الأحد ٢٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
القشعريرة
بقلم محــمد أنـقار

صورة من رواية (واحة الغروب) لبهاء طاهر

قال الفيلسوف الدانمركي سورن كيركيجور في كتابه "الخوف والقشعريرة":

«الاستسلام اللا متناهي هو المرحلة الأخيرة التي تسبق الإيمان ومن لم يمر بهذه الخطوة لا إيمان له»

كذلك حال المتصوفة ورجال الفكر العميق وأصحاب الأحاسيس المرهفة تراهم يصلون في المواقف المتعالية إلى درجة الاستسلام اللانهائي التي قد تعني الذوبان في الموقف، أو المشاركة الوجدانية المطلقة، أو حتى الفناء في الطرف الآخر.

والحق أن للقشعريرة طعما خاصا في السياقين الفلسفي والصوفي. بيد أنها لا ترتبط ضرورة بهذين السياقين فحسب. وتقدم لنا الحياة ذاتها وباستمرار مواقف تتجلى فيها القشعريرة عيانا، ويمكن إدراكها بالملموس. ولقد صادفت في مناسبات شتى بعض الذين يقشعرون من عامة الناس، أولئك البسطاء الذين لا يمارسون فكرا متعاليا أو يلبسون خرقة المتصوفة. من ذلك لقائي مصادفة أحد المعزين في "باب المقابر بتطوان" أعرب لي عن مدى تأثره عقب عملية دفن. قال بتأثر باد:

«- انظر إلى جلد ذراعي وقد غدا مثل جلد دجاجة!"

وكان حال جلده كذلك على الرغم من أن المتكلم لم يكن من أهل الثقافة بمفهومها المخصوص. وفي مناسبة أخرى صادفت في شارع شبه خال أستاذا أعرفه بانغماسه العظيم في عالم الهموم راح يشكو لي ويصوّر بعضا من لوعات معاناته. وبينما نحن كذلك رأى قطة صغيرة هزيلة الجسم تئن قريبا من سطل قمامة. وتوقف الأستاذ عن الشكوى ثم صب كل اهتمامه على القطة المتألمة. قال لي:

«- أنا لا أستطيع تحمل هذا الأنين. انظر إلى جلدي.. »

وقد كان جلده بالفعل مقشعرا.

تلك عينات من أحاسيس القشعريرة في مجالي الفلسفة والحياة. ومن المؤكد أن يكون ثمة فرق في تلقي تلك الأحاسيس في المجالين المذكورين. في الفلسفة المكتوبة تهيمن برودة الحكمة، وفي مواقف الحياة تسري في الكيان مشاركةٌ وجدانية مفعمة بالحميمية. وأفترض بعد هذا وذاك أن يتخذ الإحساس طابعا مغايرا، إلى حد ما، إن هو ورد في سياق إنساني آخر مثل الرواية. وسندي في هذا الافتراض تلك الصورة التي قرأتها ضمن آخر عمل صدر للمبدع بهاء طاهر. ويتعلق الأمر برواية "واحة الغروب"التي لم تخل هي الأخرى من لوحات تأملية استمتعنا بمثيلاتها في روايات سابقة للمؤلف نفسه؛ من قبيل "قالت ضحى"، و"الحب في المنفى"، وخاصة رائعته "نقطة النور". وسأورد فيما يأتي نص الصورة بكامله على الرغم من طوله حتى يتسنى للقارئ الكريم التشبع بكل التفاصيل والتأمل في دقائق التعبير. تقول الصورة:

«صاح البدوي بالجنود ألا يسمحوا لإبراهيم بأي حركة قبل أن يلتقط المسمار من النار بسرعة ويكوي به الموضع الذي اختاره لثوان ثم موضعا مجاورا له لثوان أخرى وسط صراخ إبراهيم وعويله وقال البدوي بشئ من الاستغراب:

كل الرجال يبكون ويصرخون!ماذا تساوي هذه النار جنب نار جهنم؟

لكن هل أحلم أنا؟ هل جننت؟ هناك نار تكوي جلد ساقي في موضع كي إبراهيم نفسه، ارتجفت وأدرت وجهي واضعا يدي على فمي لكي لا أصرخ مثله.

كانت رائحة اللحم المحترق تملأ المكان قبل أن يخرج البدوي من ثيابه قارورة في جراب جلدي صبّ منها سائلا على مكان الكيّ سمعت له هسهسة متكررة ثم رأيته يكوّن زبدا أبيض فوق موضع الحرق. وسرت لحظتها في ساقي وفي جسدي كله قشعريرة برد وأنا أبذل جهدا لكي أتماسك أمام جنودي.

انتظر البدوي لحظة ممسكا بساق إبراهيم الذي تحولت صرخاته إلى أنين ألم متصل وعندما جف السائل الذي وضعه بدأ يربط مكان الكي بضمادة، وكان يرد على سؤال للشيخ صابر قائلا:

لا، لن أحضر مرة أخرى، راشد يعرف ما يجب عمله بعد ذلك لتنظيف الجرح، والشاويش سيمشي على رجليه بعد يومين....

ثم أكمل بضحكة عالية: ولكنه سيعرج طوال عمره!

غمغمت: لو لم تقلها!

لكني ظللت واقفا في مكاني، واثقا أني سأعرج لو تحركت.

ظللت يومين أمشي في المركز والمنزل بخطوات بطيئة لكي لا يلاحظ أحد شيئا، ثم تحسن الألم في ساقي، وبعد هذين اليومين قام إبراهيم بالفعل من الفراش وبدأ يمشي وهو يعرج على ساقه التي لم ير لها الممرض وكاثرين حلا سوى البتر» .

لكي تتحقق عملية التمعن بعمق أكبر لا بد من إيجاز الحديث عن السياق النصي للصورة. ويتعلق الأمر بمأمور الشرطة محمود عبد الظاهر الذي سيسافر إلى واحة سيوة جنوب مصر صحبة زوجته الإيرلندية الأصل كاثرين. سيصادف الزوجان هناك صعوبات جمّة وانشطارات ذاتية ستفضي إلى مصير مأسوي. وعندما كانت كاثرين في المعبد الفرعوني المحرم عليها من لدن أهالي سيوة؛ سقطت صخرة وتدحرجت وكادت أن تودي بحياة الصبي محمود بن راشد الممتن كثيرا للمأمور، لكن الصخرة أصابت ساق الشاويش إبراهيم المخلص لمأموره. ومرت أيام تعفن بعدها جرح الساق فأوصى الممرض وكاثرين ببتره، لكن المأمور تشبث بأمل العلاج التقليدي. وتصف الصورة السابقة لحظات تنفيذ العلاج من قبل حكيم بدوي.

لن تخفى عن القارئ المتأمل في تلك الصورة نية الراوي في البحث عن أكبر قدر ممكن من الحيل التعبيرية من أجل أن يُبقي المشهد أمامه أطول مدة ممكنة. ثمة أولا حيلة التناوب على الخطاب بين المعالج البدوي والراوي ذاته. وثمة ثانيا أساليب الاستفهام والتعجب والحوار والسخرية اللطيفة. وثمة ثالثا تعمّد الأسلوب التقريري المباشر الطاغي بدل المجاز والبديع، وهو تعمّد مألوف في العلميات التصويرية لدى بهاء طاهر. وثمة رابعا كم آخر من أساليب المناجاة، والوصف المتأني، والتسلسل في تقديم التفاصيل، وما إلى ذلك من الحيل التعبيرية التي لا بد لها أن تطول قائمتها إن نحن قصدنا إلى تسميتها جميعا. ولكن مادام النص الروائي لا بد له أن يمتدّ، ويتشعب، ويتعقد؛ لزم آنذاك أن تنتهي عملية البحث عن الحيل إلى غاية. وليست ثمة غاية أخرى لدى الراوي أكبر من جعل القارئ يصاب بدوره بعدوى القشعريرة. واضح أن الحيل التعبيرية المشار إليها إنما قد تعني نقديا الأسلوب التصويري، أو تعني كذلك البلاغة ذاتها. ولكن مهما اختلفت التسميات تظل هناك عملية تصويرية تقصد إلى العناية بالتفاصيل، وزوايا النظر وصيغ الأشياء وأشكالها. ومامن شك في أن كل ذلك هو جوهر مطلق الصور: الصورة الفوتوغرافية، والتمثال، والصورة السينمائية، والأيقونة، والصورة الإشهارية. بيد أن الصورة الروائية تظل نسيج وحدها بين كل تلك الأنماط التصويرية. إنها تصبو إلى الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الحيل التعبيرية استحواذا يتجاوز بمراحل تقديم الصورة في الفلسفة، والصورة في القصة القصيرة، والصورة في السرد التاريخي، وحتى الصورة في الحياة ذاتها. ويلزم هنا أن ننبه إلى أننا لسنا بصدد المفاضلة بين هذه الأنماط من الصور وأساليبها، وإنما القصد تبيان المدى الذي يمكن أن يبلغه كل نمط من أجل التأثير في المتلقي. ولا بد من الإقرار في هذا الصدد بأن المشاركة الوجدانية في الحياة ذاتها بين كائنين بشريين لا يمكن بتاتا أن تقارن بتلك المشاركة التي تصبو الرواية إلى تجسيدها بالكلمات المكتوبة على الورق. ومع ذلك يظل النزوع الروائي من أجل مضاهاة الحياة أو منافستها مطمحا جميلا يكشف عن جانب من جوانب السمو الفني لدى الروائي.

المأمور محمود عبد الظاهر ليس رجلا شاعريا، ولا حالما، ولا رومانسيا. إنه خليط من الرقة والصلابة.ولا أدل على ذلك من مواقفه تجاه أهالي الواحة وتجاه كل من صادفهم في حياته. صحيح أن نواياه تجاه الآخرين تتسم بالطيبوبة والدماثة. لكن سلوكه في العمق هو سلوك كائن بشري لا يتميز بلون مزاجي واحد دون سواه.

في ظني أن "صورة القشعريرة"تجسد أبرز مشهد تتحقق فيه المشاركة الوجدانية خلال الرواية كلها. صحيح أن رواية "واحة الغروب"تتحدث عن نساء أحبهن محمود حبا عميقا، وعن شخصيات تعاطف معها عميقا مثلما تتحدث في صفحتها الأخيرة عن تفاصيل ما قبل موته إثر انفجار الديناميت، لكن مع ذلك تبقى "صورة القشعريرة"مفعمة بالتفاصيل التصويرية التي تصبو إلى رصد حالة من الانصهار الإنساني بين كائنين بشريين انصهارا شبه تام. لقد احترق إبراهيم واحترق محمود مثله، وتألم إبراهيم فاقشعر لألمه محمود، وعرج إبراهيم وعرج محمود مثله ولو لمدة قصيرة. كذلك قصدت الصورة إلى تحقيق المشاركة الوجدانية بواسطة القدرة على الإيهام.

لقد أحب محمود كاثرين لكن حبهما فشل وقد توهما ذات يوم أنه سيظل حباً خالدًا. كما أحب أختها فيونا من دون أن تكون ثمة فسحة روائية من أجل أن ينتعش ذلك الحب فيونع ويثمر. وقبل كاثرين وفيونا كان محمود قد أحب العبدة "نعمة" المشتراة من سوق النخاسة التي لم ينسها أبدا وإن لم يرتبط مصيره بمصيرها. أما ساق إبراهيم المكوية فقد مثلت بالنسبة إليه تجربة إنسانية حقيقية أبحر على إثرها في دنيا الألم من دون أن يكون ثمة لا ندم ولا وهم ولا فشل. ولقد عاش المأمور محمود تجربة الكي حقيقة وليس وهما. وأبرزت "صورة القشعريرة"عمق تلك التجربة بفضل حشد التفاصيل والحيل التعبيرية. والحق أن العمق الإنساني عندما يتحدى المبدع الروائي لا يفضل له آنذاك سوى الحيل والمراوغة الفنية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى