الثلاثاء ٢٧ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم محمود سعيد

طفلة عراقية في شيكاغو

فرضت شيكاغو حبها عليّ وربما على الكثير ممن يعيش فيها، كما تفعل أي كاعب حسناء، ولعلها تملك الكثير من صفات الغادة، فهي لعوب متناقضة متقلبة محيرة ساحرة كأي أنثى فخورة بجمالها، فمن طقس مثلج ودرجة برودة عشرين تحت الصفر فهرنهايت، إلى حرارة تتجاوز مئة وعشرة. ومن رياح عاصفة هوجاء تقتلع الأشجار إلى نسيم عليل يبهج الروح. مدينة النقائض والبحيرة الخلابة وناطحات السحاب وغابات لا تنتهي، وأثرياء يجلسون على كنوز هائلة من ثروة لا تنفذ ومتشردون مدقعون يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.

اليوم الأحد، أعيش قرب البحيرة على بلمنت، وكلارك، في بضعة دقائق أصل إلى أجمل بقعتين في شيكاغو: شاطئ البحيرة، ومركز المدينة، لن أترك الأحد يفلت مني، في مثل هذا اليوم تكشف شيكاغو عريها، راقصة ستربتز تمتع أهلها بمفاتن جسدها. مهرجانات مستمرة، مسيرات، مظاهرات، أسواق خاصة وعامة، مسابقات جمال للبشر، للحيوانات، معارض طيران، سيارات، أطعمة، صناعة، سياحة. إنها عاشقة من طراز لحوح لا تترك عاشقها يرتاح يوماً واحداً.

الجو رائع، لأسرع قبل أن ينقلب، شيكاغو تغير جوها كما تبدل الراقصة ملابسها في وصلات رقصها. استعددت للخروج، أمسكت الصحيفة وقعت عيناي على صورة طفلة عراقية في شيكاغو تريبيون.

أرجعتني الصورة إلى بغداد، حبة القلب. المدينة المستحيل. طفلة بدت وكأنها لم تبلغ الثانية من عمرها فقط، تصرخ ودماء والديها تطرزها وجهها الجميل وملابسها التقليدية، لم أستطع التحديق فيها، تركتها، نزلت من شقتي إلى شارع كلارك، لست أدري لماذا أحب هذا الشارع؟ إنه البلسم. عندما يضيق صدري أترك الشقة، أتمشى في الشارع قليلاً فينزاح الضيق، ينقلب إلى بهجة. أمامي مراهقة في بداية البلوغ تواجهني على بعد، تقتلع عيني بحداثة وتنافر زيها، جاكتة من الجلد الأسود مليئة بمداليات فضية وأزرار، وشراريب، وتنورة قصيرة جداً، وجوربان أبيضان طويلان، فوقهما جوربان آخران أحمران إلى ما تحت الركبة، وقميص أحمر ياقته بنفسجية صارخة، أما الشعر فعدة ألوان، تبدأ بالأسود، البنفسجي، الأحمر الناري، الأزرق، البرتقالي الفاقع. كل تلك الألوان تجلل وجهاً فائق الجمال، بشرة بيضاء حليبية ناصعة، وعينان أبنوسيتان كبيرتان. أما صديقها فيرتدي زيّ رواد الفضاء في "ستار ترك" لكنه يصفف شعره بطريقة الخوذة الرومانية المشهورة. كان يمسك كفها حباً وخوفاً من أن تصبح كائناً فضائياً فتنفلت من بين يديه وتتلاشى في السماء.

عندما أتمشى في كلارك، يبرز أمامي شارع الرشيد دائماً، تمتلكني أحلام اليقظة لترجعني إلى ذلك الشارع الأسطوري الفريد.كلا الشارعين متميزين، هنا في كلارك تجد أزياء الدنيا كلها، سواء أكانت مصنوعة في فرنسا، إيطاليا، بريطانيا، أو الهند والصين وتايوان، سواء أكانت من دول الجوار ككندا والمكسيك أو من أقاصي آسيا كالفيليبين وهونك كونك وكوريا، وهناك في شارع الرشيد تباع كل الأزياء أيضاً، لكن ما لم تجده هناك تنوع المطاعم، ربما لا يوجد مثل شارع كلارك في كل العالم في تنوع مطاعمه وكثرتها. إنه ساحر لطيف وبهيج. يخرج عفاريته لتتسلل بخفة جني إلى بطون جميع الخلائق، تدفعهم إلى ملء مطاعمه الأنيقة. فبالإضافة إلى الأكلات الأمريكية الشهيرة كالستيك والهمبركر والهوت دوك هناك البيتزا الإيطالية بأنواعها المتعددة إلى جانب السوتشي اليابانير، الدجاج المحمر على الطريقة الهندية، البرياني الباكستاني، الكباب العربي والإيراني الكسكس المغربي، سمبوسة كلكتا المشهورة، البط الصيني المشوي بتلك الطريقة الساحرة، التبولة اللبنانية السلاطات التايلاندية ووو إلى ما لا يستطيع حصره المرء بيوم أو أسبوع، لكن تلك المطاعم بالرغم من تعددها لا تستطيع أن تقدم وجبات اشتهرت في العراق منذ آلاف السنين، ككبة الموصل، والقوزي، وعروق التنور وكبة الحامض والقليا ولحم بعجين الموصلي المشهور والباجة على الطريقة العراقية وو. تلك الأطباق تجدها في شارع الرشيد فقط. إذن فلكل شارع امتيازاته.

أسرق من وقتي بعض الساعات أقضيها في كلية ترومان كل شهر. تعرفت إلى بعض المدرسين الرائعين الطيبين إلى أقصى حد. لم أسأل أي أميركي عن تاريخ الكلية، ولماذا قرنت باسم ترومان! نويت ألف مرة ولم أفعل. أنسى دائماً. أهو من فكّر في إنشائها؟ أساهم بشيء مما يملك؟ هل اشترك بفعالياتها؟ ما تقدمه الكلية من خدمات إلى الوافدين مهم وعظيم الشأن. ولست أدري أ يوجد مثيل لكلية ترومان في باقي المدن والولايات؟ لا أدري. سأسأل عن ذلك أيضا، ولست ادري متى سأًتذكر!
اقترن اسم ترومان بقرحة في قلوب العالم كله، تلك القنبلتين اللعينتين، وصمتا عار التاريخ الأزلي: هوريشما ونكازاكي. لكن مع ذلك فأنا أحب كلية ترومان، ومن يحب يتجاوز عن أشياء كثيرة، لكن عقلي يرفض التجاوز. أحب بعض مدرسيها، أعتبرهم إخوة.

دعوت جان إلى وجبة عراقية لا تتوافر في المطاعم. كبة موصل. أعجبته إلى حد الجنون، احتفظ بالاسم، ربما كتبه، لكني لم أره يفعل ذلك أمامي. اشترى منها، أخذ يعدها في داره. اتصل بي يشكرني على هذا الطبق اللذيذ الذي لم يجده في شارع كلارك.

دخلت ستاربك، تجذبني رائحة القهوة الطرية، وأنا واقف في الدور كان عبق القهوة يجتاحني. عندنا نحن العرب ضعف أمام المرأة والقهوة! لماذا؟ أنحن وحدنا؟ أغمضت عيني. استنشقت الرائحة اللذيذة. الله!

أفضل من يعدّ القهوة في العالم كله البدو، والقرويون حول الموصل. يعدونها بعملية معقدة طويلة، ليصبح طعمها رفيعاً لذيذاً رائعاً بالرغم من مرارته. وأسلافهم لا غيرهم من أطلق اسم الخمر على القهوة فشاع في العالم كله.

قبل أكثر من عشرين سنة تعرفت إلى مهندس سويسري في البصرة، اشترى سيارة يابانية عندما كان في الصين وقرر الرجوع بها إلى موطنه في سويسرا. نزوة شاب تلهب المغامرة دماءه. توقف في البصرة، سأل عن الطريق إلى بغداد. دعوته إلى قهوة تركية في مقهى البدر المطل على شط العرب. كان الوقت عصراً، وكان النهر العريض يتهادى ببطء ومئات السفن الصغيرة الخشبية "اللنجات" راسية قرب المقهى. تجلب تلك السفن التوابل بأنواعها وترجع إلى الهند والباكستان وسيرلانكا وبنكلادش وأندنوسيا، وماليزيا، وسنغافورة بآلاف الأطنان من التمور. ترسو تلك السفن واحدة وراء الأخرى في عدة صفوف قرب الشاطئ على طول الرصيف الطويل. قال: إن المنظر هنا على حافة النهر جميل جداً، لكن طعم القهوة أجمل وألذ ولم يذق مثلها طيلة حياته. قلت له إنه سيمر في طريقه عبر تركيا. وسيرى الكثير من المقاهي تقدمها له على هذه الطريقة. قبل ذلك كان ذلك السويسري يظن أن القهوة المعدة على الطريقة النمساوية هي الأفضل. وهي طريقة أشبه بالطريقة الأمريكية.

جلست في ستاربك، ووجهي إلى تقاطع بلمنت وكلارك. لماذا يجتذب هذا الشارع براعم الشباب النضرة، الجميلة، البهية؟ حدقت بوجوه الفتيات. كلهن جميلات. ربما لسن كذلك. قال لي صديق مختص بعلم النفس: إنك تحب الناس كلهم لذا تجد كل الفتيات جميلات. ضحكت. أظنه يمزح معي. نعم إنني أحب الناس. هنا وفي كل مكان. عندما قدمت فوجئت بالكثير من التصرفات الودودة التي ألقاها في الشارع. هنا يلقي عليك التحية الكثير من الناس. حتى لو لم تعرفه. إلى الخمسينات كان أهلنا يفعلون الشيء عينه، ثم اختفت تلك العادة الجميلة بعدئذ. سافرت إلى عشرات البلدان، ورأيت الكثير لكن ما لم أجده إلا هنا هو ابتسامة الفتيات المؤدبة عندما تقابلك في أي مكان. لماذا أرى ابتسامة الأنثى أكبر نعمة وهبتها الطبيعة للجنس البشري؟ إنها بوابة الفردوس الذي يقيم فيه كل آلهة الكون الحنونة. رشفت القهوة اللذيذة لكني التفت، لا أدري لماذا، رأيت على المنضدة القريبة الصورة نفسها.

الطفلة العراقية المبقعة بالدماء تصرخ أمامي على وجه شيكاغو تريبيون، تصرخ بفم تسع مرارته العالم كله. لم استطع قراءة المقال في البيت. ولن أستطيع قراءته في أي مكان. الشابة الأنيقة تقرأ الموضوع وعيناها مبللتان بالدموع. احتقنت عيناي وأنا في مكاني، ضاق صدري من جديد، تركت كوب القهوة في مكانه والأبخرة اللذيذة تتصاعد منه. خرجت. لم يعد شارع كلارك يبهجني، توجهت نحو البحيرة. الحديقة التي اعتدت الذهاب إليها عصراً. أجمل ما في شيكاغو حدائقها. في هذه الحديقة المطلة على البحيرة أبكر صيفاً في فجر يوم أحد مماثل في مناسبة عروض الطيران. اخترت مرة مقعداً فيها يطل على المياه الشاسعة، حيث تلتهم أعماق السماء بصخبها وضجيجها طائرات حربية تفوق سرعتها سرعة الصوت، تأتي من جميع البلدان الصناعية لتعرض فنونها. أنظر إليها وقلبي يخفق كي لا تصطدم ببعضها، كي لا تسقط على البحيرة فتلهب النيران فيها. أجمل أيام السنة. لا يمكن أن يمحى من الذاكرة. في ذلك اليوم يستحيل أن تجد مقعداً في طائرة، باص، قطار متوجه إلى شيكاغو من عشرات الولايات في أميركا، عليك أن تحجز قبل شهر في الأقل. وحينما بدأ الغزو لم أعد استطع الذهاب، كنت أسمع أصوات الطائرات من شقتي القريبة وأنا أعيش رعب أطفالنا ومثل هذه الطائرات تقصفهم، ثم لعنت نفسي كيف استمتعت بمنظر هذه الأشياء الرهيبة من قبل!

قبل أن أصل الحديقة اقتحم عيني لون أوراق تلك الشجرة: أحمر ناري. ابتسمت، تذكرت أننا الآن في منتصف الخريف. لا أدري إن بقي من العمر متسع لي لكي أرى مدينة في أي بقعة من العالم أجمل من شيكاغو في الخريف. ذكرت ذلك في عدة روايات كتبتها. يسحرني تعدد ألوان الأشجار، إنه مهرجان السحر معبقاً بالألوان والبهجة. في شارع واحد عشرات الألوان من أخضر زاهٍ، أخضر مكمود، أصفر فاقع، برتقالي، أحمر، بنفسجي، رماني، حتى الأزرق النادر. عندنا تستعد الطبيعة لعرسها في الربيع، تخضر الوديان والسهول، تورق الأشجار، تتلون الأرض بزهور شتى، فيهب الناس في العطل إلى الضواحي للتمتع بالجمال. أما الخريف فكئيب وحزين، يرتدي الوجود كله حلة رمادية قاتمة، سماء ملبدة بالغيوم، وزهور تحتضر، حتى الطيور تختفي من الفضاء. لذا كان اكتشافي جمال شيكاغو في الخريف معجزة. أذهب مرة في الأسبوع إلى إحدى الغابات في الخريف، أنظر إلى الأشجار تتحدى الكون بألوانها الزاهية، وهي تتمايل بهبوب الرياح التي تشتد في تلك الفترة فتسقط الأوراق الملونة الزاهية على أرض الشارع بكثافة تحجب لونه الأصلي.

هناك تنتشر أبسطة مطرزة بورود متنوعة مجلوبة من كل أنحاء العالم، الجوري بأنواعه، القرنفل، النرجس، التوليب، الزنابق بأنوعها، أي تنظيم مدهش. أمام البحيرة الكبيرة تندلع معركتان جميلتان أزليتان، الأولى الأولى في السماء، بين مياه النافورة العالية جداً والغيوم، ووالثانية على الأرض. فجأة تندفع أعداد لا حصر لها من السناجب الرمادية الرائعة. تتقافز، تلهو، تلعب، تندفع بسرعة البرق لتلتهم ما يلقيه المتسكع من فتاة خبز قبل تحط عليه بسرعتها الصاروخية أسراب الحمام الجميل الذي لا يمكن أن يستقر خوفاً من هجوم السناجب. أسجن نفسي بضع دقائق أرقب المعركة. حيوانات بريئة لا تبغي سوى ديمومة الحياة. التصق بي شاب لاحظ ما يجري برهة ثم فتح الجريدة على صورة الطفلة، فاخترقت عيني كلمات "حدث في تل عفر، في...). عميت عيناي. تلك البريئة المفجوعة بوالديها. كيف ستحيا؟ تلك الطفلة في تل عفر أصبحت وحيدة في بلد غارق في الحروب؟ هل ستتذكر تلك الفاجعة عندما تكبر؟
أحياناً أركب الباص إلى مركز المدينة. من السيئ أن يضيع الإنسان في أي مكان في العالم. لكني أترك لنفسي أن تضيع هناك. أكاد أصرخ بكل صوتي: دعوني أضيع. ضياعي حياة. لا أحس بالوقت! متحف الفن المعاصر، المتحف العلمي، الشاطئ، مدينة الألعاب، كل هذه المعالم لا تستهويني غير مرة واحدة، لا يمكن أن تقيم علاقة دائمة مع بغي! كذلك لا يمكن أن تأتي يومياً إلى نفس المتحف. مركز المدينة وحده يغرقني. يطغى اتساعه على وقتي ووجودي، أشعر بالمتعة في كل خطوة في شوارعه. تذهلني نظافته، كأن شوارعه ممرات قصر ملكي، يحرص العاملون فيه على تنظيفه كل لحظة. أيوجد في كل العالم بقعة أنظف من شوارعه؟ رأيت مدناً وعواصم كثيرة استطنبول، أثينا، بلغراد، أمستردام، مدريد، لشبونة، باريس، مارسيليا، برشلونة، الجزائر، الدار البيضاء، دبي، قرطبة، القاهرة، دلهي، دمشق، بانكوك، بيروت، أنقرة، مئات المدن الأخرى، رأيت الكثير حتى أنني وفي هذا السن لم أعد أستطيع إحصاءها، لكني عندما أرى صورة مدينة ما أتذكر أنني قضيت فيها بعض الوقت. المدن كالنساء، وكما في كل امرأة نكهة مثيرة تختلف عن الأخرى كذلك المدن. هناك مدن تفتح لك ذراعيها ما إن تدخلها كصبية عاشقة لا تتركك حتى تسعدك وتنال منك ما تريد، وهناك مدن منغلقة تصفعك وتردك محسوراً مقهورا. وفي كل ذلك العدد الهائل من المدن لم أجد أنظف من مركز مدينة على بعد أمتار مني، ولا أجمل من ضواحيها. دفعة من الخلف. كدت أقع. عفواً. ضحكة أنثوية. التفت إلى اليمين. شابة مسرعة أطول مني كثيراً، ربما ستة أقدام ونصف، نحيفة، جميلة، واسعة العينين. لماذا الكعب العالي وهي بهذا الطول؟ عندما كنت طفلاً وأرى شخصاً طويلاً يخيل لي إنه إن قفز بقوة إلى الأعلى فسيصطدم بالقمر. ابتسمتْ الشابة، ابتسمتُ أنا، تجاوزتني بخطواتها السريعة. هنا لا يدور في ذهن أي كان أن يتساءل عن سبب السرعة في الحركة، كلهم يسرعون، لا أحد يدري لماذا يندفع الناس بمثل هذه السرعة. كانت الجريدة في يدها تشدّ أصابعها عليها لئلا تضيع. رأيت وجه الطفلة مرة أخرى تبدو ربما لم تتجاوز سنة ونصف فقط، أكاد أسمع صراخها، كفاها مصبوغان بالدم، كأنها كانت تغسل يديها بالدم. كيف حدث ذلك؟ دماء في خديها، دماء في ثوبها، دماء على رأسها، أ هو مهرجان الدم؟ يبدو أنها كانت في حجر أمها عندما أصابت الرصاصات رأس أو رقبة أو صدر الأم. فتدفق الدم بتلك الغزارة لكي تسبح فيه طفلة بسائل لم تره ولم تعرف ما هو. كيف نجت إذاً. أنها المصادفات المعجزة من دون شك، يا إلهي أي رعب في عينيها! لماذا عندنا فقط يفتح الطفل عينيه فلا يجد غير الرعب!

التفت إلى اليمين حيث غابة ناطحات السماء ملتمة على بعضها في فوضى عارمة ساحرة. بدت وهي في فوضاها متاغمة. هناك في قلب العمارات الشاهقة، وبين شوارعها النظيفة تفاجأ بنصب وتماثيل في غاية الإبداع. ببيكاسو من جاء بك إلى هنا؟ أضخم نصب له أمام مبنى البلدية، لون النصب بني قاتم جميل جداً اضطر المعماري كي يحيطه ببنايات يقترب لونها منه بنسب معينة ليخلق إيقاعاً شعرياً هامساً بينها، ذلك الإيقاع يسري إلى قلب كل من ينظر إليهما فيحس بنشوة فنية عارمة تدقه في مكانه كمسار جامد لا يتحرك. كيف تأتى لهذا الفنان الشيوعي الكاره لأمريكا إلى حد الموت أن يزين شيكاغو بمثل هذا النصب السامي والجميل والرائع؟ بدا وكأن عبقريته ابتدعت النصب الحداثي خصيصاً ليهديه إلى شيكاغو رافضاً أن يتسلم أي فلس. أأراد برفضه الشك الذي أرسلته إليه بلدية شيكاغو أن يصفع الرأسماليين الأمريكان ليفهمهم أن ليس بالفلوس وحدها يحيا الإنسان؟ أم أراد أن يخلد في أمريكا لا فنه حسب بل كرمه وسمو أخلاقه اللذين يفتقدهما أثرياء أميركا أيضاً.

مركز شيكاغو مليء بتحف فنية مهداة من فنانين عاشوا وماتوا في أوطان بعيدة عن أمريكا. مقابل راندولف سنتر هناك نصب حداثي آخر لا يقل روعة عن نصب بيكاسو، لكنه بالأبيض والأسود. حاولت عبثاً أن أعرف من أبدعه. رأيت لوحتين برونزيتين فيهما قائمة أسماء بلدية شيكاغو لكني لم أجد اسم الفنان، ترى لماذا فضلوا أن يكتبوا أسماء بضعة عشر غبياً لا أهمية لهم إطلاقاً، ولا علاقة لهم بالإبداع وأهملوا اسم النبي المبدع؟

من مئات النصب التي تستفز النظر بوجودها نصب الهنديين الأحمرين على جوادين يقابلان أحدهما الآخر. أبدع الفنان في إبراز ملامح الهنود الحمر، قوتهم، سموهم إلى المعالي، لم أستطع العثور على اسم المبدع أيضاً، كان مكان هذين التمثالين موفقاً أيضاً، فمن هناك تمر مئات آلاف السيارات يومياً، لكن الشيء غير الموفق في المكان هو عدم وجود موقف ملائم رخيص للسيارات، يترجل فيه المرء ليطلع عليهما من قرب. وجود التمثالين هناك يفرض على المشاهد سؤالاً ملحاً: ترى لماذا أبيد هذا الشعب المضياف النبيل القوي المسالم الطيب؟ وهل إقامة مثل هذه التماثيل نوع من الاعتذار والندم على إبادة لم يكن لها ما يبررها إطلاقاً؟

في شيكاغو نصب كثيرة هائلة رائعة، تستوقف النظر، تدفع متسكعاً مثلي على الاقتراب منها، لكنه تصد الآخرين. لا يستطيعون أن يتوقفوا لحظة واحدة أمامها، ازدحام السيارات شديد، التوقف ممنوع، عليك أن كنت تريد النظر إلى أي نصب أو تمثال أن تضيع يوماً كاملاً. وتلك تضحية كبرى في بلد مادي. عليك أن تأتي في حافلة أو تستقل أحد خطوط المترو، وأن تسير على قدميك في الأقل ساعة، إنها عملية معقدة مكلفة مزعجة، لذا فإنك تجد الكثير من سكان شيكاغو لم يروا هذه التماثيل إلا مصادفة، والأكثر منهم لا يعرفون أن بيكاسو وغيره على سبيل المثال موجود في مدينتهم.

كنت أسأل نفسي باستمرار أتوجد قيمة للفن إن لم يحترم؟، أيحترم بمعزل عن الشعب!. تعلم الأمريكان الفن من وراء البحار، لكن هل تعلموا كيف يحترموه؟ ظل بعيداً عن الجمهور. في إيطاليا تجد التماثيل قريبة إلى الناس، في مراكز المدن، تستطيع أن ترى غير واحد في نصف ساعة، تستطيع أن تقرأ شيئاً عن المبدع، عن الظروف التي رافقت الإبداع. في إحدى ساحات مدريد يجلس سرفانتس في قمة عالية كإله ينظر إلى مخلوقاته الرائعة: دون كيخوتي وحصانه الهزيل، سانشا بانزا وحماره، الأميرة بزيها الرائع، صاحب الخان، بقية الشخصيات.. الخ. في بغداد أيضاً تستطيع أن تقرأ شيئاً ما عن التماثيل، فيها نصب أكثر وأحدث من كثير من عواصم الدنيا، هناك نصب الحرية الذي لا يقل بهاءً عن نصب بيكاسو، وهناك أبو نؤاس، ودليلة وقربها الأربعين، ونصب الجندي المجهول وووو، ترى أبقي منها شيء بعد الاحتلال؟ عندما فجرت المليشيات نصب المنصور دمعت عيناي وأنا على بعد آلاف الكيلومترات!

نصب الضواحي عادية، لا تثير الرائي، لكن الضواحي نفسها مسروقة من جنة عدن، أي ساحر استطاع سرقتها، أهم آل كابوني وبقية العصابات الأسطورية! أم هم العباقرة والمهندسون ورجال الأعمال المنفتحون على المال والجمال في نفس الوقت؟ عندما أذهب إلى الضواحي أتذكر ضواحي بغداد، وبساتين الفاكهة التي لا تنتهي، إن قدر للمرء أن يذهب إلى ضواحي بغداد في الربيع فسيغرق في زهور الكمثرى والتفاح والمشمش وسيشم عبير غبار طلح النخيل من بعد مئات الأمتار، وسيتمتع بروية أجمل صباح في العالم.

أجمل صباحات العالم لن تجده في شيكاغو؟ أو باريس أو مدريد، تجده في بغداد، بغداد واحة أبنية عريقة منسجمة مع نفسها محاطة ببساتين شاسعة وبغابات نخيل لا تنتهي حتى تبدأ من جديد. تشرق الشمس في بغداد فتلفعها بأشعة ذهبية تجعلها تتوهج كقطعة من الماس الأصفر. فيغمرك ضؤء فريد كمن يغرق في شلال ضوء لا أول له ولا نهاية. أتذكر صباح بغداد كلما أمر في كورنيش البحيرة، لا يوجد رابط بين الاثنين؟ لماذا إذن أتذكر بغداد وصباحها؟ ربما لانعكاس الضوء على سطح الماء، فلطالما ارتبط الضوء بسطح دجلة الساحر هناك. اخترع العراقيون القدماء أكثر من عشرة آلاف سنة مقولة "إن كل شيء خلق من الماء" وعندما كتبت التوراة أخذت المقولة كما هي، ثم ترددت في المسيحية والإسلام. يحب العراقيون الماء إلى درجة العبادة، وهناك فئة عراقية يكون الماء جزءاً كبيراً من طقوسها. ولحب العراقيين للماء منعوا الاستئثار بمناظره، تركوا دجلة والفرات للجميع.

يقسم دجلة بغداد قسمين، يلعب معها بحنان وحب، يدور ويعتدل ويلتوي وينفرج، يغير شكله كي لا تمل منه. يتلوى في داخلها كالأفعى. يتمطى، ينتشر، يلتم، يأخذ حريته كاملة في التحرك حد النشوة. في بعض الأمكنة يتسع حتى يتفرع إلى بضع نهيرات صغار تحيط جزراً صناعية مختلفة الأحجام، لكنه يعود ليتحد لينهي اللعبة، فيصبح نهراً جباراً هائلا.

ما إن أصل إلى أي مدينة حتى أستعلم عن أنهارها. في شيكاغو نهران كبيران. تراهما في علم الولاية. لكنك لا تستطيع أن ترى أي نهر منهما على الأرض، نهران احتكرتهما الصناعة. باتا أرستقراطيين، خاصين. أسوأ ما صنعه المعماريون في شيكاغو أنهم قتلوا هذين النهرين. سواء أ كنت مقيماً أم زائراً لهذه المدينة الجبارة فإنك لا تستطيع أن ترى النهر إلا مصادفة. ربما تعيش بضع سنوات في ضواحي شيكاغو وأنت لا تدري أن هناك نهراً على بعد بضعة أمتار، أو مئة متر. الغابات الكثيفة تحجبه، كيف ستراه من وراء تلك الستائر الخضر المتكاثفة؟ لكني لحسن الحظ رأيت شريطاً سينمائياً عن نهر شيكاغو، ليس كدجلة، متواضع، ضيق، مغتال، يصرخ طالباً النجدة، لكن 911 لا يستطيع أن ينجده. فمن قتله قوي يُخشى بأسه. من ارتكب تلك الجريمة؟ إنها أرصفة شحن هائلة تزود السفن النهرية ببضائع ومواد أولية تنـقل إلى مدن ومصانع ومراسي أميركا والبلدان الأخرى، بعد أن التهمت تلك الأرصفة معظم شواطئه تركت قسماً ضئيلاً منه لبنايات عملاقة، ناطحات سحاب، فنادق هائلة. هذا يعني أن ساكن شيكاغو لن يستطيع أن يراه قط. ربما يراه من يقطن غرفة في إحدى الفنادق المطلة عليه، لكن الشخص العادي محروم من متعة النظر إليه.

عكس ذلك في بلدي تماماً، النهر عندنا كائن شعبي، بسيط، متواضع، لكل الناس بالرغم من أنه سيد المدينة العتيد من غير منازع. تراه عندما تعبر أحد الجسور المتعددة، وتراه قربك على بعد خطوات عندما تجلس في مقهى مبنية عل ضفته، وتراه في مئات المطاعم على الجانبين، وتراه عندما تتمتع باحتساء الجعة في بار أو عندما ترشف العصير، القهوة، الخ.

في بغداد منظر فريد لن تراه في أي مدينة أخرى في العالم، كورنيش دجلة المسمى "شارع النهر". يمتد نحو ميل كامل تنتشر عليه مطاعم وبارات وملاهي. إن جلست في مكان ما ستكون قريباً من الماء، تصافح الماء، تأكل من الماء، تتمتع بالماء. في كل مطعم حوض ماء فيه عشرات الأسماك الحية. تختار منها ما تريد، ثم تمتع بالسمكة تشوى أمامك. تشوى بطريقة فريدة، "المسقوف" ورثها العراقيون عن أجداد عاشوا قبل أكثر من عشرة آلاف سنة. تُشّك السمكة بعصا تغرز أمام نيران يتصاعد لهيبها، وبعد بضعة دقائق تقدم إليك وجبة شهية.

منذ عشرات آلاف السنين كانت بغداد نقطة التقاء خطوط التجارة العالمية، هناك كانت ترتاح القوافل من عناء سفر طويل. بغداد عاصمة خط الحرير القادم من الصين، وخط التوابل القادمة من الهند وبلدان آسيا كلها، وخطي قوافل أوربا وأفريقيا، في بغداد وبقية دول الهلال الخصيب يحدث أضخم تبادل للبضائع يغذي القارات الثلاث. لو لم تكن تلك البقعة وافرة في إنتاجها الزراعي والحيواني لما تمكنت من تزويد قوافل الدنيا بالطعام والراحة والمنام. ولذا اختارها أحد أعظم عباقرة التاريخ العربي "المنصور" وبناها على شكل دائري جعل منها معجزة الفن والعمارة كما هي الآن نيويورك، استقطبت الكتاب والفلاسفة والعلماء والتجار والمهندسين وأصبحت مركز الثقافة العالمي لنحو ستمئة سنة. ثم تلتها سبعة قرون عجفاء. لكنها عادت الآن بؤرة يتجمع فيها بشر وافدون من جميع أنحاء الأرض أيضاً. هؤلاء البشر يختلفون عن أولئك. ليسوا بتجار، إنهم جنود. مرتزقة. جاؤوا من جميع أنحاء العالم. وأحدهم هو من أطلق النار على والدي تلك الطفلة التي خلخلت توازني، تلك الطفلة التي لا أعرف اسمها، لا أعرف شيئاً عن ذويها المغتالين. لا أعرف غير ما ذكرت شيكاغو تريبيون، إنها من تل عفر. تقول الجريدة أن السيارة التي كان والدا الطفلة يستقلانها رفضت الوقوف، فأطلق الجنود الشجعان وابلاً من نيران رشاشة قتلت الوالدين في الحال.

سبحت الطفلة بدماء والديها، لكنها بقية حية، إنها تصرخ، لقد خلدت الجريدة صراخها إلى الأبد. بدأت أسمع صراخها ما إن رأيتها أنا، وسيسمع صراخها كل من يعيش في هذا العالم الوحشي.

حدقت بناطحات السحاب. لا أملّ من النظر إليها، إن كان صباح بغداد أجمل ما في الوجود، فالغروب في شيكاغو أجمل غروب في العالم. يعادله في الجمال والتأثير. قبل أن أجيء إلى شيكاغو، كنت أقول مع نفسي ماذا في ناطحات السحاب من جمال؟ اسمنت، حديد، زجاج كلها تصد النظر، ثم اكتشفت خطأ تصوراتي. لقد جعلت مهارة المعماري وعبقريته من تلك البنايات حيوات بهيجة في غاية التناسق والجمال. ومن بعيد وحينما انظر إلى تلك البنايات المتفاوتة في ارتفاعها وزينتها وجمالها الفريد يسحرني الموقف مرة أخرى فأقضي وقتاً لا أستطيع حصره.

أتعمد في وقت الغروب أن أصعد إلى الطابق السابع عشر في البناية التي أسكن فيها، تسكب الشمس دماءها على الكون فينعكس ذلك اللون البهيج على زجاج ناطحات السحاب فتشع هذه بأضواء شتى تتشعب لتصبح كل بناية ماسة تختلف عن الأخرى، ولتكون مجموعة ناطحات السحاب كرة مشعة يخترق توهجها السموات السبع، أبقى حتى يهبط الظلام عندئذ تختفي ناطحات السحاب، يحل مكانها لوحات منمنمة فاتنة تشع بكل الألوان.

وصلت الحديقة، ما أجمل لعب الأطفال، يلعبون، يصرخون، يركضون، يتسلقون الدرج الصناعي، يتأرجحون. أيوجد في الحياة أبهج من منظر طفل سعيد؟ لا. هناك في الحديقة أقضي وقتاً غير محدود. أراقب الأطفال يعيشون عصرهم الذهبي قبل أن يكبروا ويطحنهم الصراع على مكاسب الحياة. لا أدري كيف ينقضي الوقت؟ الأطفال آلهة، وكما تدعي الآلهة أنها خلقتنا، وأن بمقدورها خلق الجديد كل وقت.

كذلك الطفل، إنه يستطيع أن يخلق لعبه وسعادته في كل وقت. أطفال يركضون وراء بعضهم، ينزلقون على صفائح صقيلة، يتأرجحون بكل قوتهم، يتعلقون على قضبان متفاوتة الارتفاع، يضجون، يتكلمون، يصرخون، وهناك غير بعيد على النجيل الأخضر طفلتان. إحداهما تستلقي على ظهرها والأخرى تداعبها، كلاهما تقهقهان بكل قوتهما. للأطفال مقدرة خلاقة على الضحك، مقدرة غير محدودة. أعظم معجزات الطبيعة تحدث كل يوم أمام أنظارنا. هنا يلعب الأطفال بحدائق مجهزة بأحدث وأمتع المرافق، لكني رأيت مناطق فقيرة يلعب أطفالها بالحجارة، بأغصان مكسورة، بعظام الحيوانات، بالرمال، بصغار الحيوانات، لم يسعدهم الحظ بمثل هذه المتع الرائعة. قطعت ضحكة طفل بعمر تلك الطفلة المكلومة أحلام يقظتي. كان يلاحق خنفسة ويهم بإمساكها لكنه يتردد فيترك لها فرصة للهروب. وأمه الشابة الجميلة تنظر إليه وتبتسم.

توجهت نحو مسطبة تجلس عليها عجوز تراقب من بعد طفلتين تلعبان، وقبل أن أجلس قربها، رأيتها تسحب الجريدة لكي تفسح لي مكاناً قربها. وقعت عيناي بالرغم مني على الطفلة ملوثة بدماء والديها، سمعت صراخها مرة أخرى. ابتعدت، توجهت نحو مسطبة أخرى. هل ستقدر تلك الطفلة أن تمارس اللعب في المستقبل وهي يتيمة وقد صرع والداها في لحظة جنون طائش؟ ذلك ما أشك فيه.

كلب صغير جداً، لا يتجاوز طوله ثلاثة أرباع القدم، بألوان تتفاوت بين الأصفر والرمادي والبني العميق والأبيض، عيناه واسعتان جاحظتان، لديه شاربان أبيضان طويلان ينحدران إلى ما تحت ذقنه، ينظر بعمق إلى كل من يقترب منه، أسنانه بيضاء متراصة كأنها أسنان طفل في الخامسة، سلسلته جميلة بلون الذهب، لم يترجل من دفء صدر عجوز تحتضنه كابن لها. لست أدري كيف اكتشفته طفلة في عمر السنة، تقدمت نحوه وهي تتأرجح في مشيتها ووالدتها الشابة تنحني وراءها، وتمد ذراعيها كي لا تسقط، الطفلة تغرد بسعادة كالبلبل محيية الكلب، والكلب ينظر إليها بنظرات ودودة. أخيراً وجد من يفهمه حق الفهم. والعجوز ترحب بالطفلة وتشارك أمها الشابة الضحك، وحينما اقتربت الطفلة من الكلب مدّت يدها الصغيرة لكن أمها بادرت إلى حملها، مبعدة إياها عن الكلب: لا، لا تمسيه. والعجوز تردد: دعيها، لن يؤذيها، دعيها، جلست إلى جانب العجوز، أخذت تربت على شعر الكلب، بينما نظر الكلب إليها بفخر وامتنان، ثم عاد ينظر إلى الطفلة، ربما رآها أقرب إليه من الجميع، والطفلة ما تزال تحاول احتواء الكلب. أصدر الكلب همهمة ناعمة أقرب إلى الغناء، نظر إلى أم الطفلة عندئذ سمحت الأم للطفلة أن تمسّد ظهر الكلب وهي تقهقه. لماذا لا يسترسل الناس هنا في الإنجاب؟ عناية طبية ممتازة، دراسة متوافرة، مستقبل مضمون. لماذا إذاً؟ هل سيصبح لأطفال العراق مثل هذا المستقبل وهو في مثل تلك الدوامة من العنف، الانقلابات، تدخل الدول العظمى، لعنة النفط. ما إن يصل الطفل عندنا الثامنة عشرة أو ما إن يتخرج في الجامعة حتى يجد نفسه جندياً في جيش، في معركة، في صراع. حياة كلها ألغام، قتل، سجن، أسر، تشريد، تجويع.. قائمة لا تنتهي، حتى هذه الألعاب البريئة محرومون منها.

هناك يلعبون في ساحات متربة يغرقون في بحر من الغبار والأتربة والوحول، وتتمزق ملابسهم بعد بضع دقائق، أما الحيوانات فهي غريبة ومميتة في بعض الأحيان. ربما يجد الأطفال جرواً صغيراً، يسرقونه حينما تختفي أمه، لكنهم يذيقونه مر العذاب، رأيت يوماً طفلاً يشد جرواً صغيراً وهو يركض، والجرو لا يستطيع أن يتابع الركض، فهو يتقلب على الأرض مسحولاً، فقد كان الحبل مشدوداً بقوة حول رقبته، وقدرت أن الجرو لا بد أن يموت بعد قليل. من المستحيل أن يتوقف الطفل عن اللعب، وإن لم يجد لعبة مناسبة فقد يختار لعبة مميتة لغيره، وهو غير دارٍ.

غير بعيد من شقتي حديقة خاصة بالكلاب وحدهم، يتجمع كل يوم عشرات النساء والرجال، كل مع كلبه، يأتون بهم للتنزه في الحديقة يومياً، الحديقة معرض مميز للكلاب، كبيرة، صغيرة، متوسطة، غريبة الشكل. قربنا أيضاً مستشفى للكلاب، وفي الجهة الأخرى من الشارع حلاق لهم، يبتدع قصات شعر مميزة، ويتقاضى عن عمله أضعاف ما يتناوله من قصة شعر الإنسان. لا أحد هنا يؤذي الحيوانات. يضمنون مستقبلهم. قالت لي صاحبة قط يبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة، وهي تشير إليه، وكان بالفعل قطاً جميلاً جداً بشعر كثيف مرقط بين الأصفر الذهبي، الأبيض والأسود: مع الأسف إنه لن يعيش غير سنة واحدة أخرى في الأكثر، إنه مصاب بالكلى، لكنه سيموت سعيداً لأنني أرعاه بشكل جيد، أجلبه إلى الطبيب لفحصه كل شهر.

هنا كل شيء له قيمة النبات، الحيوان، الإنسان، هناك من يهتم فيه ويعتني بصحته ويرعاه، وفي بلدي يقتل النبات والحيوان والإنسان. لا يوجد من يهتم بالآخر، وأكبر الظن أن لا تجد تلك الطفلة أحداً يهتم بها بعد قتل والديها؟ سيكون مصيرها معتماً، شديد الإظلام. أكاد أتخيل مصيرها، أراها في شريط سينمائي أمامي. لو استطاع من يجدها أن يعثر على دار للأيتام يضعها فيه، فستعيش في جوع دائم وسوء تغذية إلى ما لا نهاية! لكنها ستكون نوعاً ما سعيدة، لكن العثور على دار للأيتام معجزة في العراق تحت هيمنة الاحتلال والمليشيات، مثل تلك المؤسسات قليلة جداً، وهي مكدسة كعلب السردين بأضعاف ما تستوعب، وقد يحضر بعض الأطفال يومياُ إلى الدار، لكن الدار غير مسؤولة عنهم في أخطر فترات اليوم. عليهم أن يغادروه حينما يحل الظلام. مسؤولية إيجاد مكان يقضون فيه الليل مسؤوليتهم هم لا مسؤولية الدار. عليهم أن يحلوا المعادلة الصعبة. أين ينامون إذاً؟ في الشوارع، تحت الجسور. في المقابر. في كل مكان ولا مكان.

ستتبع تلك الطفلة مثيلاتها من ضحايا الحرب. فمن يشعل الحرب لا يفكر بالأطفال وإلا لم يتلوث بآثامها. ستنسى ذاكرتها الهشة أبويها بعد أيام، أو شهور في الأكثر، ستنسى الحادثة لكن أصوات الرصاص المرعب سيستقر في العقل الباطن، يدمر نفسيتها، ويقلق راحتها ما حييت. أهم مشكلة ستقع على رأسها أنها ستنشأ على سطح أرض معادية، قاسية، لا تعرف الرحمة. عليها أن تشبع معدتها، ستلتقط ما يرميه المارة في الشارع من خضار فاسدة، وبقايا طعام متعفن. أو ربما حبوب تخرج مع روث الحيوانات، فإن قاومت المرض فمن المستحيل أن تقاوم الطفيليات كالقمل والديدان المعوية، ولأنها لن تنشأ في رعاية أم تنظفها وتعتني بها فستصاب ربما بالأكزيما، الجرب، الرمد، ربما بالعمى، لكنها ربما تعيش بضع سنوات أخرى، حينئذ سينمو جسدها في ظل سوء التغذية نمواً بطيئاً ومشوهاً، لكنها بالتأكيد وفي كل الحالات ستضطر للعمل طيلة النهار، ستتعرض للاغتصاب وهي في الخامسة من عمرها، وستعاني من آلام وأمراض لا تحصى، سيُقضى عليها قبل أن تراهق، فإن ساعدها الحظ على البقاء فستنتهي إلى تناول المخدرات، أكواخ البغاء ثم السجن. وربما سيكون ذلك المكان الوحيد الذي تضمن فيه لقمة بسيطة ثلاث مرات في اليوم ورداء رمادياً كالحاً يسد عريها، لكنها في كل الأحوال لن تعيش طويلاً. ربما سيقام لها تمثال بعد موتها في شيكاغو أو بغداد يدل على مآسي أجيال أبيدت في الحروب لكن أحداً ما لم يستطع أن يخترق مشاعرها ليكشف كيف استقبلت ذلك العالم المعادي المميت وهي طفلة بريئة لا يد لها بما حدث، كبراءة الهنود الحمر المسالمين الطيبين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى