريون.

ثم . حدثني عن رجال الأمن الذين اقتحموا بيته وقلبوه رأساً على عقب وفتشوا دولاب زوجته وابنته، وأخذوا يفحصون ملابسهما الداخلية ووجدوا 70 جنيهاً أخذوها وتركوا البيت بلا نقود .. لقد جاء عليه الدور.

أصبحت فضيحته على كل لسان.. توالت الصحف والكتب التي تنهش سمعته . . ومدت السينما يدها لتأخذ نصيبها من الفضيحة. . وقيل أن خالد صفوان رجل الأمن في فيلم "الكرنك" – المأخوذ عن قصة نجيب محفوظ – هو صلاح نصر. .ولعب الدور في الفيلم كمال الشناوي . . واعترف صلاح نصر .. ورفع اعتراضه الى القضاء.. فعقدت المحكمة إحدى جلساتها في قاعة عرض "ميامي". . وكنت هناك أجلس مباشرة وراء صلاح نصر لأسجل انفعالاته. .واعترف أنه كان متماسكاً لا يهتز.

إن الفيلم يتحدث عن القهر، والتعذيب، والاغتصاب، وإجبار الشباب على كتابة التقارير الأمنية. . وكان السؤال الذي شغلني. . هل كنا نعيش هذا الكابوس فعلاً، ورحت لسنوات طوال أفتش عن الإجابة.

* * * *

في 8 أكتوبر 1920 وُلد صلاح نصر في إحدى قرى الدلتا. . والده مدرس . . وأمه توفيت وعمره 17 سنة. . تمنت أسرته المتوسطة الحال أن يصبح طبيباً لكنه فضل أن يدخل المدرسة الحربية ليتخرج ضابطاً.. ويدعي البعض أنه "كان يشكو من عقدة نفسية تجاه النساء زادت من انحراف سلوكه. .وترجع الى زواجه من زوجة عمه المتوفي عبدالله نصر والتي كانت تكبره بحوالي 30 عاماً وتعامله كتلميذ وكإبن من أبنائها فحول هذه العقدة الى إذلال لكل الناس خاصة النساء".

لكن صلاح نصر يقول:
  إنني لم أشعر بالنجاح في حياتي إلا بفضل زوجتي، وحينما واجهت المحنة كانت شجاعة واستطاعت أن تدبر نفسها.

وسأله الكاتب الصحفي حسنين كروم:
  ألم تنتب الشكوك زوجتك حينما قالت اعتماد خورشيد أنك تزوجتها عرفياً؟

قال:
  لم تشك زوجتي في يوماً فالعلاقة بيننا علاقة ثقة كاملة. . وحينما شاهدت صورة العقد المزيف تأكد من تزوير التوقيع باسمي.

في 23 أكتوبر 1956 استدعاه جمال عبدالناصر وطلب منه أن يذهب الى المخابرات العامة ليصبح نائباً للمدير. . وكان المدير علي صبري. . وبعد عدة شهور أصبح علي صبري وزير دولة. . وتولى صلاح نصر رئاسة الجهاز.

ولا جدال أن صلاح نصر جعل المخابرات المصرية مخابرات قوية، يحسب لها العالم ألف حساب. . لكن هذا الجهاز القوي جعل رجاله أقوياء. . وقد تجاوزت قوة بعضهم حدود العمل.. وامتدت الى خارجه.. فولدت ما أسماه جمال عبدالناصر فيما بعد بدولة المخابرات.

لكن . . صلاح نصر يقول: إن المخابرات هي المخابرات. . وينقل عن هانسون بولدوين قوله:
"إن نظام المخابرات الصحيح عبارة عن منشأة ذات إمكانيات هائلة لكل من الخير والشر، ويجب أن تستخدم كل الرجال والنساء وكل الوسائل، فهي رقيقة وشرسة، وتتعامل مع الخونة، والأبطال، وهي ترشو وتفسد وتختطف وأحياناً ما تقتل في وقت الحرب. .إنهاتقبض على قوة الحياة، والموتى، إنها تستغل اسمى وأدنى العواطف، وتستخدم في نفس الوقت الوطنية في أعظم معانيها والنزوات في أحط مداركها.. وهي تبرر الوسالئ التي تحقق أغراضها. . إن مثل هذه المنظمة ذات الأهمية العظمى، والقوة المخيفة يجب أن تصالح أمورها بكل عناية وأن يبقى عملها داخل نطاق مرن تبيح سير هذا العمل بكفاءة".

ويستطرد صلاح نصر:

إن رجال المخابرات لا يحظن بأدنى فخر عند نجاحهم وتنهال عليهم أشد اللطمات حينما يخفقون.

وجاء في البند الثالث من قرار اتهام صلاح نصر – في قضية انحراف المخابرات بعد الهزيمة – أنه ارتكب جنايات هتك باستغلال وسائل التصوير الفوتوغرافي والسينمائي السرية في استدراج بعض النساء والتقاط صور فاضحة لهن بطريق الخديعة في مكان أعد لهذا الغرض للتوصل بذلك الى تهديدهن والسيطرة عليهم ليتمكن من إخضاعهن لشهواته الخاصة.

وأمام المحكمة – التي يرأسها حسين الشافع ي- قال محامي صلاح نصر . . الدكتور علي الرجال: إن هناك فارقاً له وزنه، هو أنه لا يجوز الخلط بين العمل المباح وغير المشروع، فقد يكون العمل مباحاً ولكنه غير مشروع، كالدفاع الشرس مثلاً. .فهو في الأصل عمل غير مشروع ولكن القانون أباحه. . إذن فهناك فرق بين الإباحية والمشروعية .. وأولئك الذين يعيبون على المخابرات استخدام الجنس في أعمال التجسس أو أعمال السيطرة على العملاء، يقعون في الدرك في الخطأ، ذلك أنهم يتناسون هنا الفارق بين المباح والمشروع، وبين مصلحة الدولة التي يباح من أجل سلامتها كل شيء.

* * * *

في سنة 1963 تقرر تشغيل النساء في المخابرات المصرية. . اتخذ صلاح نصر هذا القرار بعد أن وجد كل أجهزة المخابرات في العالم تستخدم الجنس في عملها. .فالمعروف نفسياً أن الرجل يفقد توازنه وهو مع المرأة بل وقد ينسى نفسه ويتفوه بأحاديث سرية . .كان هذا مبرر استعمال سلاح الأنوثة في مصر. . ولكن هذا السلاح ذو حدين. . فقد ينقلب ضد من يستخدمونه، إذا لم يحسنوا استخدامه، فالمرأة بطبيعتها متقلبة العواطف، كثيراً ما تغلب أنوثتها على الواجب، وقد تصبح عميلة للطرف الآخر إذا ما وقعت في حبه أو غمرها بالمال. . وهذا ما قاله صلاح نصر لعبدالله إمام.. ثم استطرد:

"كان هذا من بين أسباب إحجامنا عن استخدام النساء في بادئ الأمر ولكن ظروف الأمن أجبرتنا على ذلك".

وأضاف:
"إن بعض الزوار الذين كانوا يحضرون هنا لمباحثات سياسية سرية على مستوى القمة يتصلون بنساء . . وفي اليوم التالي كانت أجهزتنا تأتي بكل أسرار المحادثات من أفواه هؤلاء النسوة اللواتي يرددنها في كل مكان. . ففكرنا أن يكون لدينا طاقم مدرب يمكن السيطرة عليه لا يفشي الأسرار. . هؤلاء اللواتي عملن معنا حصلن على تدريب أمن وفرق توعية، نجحنا بواسطتهن في عدم نشر الأسرار السياسية.. كان هذا أساساً هو المنطق الذي جعلنا نستخدم أسلوب النساء لكنه تطور بعد ذلك. . فكرنا في استخدامه في بعض قضايا التجسس.. ونجحت بعض النساء العميلات لنا في الكشف عن قضايا تخابر لم يكن في استطاعة الرجال أن يصلوا اليها.

* * * *

كان من بين الرؤساء الذين صُوروا في أوضاع خاصة الرئيس الأندونيسي الأسبق أحمد سوكارنو. . كان مولعاً بالنساء. . وكان يسقط في أحضان أي امرأة توضع في فراشه. .ولم يصور فقط في القاهرة، بل صورته المخابرات الروسية أيضاً في موسكو .. لكن . . عندما أرادوا ابتزازه وعرضوا عليه الصور الفاضحة، طلب نسخة منها ليأخذها الى بلاده وينشرها علناً.. ثم قال:
"سيكون شعبي فخوراً بي بالتأكيد".

فلم يتابعوا محاولة تجنيده.

وبعد هزيمة يونيو 1967، عرضت إسرائيل على الأسرى المصريين صوراً لمسؤولين مصريين وهم في أوضاع جنسية مخجلة، وكان المقصود تحطيم ما تبقى من روحهم المعنوية، وتحريضهم على السلطة السياسية.

* * * *

المشكلة ليست في استخدام النساء لخدمة المخابرات وإنما المشكلة في استخدامهن لخدمة الأغراض الشخصية تحت غطاء المخابرات. . ومواجهة الأعداء.. والدفاع عن الوطن.

وقد اعترف صلاح نصر بأنهم استعملوا 100 فتاة، وأنهم كانوا يلجأون لتصويرهن من باب السيطرة وخوفاً من تقلب عواطفهن.. كذلك اعترف بأن بعض الفنانات كان لهن دور. .لكنه لم يعترف بحفلات السمو الجنسي على طريقة الهنود.. أو على طريقة فتيات السنونو.. والعبرة في النهاية بما حدث.. الهزيمة. . وسقوط الأحلام.

* * * *

استمرت صداقة عامر وعبدالناصر 40 سنة . . منذ خدما معاً في منقباد سنة 1947 الى أن هزما معاً في سيناء سنة 1967. . ويكاد المؤرخون أن يجمعوا على أن هذه الصداقة هي نقطة ضعف نظام يوليو . . فقد خسر النظام في 6 ساعات ما كسبه في 15 سنة. . إنها ساعات الهزيمة التي سحقت سنوات الإنجاز. . ويقول محمد حسنين هيكل:

إن عامر نصف فنان، نصف بوهيمي، لطيف جداً، عسكري لا يصلح لقيادة جيش، تكفيه كتيبة . . ولم يكن يقرأ. . أو يتابع الجديد في فنون الحرب.. ولم يكن لديه الوقت ليكون قائداً للجيش. .لقد توقفت معلوماته العسكرية عند رتبة الصاغ.. ولم تزد معلومة واحدة حتى مات.

وقد راح عامر يدلل الضباط الى حد أفسدهم.. فتحول رجال مكتبه الى تجار ومهربين .. ففي 1966، كانوا يجيئون ببضائع وثلاجات وأجهزة تكييف وتليفزيونات من عدن عن طريق اليمن ويبيعونها في السوق السوداء في القاهرة وقتها أثار عبدالناصر الموضوع مع عامر.. قائلاً: "إنه لا يريد أن يدخل في هذه القضية بسلطته أو سلطة الحكومة حتى لا يحرج المشير، ولهذا فهو يطلب منه شخصياً تصفية هذه الانحرافات ومعاقبة المسؤولين عنها فوراً". . ثم قال عبدالناصر لعامر: "إنني أريد أن تأمر بنفسك بالتحقيق في هذه الموضوعات ولا أريد أن تتصرف بمنطق الصعيدي الذي يتصور أنه مكلف بحماية رجاله فهذا منطق مشايخ غفر لا يليق بك". (1)

وواضح أن عبدالناصر كان يعرف أن أسلوب عامر هو أسلوب العمد وشيوخ البلد، ومنطقه هو منطق الصعيدي والمصطبة. . لا هو أسلوب مؤسسة منضبطة لها تراث وتقاليد. .ولا هو منطق القائد الذي يلتزم باللوائح والقوانين. . إن فضيحة المشير كانت نموذجاً لأخطاء السلطة الأبوية في المؤسسة العسكرية.. وهي السلطة التي ضيعت الجيش في يونيو 1967 قبل أن تضيع أعصاب قائده. . بل إن الهزيمة لم تعلمه كيف يتخلص من هذا الطراز من السلطة. . فعندما اتفق مع عبدالناصر على الاستقالة، رشح شمس بدران أحد رجاله المخلصين ليصبح رئيساً للجمهورية. . إنه كان مستعداً لأن يُلدغ من نفس الجحر مرتين.

وبعد سنة – تقريباً – على فضيحة مكتب المشير . . انفجرت قنبلة زواجه السري من . . نفيسة عبدالحميد حواس، وشهرتها برلنتي عبدالحميد، وهي ممثلة سينمائية عُرفت بتقديم أدوار الإغراء والإثارة. . ولعل قصتها مع المشير صورة من صور الولاء للسلطة الأبوية.. إن الضباط يردون الدين للأب القائد.. إنه يمنحهم الحماية والمميزات، ويغفر الذنوب والتجاوزات، ولا بد أن يحصل على الثمن.. ولاء وطاعة وخدمات أخرى شخصية . .لا مانع.

والمعروف أن الذي دبر اللقاء الأول بين عامر وبرلنتي هو مدير المخابرات الأسبق صلاح نصر، في أواخر سنة 1960، وقد تطورت العلاقة الى زواج عرفي وقع عليه حسن ومصطفى عامر شقيقا المشير في أوائل عام 1965 . . وفي 20 فبراير 1967 – وحسب ما قاله هيكل (2) – قرأ عبدالناصر تقريراً كان بمثابة صدمة. . كان التقرير عن زواج عامر وبرلنتي، وأنهما ينتظران مولوداً نتيجة لهذا الزواج. . ورأى عبدالناصر أن ينتظر أياماً قبل أن يفاتح عامر في الموضوع. . حتى لا تملكه انفعالات الغضب وتصعب المناقشة الجادة في تصرف يصعب السكوت عليه.

وكان شعور عبدالناصر لأول وهلة أن عبدالحكيم عامر يجب أن يبتعد عن منصبه وما دام قد اختار أن يغلب ضعفه الإنساني على شعوره بالواجب فإن الأمور تقتضي حسماً، وقام عبدالناصر باستدعائه لمقابلته يوم أول مارس 1967، وكانت مشاعره مختلطة بين الأسى والغضب، فقد كان عبدالحكيم عامر أقرب الناس اليه منذ كانا في عز الشباب ضابطين بالقوات المسلحة، ثم خدما معاً في السودان قرابة عامين. . ثم كان عبدالحكيم عامر ساعده الأيمن في تنظيم الضباط الأحرار، وكان هو الذي يتولى الإشراف على شؤون التنظيم بما فيها الاتصال مع الضباط الذين انضموا الى صفوفه وكان عبدالحكيم عامر بطبيعته إنساناً ودوداً قادراً على كسب ثقة زملائه والاحتفاظ بودهم. . وليلة الثورة كان بجانب عبدالناصر طوال الوقت. . وفيما بعد ولصلته بتنظيم الضباط الأحرار، ولمعرفته الواسعة بهم، وبغيرهم من المتعاطفين مع الثورة أو الذين ساعدوا على قيامها واستقرارها – رقي الى رتبة اللواء وأصبح قائداً عاماً للقوات المسلحة وقد ساعده في هذه المهمة وتولى وزارة الحربية بعد شمس بدران.

ومع أن عبد الحكيم عامر لم يكن في أحسن أحواله أثناء معركة سنة 1956 إلا أن ظروف العدوان الثلاثي كانت تغلب على أعصابه، ثم إن تجربته في سوريا لم تكن ناجحة . . وبرغم ذلك فإن عبدالناصر كان دائماً على استعداد لأن يعطيه فرصة أخرى وكان عبدالحكيم عامر من ناحيته يشعر بهذه الحقيقة ومن ثم فإنه أصبح في بعض الأحيان حساساً بأكثر من اللازم.

وحين وصل عبدالحكيم عامر الى مكتب جمال عبدالناصر في بيته في منشية البكري فإنه أحس على الفور بأن هناك شيئاً غير عادي في الجو، وبدا من بعض تصرفاته أن لديه فكرة عن الموضوع الذي استدعى من أجله.

كان أسلوب عبد الحكيم عامر المعتاد عندما يوجه اليه أي تساؤل عن تصرف من تصرفاته أن يبدأ بإثارة زوابع صغيرة ويتخذ مظهر الغاضب المجروح المعتدى عليه، وهكذا عندما سأله جمال عبد الناصر في موضوع زواجه السري بدا غاضباً ومتألماً وقائلاً: "إنه سئم هذه الحملات الموجهة ضده والتي تثور من وقت لآخر وإنه لم يعد يطلب غير أن يبتعد وإنه يفضل أن يعود الى قريته "أسطال" بالمنيا ويعيش هناك فلاحاً عادياً، يزرع ويقلع ولا يكون نائباً لرئيس الجمهورية أو نائباً للقائد الأعلى للقوات المسلحة. . وانتظره جمال عبدالناصر حتى أفرغ ما لديه ثم كان تعليقه أن كل ما سمعه من المشير خارج الموضوع، وأن سؤاله كان سؤالاً محدداً، وليست هناك جدوى من تجنب الرد عليه مباشرة. . وهكذا هبط عبدالحكيم عامر فوراً من الغضب الى التظاهر به دفاعاً عن النفس، واعترف بعلاقته مع السيدة برلنتي عبدالحميد، ولم يجد ما يبرر به تصرفه سوى أنه وجد أخيراً إنسانة تستطيع أن تفهمه.. وكانت الدموع تلوح في عينيه وهو يحاول أن يكتمها.. ثم لم يتمالك نفسه وراحت دموعه تجري على خديه في صمت. . وسأل جمال عبدالناصر عن الظروف التي تعرف فيها عليها. . وكان رد عبدالحكيم عامر أنه تعرف بها عن طريق صلاح نصر. (2)

لم يبتعد عبدالحكيم عامر عن منصبه كما أراد.. وكان ما كان في يونيو 1967. .وفي تلك الأيام السوداء جرى لقاء بين عبدالناصر وصلاح نصر. . يمكن تلخيصه على النحو التالي: (4)

صلاح نصر: صدقني يا سيادة الرئيس إنني أحاول بكل جهدي أن أساعد على حل مشاكل كثيرة دون أن أزعج سيادتك.

عبدالناصر: مشاكل إيه؟

صلاح نصر: إنني كنت طوال الوقت أخشى من انفلات عبدالحكيم عامر الى تصرفات لا تحمد عواقبها.

عبدالناصر: إنك أنت شخصياً أحد المسؤولين عما جرى لعبد الحكيم عامر. . إنه كان قطة مغمضة حتى توليت أنت فتح عينيه في مالم يكن يجوز أن يتورط فيه.

صلاح نصر: أقسم لك أنا لا ذنب لي فيما تورط فيه عبدالحكيم عامر.. إنني أعترف بحقيقة أنني أنا الذي قدمت اليه برلنتي، لكن لم أكن أتصور أن تصل الأمور الى هذا الحد.
عبدالناصر: لماذا أخفيت الأمر عني وأنت مدير المخابرات العامة؟

صلاح نصر: لقد تصورت أن المشير سوف يفوق بعد وقت قصير، وينتهي الأمر وننسى الموضوع كله. . لكن ما توقعته لم يحدث، وغاص المشير في ورطته الى شوشته.

عبدالناصر: هذا لا ينفي أنك أخطأت؟

صلاح نصر: إن عبدالحكيم عامر كان تحت ضغط عنيف في ظروف بداية النكسة. . فقد أنجبت برلنتي منه طفلاً وراحت تطالبه بأن يعلن زواجه منها لكي تجعل وضعها في المجتمع محتملاً. . وكانت على استعداد لأن تذهب الى أسرته وتشرح موقفها وتطلب قبولها في الأسرة بحق الشريعة التي لا تحول بينها وبين هذا الطلب.

ووُلد الطفل والبلد مهزومة، ولم ير والده، الذي ذهب الى الموت بقدميه.. ولم يبق من القصة سوى نهايتها الحزينة . . السوداء.. التي دفعنا جميعاً ثمنها.

لقد بدأنا بمشير.
وانتهينا بمشير.
وسبحان من له الدوام.

1) هيكل – الإنفجار – 1967 – ص 395

2) المصدر السابق – ص 394

3) المصدر السابق – ص 394

4) المصدر السابق – ص 875

عن كتابه حكومات غرف النوم


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى