الجمعة ١٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٢
بقلم عبد الكريم المحمود

صَغارة الطغاة

الهي تعاليتَ أن تُجحدا
وأنت أحقّ بأن تُحمدا
فمَن للعليل المسجّى اذا
تحيّر راقوه واستنجدا
ومن للغريق الوحيد اذا
تغشّاه يمٌّ ومدّ اليدا
ومن للسجين على ظالم
قد احكم للسجن ما شيّدا
فمن ذلك السجن نجّيتني
الهي،وكنتُ صريع الردى
أحاط بي القيد مستحكماً
وهاض جناحيَ ظلم العِدا
رمونيَ في قعر زنزانة
جريحاً ضعيف القوى مُضهدا
فألقت عليّ بجدرانها
وقد أوشك السقف أن يسجدا
بها القيظُ أوقد نيرانه
وفارتْ، فوا حرّ ما أوقدا
وما يطفئ الحرَّ سيل الحميم
تدافع في جريه حافدا
وصار الهواء عزيز المنال
تُهين له الدرّ والعسجدا
فليس اليه سبيل سوى
فروجٍ عدتْ بابها الموصدا
كأن على صدريَ المستبى
لأنفاسهِ جبلاً راكدا
أبيتُ وتحتيَ أحجارها
فراشاً عصيّ السدى جلمدا
وأصبح كالجذع لا أستطيع
حَراكاً اذا رمتُ أن أقعدا
وفيها الصباح يُرى كالمساء
لقد عشقت ليلَها السرمدا
فما يجرؤ النور أن يدّني
اليها وآثر أن يبعدا
أسامر ظليَ من وحشة
وما كان للظلّ أن يُسعدا
وإن هبط الليل فوق الأنام
وصاروا بأحضانه هجّدا
تناهى إليّ رنين الحديد
تدوّي مزاليجه بالصدى
وعولةُ مهتوكة المؤمنات
تضجّ الى ربها بالنّدا
وآهاتُ منتهَك المؤمنين
يبيت الدنيئ له جالدا
وأصغيتُ أسمع صوت الأنين
يخالطه الشتم إن رُدّدا
فأمسح خدّيّ من عبرة
وأُرجع في الصدرما صعّدا
وأمسك قلبي على جمرة
من الحزن هيهات أن تبردا
وصالت يد الاثم مزهوّة
وهزّت مغاليقها الركّدا
فأبصرتُ وجها يمجّ العبوس
تمعّر بالحقد مستوقدا
وآخر أهوى لعينيّ مستشيطاً بعصبهما حاردا
فما عدتُ أخلج طرفيهما
وعاد الضيا حالكاً أسودا
وعضّ على معصميّ الحديد
بغلٍّ تقعقع واستحصدا
وسرتُ أُدفّع في الظهر لا
فكاك ويُجذب مني الرِّدا
وإما عثرتُ فطعنُ السباب
الى اللطم سيفان قد جُرّدا
وأدخلتُ في عصبة كالكلاب
تهرّ وتفترس الوافدا
فبعضهمُ هزّ قضبانه
وبالسوط بعضهمُ أوعدا
وضجّوا لسكرٍ فلا عاقلٌ
تراه وتسمعه راشدا
وقام على رأسهم فاجرٌ
يكيل من الشتم ما عُوّدا
تفنّن في الفسق والاعتداء
فأمسى على جمعهم سيّدا
اذا قلتُ حقاً نزا غاضباً
وزمجر في غيظه مزبدا
فتنهال فوقيَ نار السياط
تتابع في وقعها كالمُدى
وأُركل بالرِجل عند الحشى
وتُدمي عصيُّهم الساعدا
وأقسم سيدهم حانقاً
بصورة طاغٍ له استعبدا
بأنْ سوف يهتك عرضي ويستبي الأختَ والأمّ والوالدا
فذكّرته الله ثم النبيّ
وخير الائمة أن يرشدا
فسبّ الاله وسبّ النبيَّ
وسبّ أئمتنا عاندا
وصال بحقد على أخمصيّ
يجلجل في غيظه مرعدا
فصوّب سوطاً له يابساً
عصياً لدى غمزه جلعدا
يفرقع في ضربه، ناره
تكاد لها الروح أن تُفقدا
فوالاه حتى سقاه الدماء
وحتى ارتمى منهكاً مجهدا
فما نال منيَ ما يبتغي
ولم أنطق اسماً له واحدا
وآب لدى جمعه خائباً
يحرّق أُرّمَه كامدا
أبى الله أن أوذيَ المؤمنين
وأجعلَ أرواحهم لي فِدى
وهيهات أن أعطي الكافرين
معاول تهدم صرح الهدى
فلما تقضّت ليالي العذاب
وكنت على حرّها صامدا
وخاب الأراذل واستيأسوا
وأصبح ما أمّلوه سدى
وعادوا بخفّي حنين وصارسيدهم مبلساً أكبدا
تناهى لأوراقه مغضباً
فسطّر فيها هوىً فاسدا
أكاذيبَ ما قلتُها خطّها
وبات على صوغها جاهدا
فزوّدها حاكماً ظالماً
أطاع فلم يعدُ ما زُوّدا
وُقفتُ عليه فما شامني
وقد تاه في كِبره ماردا
يقلّب أوراقه عابثاً
وكان بكرسيّه مائدا
يهوّم قد بان في طرفه الفتور ويوشك أن يرقدا
لقد بات في الخمر والمنكرات
فأصبح عن لبّه شاردا
أخبّره أنهم سطّروا
أقاويل لستُ لها قاصدا
فيضحك مستكبراً هازئاً
ويزجرني طاغياً حاقدا
ووافق ما رامه مدّعيه
بأني أُجرّع كأس الردى
فظن البغاة بأن الحياة
وأن المماتَ لهم أُسندا
وما علموا أن سرّيهما
لمن خلق الحيّ والهامدا
فلا موت الاّ باذن الاله
وإن كان كيدهمُ حاشدا
وأُلقيتُ في سجنهم بانتظار قتلي ولا أجد العاضدا
فناديتُ ربي مذلّ الصعاب
وجاعلها صفصفاً ساجدا
بأني تكأدني الحادثات
وأنت المؤمّل والمجتدى
فأنت على كشفها قادر
وبحر عطائك لن ينفدا
فدونك كل شديد المراس
ودونك كل عظيم الندى
وإن بلغ الجهدُ مني فلن
ترانيَ إلاكَ مسترفدا
فسبحان من فلّ صُمّ الحديد
وفكّ من السجن ما عُقّدا
وحطّم كل قيود العتاة
عني وأحلامَهم بدّدا
فلم يُغنهم حائط مغلظ
تنقّوا له الحجر الأصلدا
ولم يغنهم مجرهدّ الحديد
تضافر معتضدا مصمَدا
ولم يغنهم رصَد في المراقب قد عوّدوا العين أن ترصدا
ولم يغنِ سوران من شائك الحديد على الأرض قد وطّدا
ولا حرسٌ طائف بالسلاح
على سجنهم قلّ أن يقعدا
ولا ما استعانوه من حارس الكلاب وأنكرها مشهدا
فأحمد ربي الذي قادني
وجاوز بي كل ما جُنّدا
وأخرجني من وهاد الظلام
وكنت الى قعرها مُصفَدا
فأصبحتُ رغم أنوف الطغاة
الى نور حريّتي عائدا
وأصبحتُ أنظر هذا الوجود
وأشعره الآن قد جُدّدا
كأنيَ ما عشتُ من قبلُ فيه
ففي كل شئٍ أرى مولدا
وأحمد ربي على أن بلى
بيَ قوماً ومذهبَهم أكّدا
فبان النفاق وبان الرياء
وكلٌّ بمعدنه قد بدا
ليالي مرّت كحدّ الحسام
عليّ بمشهدهم مفردا
وحيداً يطاردني الظالمون
ولست أرى دونهم مقصدا
وضاقت بي الأرض واستغلقت
فما مدّ أقربُهم لي يدا
فبعضهمُ فرّ كالفأر عند لقائي وأبوابَه أوصدا
وفي جُحره بات تنتابه
عواصفُ رعبٍ بها سُهّدا
فأصبح من ودّه ناصلاً
وفي الملح ما بيننا زاهدا
ولم يذكر اللهَ أو دينه
ولم يذكر العزّ والسؤددا
وأنساه شيطانه كل ما
تقوّل بالأمس أو مجّدا
وزيّن دنياه في عينه
فصار الى ذلّها مخلِدا
وبعضهم مدّ نحوي يداً
فجرباء كانت وبئست يدا
قد اعطت قليلاً ومنّت به
وأنّى لجرباء أن تُرفِدا
تداركها الجُبن بعد الرياء
فأسقط عن لؤمها بُرجُدا
وكان أذاها على مهجتي
من اللائي أسلمنني أنكدا
فما طلبتْ ما أراد الاله
من العبد إن شاء أن يعبُدا
ولكن أرادت عروض الحياة
وما كان في عمره بائدا
فتعساً لقوم أذلّ رقابَهم البطنُ والفرجُ واستعبدا
فأعطوا مقادهمُ للدعيّ
وخرّوا لأذقانهم سجّدا
وباعوا بدنياهمُ دينَهم
بهائمَ لا يفقهون الهدى
تفادوا من الكلب حين يهرّ عليهم فبالغ واستأسدا
فلا مؤمنٌ بينهم صادق
ولا حرّ بينهمُ ماجدا
وأسمع منهمُ صُمّ النعام
ومَن كان في قبره ملحَدا
فأحمد ربي الذي قد أجاب
غياثي ولي دونهم أيدا
وجلّلني نِعماً جمّةً
فأمسيت في حفظه مرغدا
أنام بملءِ جفوني وعينُ ربي علتْ ترصد الكائدا
وأحمد ربي على ما قضى
إليّ فللخير ما أوردا
فقد يشغل النفسَ عن ربها
رخاءٌ وتغفل أن تَحمدا
فيوقظها العسرُ من نومها
لتدعوَ خالقها الموجِدا
وتغسل عنها دموعُ التفزع ما كان من ذنبها لابدا
ويوقد فيها عميق التضرع حباً قد اوشك أن يخمدا
فتصحو وقد عاد ايمانها
مشعاً بأنواره زائدا
فيرفعها الله من عسرها
ليسرٍ تراه ولن تجحدا


الأعلى