الأربعاء ٢٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم محمد نادر زعيتر

ضريبة الأمانة

"أمين" رجل عامل مهني مثقف احتاج لأن يشتري سترة جلدية (جاكيت) له بمناسبة العيد وقدوم الشتاء بعد أن حصل من الدولة على منحة مادية إضافية.

...................................

شوهد "أمين" يحوم حول محل كبير لبيع الألبسة ويتلصّص بالنظر إلى داخل المحل بين فينة وأخرى، واستغرق في ذلك وقتاً زائداً،لاحظه صاحب المحل وارتاب في أمره، أخبر الجهة الجنائية التي حضرت لتقتاد "أمين" إلى القسم للتحقيق معه.

..................................

تماماً كما تقع سباع على فريسة يتهافتون عليها، هجم علي بعض العناصر القادمة وأمسكوا بتلابيبي وتقطعت بعض أزرار السترة الجديدة، سارع كبير الدورية ووضع الغل في يديَّ على الرغم من أني لم أقاوم ودفعوني لداخل سيارتهم حشراً مع الكلام اللاذع اللائق. وأسروا بي بضاعة مزجاة نحو مكمنهم، وأنزلوني بخشونة كما أحد المجرمين العتاة، وأمثلوني أمام رئيسهم ذي السحنة الكأداء والشاربين العتيدين، والجبين المقطب ، وأنا أتقدمهم مخفوراً كأنما قبضوا على مطلوب مكين، وقد غنموا به بعد طول ترصد، وفازوا به فوزاً عظيماً، :

ــ ها هو سيدي!

........................

وفي قسم االتحقيق طلبوا بطاقة هويتي ليحظوا بشرف التعرف عليّ،، ولدى تفتيشي عثر في جيب سترتي على رزم أوراق نقدية كثيرة من ذات الألف ليرة، ألله أكبر! وقعت الواقعة، سئلت ولمسة لطيفة على وجنتي سبقت السؤال كانت كفيلة بأن يبقى أثرها إلى ما بعد حين:

ــ لمن هذه يا حضرة....؟

تلعثمت في الجواب،

ــ لا أدري من صاحبها!

أخضعوني لفنون الضغط الجسدي والتنغيم بالعزف الموسيقي الخاص بمناسبة عزيزة كهذه، حيث أنا الراقص على وقع معازفهم، والمطلوب هو أن أعترف بالسرقة ومن هم شركائي ، لم أعترف ولم أقر لمن هذا المبلغ، وأنا أردِّد: والله لا أعلم والله لا أعلم. ولم يقبلوا أن يسمعوا سوى الاعتراف حصراً،

أجل أخيراً عندما تهالكت وخارت مني القوى وحين يئست أنا وهم من المتابعة ، اعترفت قبيل أن أسقط أرضاً شبه مغشي عليّ أنني غافلت أحد المارة و (لطشت) المبلغ منه بخفة وشطارة و ذلك باختطاف حقيبة كان يحملها، أرغمت على التوقيع على ما كتبوا، وحملوني – حيث التغى دور رجليَّ في مهمة السير- ، وزج بي في غياهب زنزانة القسم الوردية المنعشة، تمهيداَ لإحالتي إلى القضاء أصولاً.

.......................

وفي هذه الأثناء حضر مواطن إلى القسم يدَّعي أن أجير محل بيع الألبسة سرق منه مبلغاً من المال كان بحوزته أثناء تواجده في المحل، وأحضر إلى القسم صاحب المحل الذي شهد بأنه لم يكن موجوداً، وأنه حين حضر المدعي للمحل كان الأجير لوحده في المحل ولم يغادره، وأنه فور مراجعة الشاكي تم تفتيش الأجير، ولم يوجد لديه أي مبلغ مما ذكر، و أفاد صاحب المحل أنه قد صرف الأجير للغداء بعد تفتيشه ثانية بدقة قبل مغادرته، ولم يعد بعد، وأنه لا يشك في نظافة يده بحكم معاملته الطويلة وثقته المطلقة بأمانته، وأنه بعد ذلك تم البحث في أركان المحل وموجوداته برفقة الشاكي فلم يعثر على شئ، استحضر الأجير للقسم فأنكر معرفته بشئ مما ذكر الشاكي، وأخضع للاستجواب الحضاري! حسب التقاليد الراسخة، فلم يفد بشئ، وأوقف أيضاً في زنزانة القسم تمهيداً للإحالة إلى القضاء، وهو إذ ذاك كمن يترنم بأغنية أم كلثوم "هذه ليلتي...

وحين تقابل "أمين" والأجير في الزنزانة بهت الإثنان،

وصاح الأخير: ها هو الحرامي!!!

........................

........................

بعد إعادة التحقيق بروية تبين أن الشاكي المسلوب كان قد أعاد للمحل في هذا اليوم بمعرفة الأجير سترة (جاكيت) كان قد اشتراها بالأمس حيث رغب في هذا اليوم باستبدالها بسبب اللون، وهكذا خلع هذا الزبون السترة السابقة المعادة دون أن يتفقدها، وفي الحال تناولها الأجير وأعادها مباشرة إلى موضع عرضها، وارتدى الشاكي السترة المرغوبة البديلة ومضى في حال سبيله، وبعده جاء إلى نفس المحل "أمين" لابتياع سترة له، حيث أعجبته سترة ما (وهي التي عافها الزبون السابق) و أشار إليها "أمين" بعد أن أعجبته وتأكد من رقم قياسها المطابق له ولم ير حاجة في تجريبها ، ودفع ثمنها وغادر وهو يحملها مغتبطاً ضمن كيس بلاستيكي أنيق رصفها الأجير فيه .

..........................

وأضاف "أمين:

في البيت عندما ارتديت السترة الجلدية المشتراة لأستمتع وأتباهى بها أمام أهلي، وبينما كنت أفردها تساقطت من جيبَيْ السترة مبالغ نقدية هائلة أكبر مما وقعت عليه عيناي قبلاً، ذهلت لهذه المفاجأة، اجتمع حولي أفراد أسرتي وإذ أدركوا الخطب الصاعق، وإذ من قائل: حسناً حسناً إنه رزقٌ ساقه الله إلينا بمناسبة العيد ولزوم شراء المازوت للشتاء وتصليح سقف البيت قبل هطول المطر، ومنه أيضاً نؤمن للإبن الأكبر - وقد أزف وقت انتهاء عسكريته - مستلزمات زواجه وارتهان بيت خاص له ولا سيما وأن أم الخطيبة اشترطت أن يكون الزواج في منزل مستقل، وتتالت مواد الميزانية الطارئة، وأنا أنتظر فراغهم من أحلامهم...

...............................

لم يرد عليهم "أمين" بكلمة، وإنما ارتدى السترة الجديدة وأعاد المبلغ إلى مكانه فيها، وعاد مسرعا قاصداً محل الألبسة، دخل إلى المحل يبحث عن الأجير فلم يجده، سأل عنه،

ــ قال له صاحب المحل: ليس موجوداً سيعود بعد ساعة..

خرج "أمين" ووقف غير بعيد عن المحل، وهو يروح ويجيء وهو مطرق الفكر مترقب متردِّد النظر نحو المحل، ارتاب صاحب المحل بأمره ، ويئس في أن يفهم من هذا الملتاع الخائر وماذا يريد؟ وهولا يفارق المكان، وهو مضطرب بشكل ملفت للأنظار، اضطر صاحب المحل لإخبار الشرطة الذين اعتقلوا هذا الرجل غريب الأطوار..

...............

بعد ذلك الفاصل من "اسق العطاش.." وبعد أن هدأ الروع، وأمام الشرطة وصاحب المحل وصاحب المبلغ اعترف "أمين" بأنه كان ينتظر رجوع الأجير و منتظره قبالة المحل ليسأله عن حقيقة المبلغ وصاحبه، وأنه لم تطاوعه نفسه للعودة إلى البيت مخافة أن تنهار شهامته أمام إغراءات الشيطان، وكان ما كان.

استلم الشاكي المبلغ شاكراً أيما شكر، دون ادعاء على أحد، وأخلي سبيل الأجير، ورفض "أمين " أي مكافأة من أي من صاحب المبلغ أو صاحب المحل...واعتذر منه رجال الشرطة بلغتهم وليتهم لا يعتذرون، كما اعتذروا من الأجير، ورفض الإثنان عرض احتساء قهوة الأسف الشديد.

ــ قال معلمهم: لا تؤاخذونا لولا ذلك لما أمكن القبض على كثير من المجرمين،

ــ قال "أمين" بصوت كسير: لأن يوجد ألف وسيلة ووسيلة خير من أن يهان بريء.

................

التفت "أمين" نحو الواقفين الواجمين أمامه:

ــ لقد سماني المرحوم والدي "أمين" أفلا أكون عند حسن ظنه، فيكون لي من اسمي نصيب!

............................

وخرج " أمين" من دار الضيافة حافياً يتقافز على قدميه حاملاً بيده حذاءه وهو لا يلوي على شئ! ولم يكن الأجير البائس بأسعد حالاً.

n إنها مسؤولية الأمانة التي اختص بها الإنسان، وكان (ظلوماً) لنفسه و(جهولاً ) بضريبة تلك الأمانة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى