الأربعاء ١٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم مي محمد أسامة

عابرٌ سَخيف

-1-

شهرٌ كاملٌ مضى على مُغادرتهِ حياتي بشكلٍ دراماتيكيّ ..شهرٌ ثلاثينيّ كامل.
رحلَ بكلّ سكونٍ و اعتياديّة. كوبُ قهوةٍ شبهُ فارغ، كأسٌ نصفُ ممتلئٍ بالماء، والصمتُ يَعبقُ بالمكان. كأنّه كان جزءاً من مشهدٍ في سينما غيرِ ناطقةٍ بأيّة لغة، اللهمّ سوى نظراتٍ مبهمةٍ باردةٍ لا تتركُ أثراً. تُقابلها أُخرى فائضةٌ بالأسى غيرِ المنظورِ حتّى لمن يُمعنُ النظرَ.لم يكن شيئاً كارثيّا البتّة، حتّى أنّه لم يكُن شيئاً على الإطلاق. الهدوء.. ما كان مفتعلاً، بل مبتذلٌ و أقلّ من عاديّ..

كان مُنتظراً...منذ الأزل..

لم ترتعشْ في عينيّ دمعة، لم تخنُقِ الغصّةُ بابَ مَعدتي بالألمِ الغريب، شيءٌ من الاستخفافِ ممزوج بقرفٍ، مع مسحةٍ من عدمِ اكتراثٍ مُعتادة، هو كلّ ما أمكنني التفكير به!

ما هكذا تُبدأ الحكاياتِ أعرف. ولا تنتهي بمُعظمها هكذا، لكنّ هذا الحدثَ طرقَ بابَ أفكاري فجلستُ لتدوينه قبل أن يرحلَ هو الآخر..دونَ أثر..

-2-

بعدَ ذلكَ الحادثِ "الجلل"!..لم تتغيّرْ حياتي قيدَ أنمُلة. هي ذاتها دون زيادةٍ أو نقصان. استيقظُ صباحاً دونَ عناء، أقفزُ من السريرِ كالملسوعةِ بأخبارٍ فرحة أو حزينة، أو بصياحٍ شديدٍ غيرِ متوقّع. فنجانُ قهوتي الذي يعادلُ حَجمهُ ما يقرُب من أربعةِ فناجين يشربُها الآخرين..استقلُّ بعده حافلة العمل، أو سيّارتي إن لم يسْبِقني أخي لاقتناصِها!
في تمامِ السابعةِ و النصفِ أكونُ على مكتبي.ابتسمُ بأوتوماتيكيّة شديدة؛ أعملُ و كأنّ رأسي يسكنهُ هاجسَ العملِ وحده لا سواه.

موظّفتان في نفس المكتب معي، نتقارب في السنّ ثلاثتنا مع أنني رئيستهنّ ،لسن في واقعي أكثر من زميلاتٍ عمل. قد نتحادثُ – حقيقة –أحياناً، لكنّ حديثهنّ كلّه، عبارةٌ عن ممارسة الشكوى بشكل مستمرّ، يدفعني لإزعاجهنّ بشدّة في بعض الأحيان.

أولاهنّ تحلم بـ"عريس" ..تختلفُ ملامحهُ يوميّاً حسبَ التجليّات الصباحيّة و المسائيّة و تتدخّلُ أحيانا "الأحلام و الرؤى"لتصوغهُ بأطيافٍ أخرى..

المهمّ عريس..و المهمّ أكثر حَسْبَ تعبيرها " يبدو أنّها ممن يتأثّر بالإعلانات دون التحقّق منها".. أنّها "تطمحُ لشيءٍ" والطموحُ شيءٌ مُلطِّفٌ في حال مرافقته للحياة..!
المزعجُ في الأمر أنّها لا تكلُّ من الحديثِ لدرجةٍ أعتقدُ فيها أنّها ستموتُ- أو على أقلّ تقدير- ستصابُ بالشللِ الدائمِ إن لم يحدثْ..

صفعتها بعدّةِ كلماتٍ مُنذُ أيّام قليلة، خِلتُ أنّها ستبكي بعدَ لحظةٍ واحدةٍ لا غير، بدأتُ أستعدُّ لتبكيتِ نفسي المعهود على "صفعاتي"..نَظرتْ إليّ مصعوقةً فاغرة الفاه كأنّها تتيقّن من سَمْعِها.. فابتسمت ..تلاشتْ صاعقتُها و بدأتْ بتبريرِ نفسها!

أصابتني الدهشةُ لبرودها المفاجئ، لكنّها برّرتهُ بأنني شخصٌ لا يمكنُ أن يثيرَ استياءَ أحدٍ..فأنا "طيّبة"..

ما أسذجَ بعض العقولِ حينَ تعتقدُ الطيبةَ في شخصٍ ما "غيرِ مُهتمّ"..لذا يدعُ الأمورَ دون تدقيقها، فقط لأنّها لا تعنيه..

جميلٌ ممارسة الغشّ على الآخرين دونَ أن يكونَ الغرضُ إيذائهم، بل الاحتفاظِ بنفسك -لنفسك بعيداً عنهم..

الموظّفةُ الأخرى.. شكواها مختلفة، هذا إن وضعنا في الحسبانِ أنّ أحاديثها الملفّقة -التي تتغيّرُ استناداً على تباشيرِ شكاوى الأولى- هي واقعٌ بالفعل!!

هيّ مجرّدُ هذراتٍ تُلهي بها عقلّها المريض الواثقِ تماماً أنّها شخصٌ غيرُ اعتياديّ في مكانٍ لا اعتياديّ لأمثالها؛ مكانٌ لا يليقُ بمواصفاتها الخارجةِ عن المألوفِ أبداً..لكنّ وجودها في هذا المكان ما هو إلّا " قلّة حظّ" و بعضٌ من أخطاء الآخرين - لا أخطائها هي طبعاً-.

أظنّ أنني اعتدتُ هاتان المخلوقتانِ إلى حدّ ما لأنني لا أرغبُ كثيرا بخنقهنّ! إنّما هي رغبةٌ تراودني في بعضِ تأمّلاتي الشيطانيّة مرّات ..عدّة!

اعتدتهم ، هذا صحيح ،فأنا نفسي – في كثيرٍ من الأوقات- لا أدعُ لهنّ حيّزاً و لو صغيراً للكلام، فأتحدّثُ و أتحدّثُ، و كلُّ حديثي كومةٌ من التفاهات.. لا بل و أغنّي أحياناً لا لسببٍ معلوم كالسعادة مثلاً.مثلما أصمتُ أيضاً كثيراً دون غايةٍ أو علةٍ إلّا المزاجيّة..لذا مثلما اعتدتهم، اعتادوني.

-3-

تقولُ لي سراب – صديقتي الأثيرة- و أنا أُسرُّ لها بعاهاتهنّ ضاحكةً، بأنني الوحيدةُ ذات الإعاقة بينهنّ، و أنّ تفكيرهنّ لا يعدو كونه مألوفاً لكلّ الفتياتِ على مدى حياتهنّ. أمّا تفكيري أنا فإنّه لا شيءَ أكثر من فاشلٍ متمثلّ بدماغٍ مثقوبٍ مهجورٍ، تسكنهُ الأشباح ؛يربطُ الليلَ بالنهار في لهاثٍ متواصلٍ للوصولِ إلى أدنى نُقطةٍ من جُدرانِ المدينةِ الفاضلةِ الخرافيّة التي غالباً ما أسخرُ منها إلّا أنها- و على حدّ قولها – مغروسةٌ في عمق تفكيري اللاواعي

فكّرتُ كثيراً بهذا الأمر، قلتُ لها أنّ دماغيَ ليسَ فارغاً أبداً، لكنّني حاولتُ..و فشلت.و أنّني غالباً ما أحاولُ و أفشل..

دائماً ما أشبّه نفسي بمن يطالعُ واجهاتِ المحلّاتِ في بحثٍ متواصلٍ عن رداءٍ يليق به،رداءٌ يحملُ الّلون المبتغى و التفصيلَ المرجوّ..يبحثُ، و هو مدركٌ في صميمه أنّ كلّ المعروضات لا تناسبه إطلاقاً ، و أنّ الجدوى من البحثِ ما هي إلّا تمسّك بالأمل.
تضحكُ سراب بسخريّة لاذعة ، أحبّها لأنّها تترافق مع نقدٍ صحيح و صادق :كيف ناسبَ جميعَ الناسِ، ما هو معروض، و لم يناسبنك؟؟

بدأت عندهاِ بسردِ كيفيّةَ رؤيتي للناسِ من حولي، كيفَ يعيشونَ بصمتٍ مُحتقنٍ داخلَ صدورهم ، يتمنّونَ بعجزٍ قاتلٍ، الكثيرَ من الأماني دونَ أدنى قدرةٍ على تحقيقها، و دونَ بصيصِ فِعلٍ مُرافق.

كيفَ يعيشونَ تحتَ أسقُفِ الحلمِ المستعارة في حالةِ بحثٍ دائمٍ عن أنصافِ الأحلام، عن شخصٍ لا يخجلونَ أمامه أن يكونوا "هم"بكامل الضعف و بالغ القوّة"، بظواهرهم البشريّة الهشّة، كلّها .بشخصٍ يعلمُ أنّ نقائصهم ليست "كارثة" و أنّ مزاياهم تكمن حقّاً هناك.

قد يرتضي الإنسانُ أحياناً أقلّ شيء أو يذهبُ بعيداً في تمنيةِ النفسِ و يقول: أكثره ، هوَ -حَسْبَ تفكيرهم- أفضلُ الموجود .صِدقاً أنّهم لا يفعلونَ ذلكَ برغبتهمِ الكاملة، إنّما يفعلونهُ درءاً لأشباحِ المجتمعِ العديدة التي تحومُ بسكونٍ متربّصةٍ بأعمارهم و أحلامهم، حتّى بأوقات راحتهم.و ربّما كوِجاءٍ من شبح"البقاء وحيداً" النقيضُ الأوّل للنفسِ البشريّة!

يا صديقتي، نحن نكرّرُ فكرة اكتفائنا التّام بنصفِ حُلم، نُعلنُ عنها في كلّ مناسبة.. لكنّنا لا نعني ذلك حقّا في أعماقنا.نحن نريدُ كلّ شيء كاملاً، و إلّا غامرنا بملازمةِ التعاسةِ و لبِسنا – على مدى العمرِ- ثوبَ الضحيّة..

لستُ مضّطرّة لذلك البتّة ..البتّة!

بصمتٍ هزّت رأسها، و نأتْ بهِ بعيداً عنّي..

أيّامٌ قلائلٌ مضتْ على هذا الكلام، وكأنّهُ كان محفوظاً بحذرٍ في عقلي الباطن، حتّى وافقتُ على لقائك..

-4-

لا شيءَ فيكَ يشدُّ الانتباه ، إلّا أنّكَ متحدّث..و بارع، يبدو أنّكَ وجدتَ فيّ مُستمعةً بارعةً..أيضاً.

كنتَ تتحدّثُ عن كلّ شيء و أيّ شيء، عن نفسك، عن الكتب، عن الآخرين..حتّى في السياسة (ذلك الحديث الذي طالما أخبرتك بكرهي له)، الغناء و ظواهر الطبيعة، تتحدّث في كلّ شيء دون توقّف..و أنا استمع، أصمتُ و ابتسم. لا أعلمُ أيّ وسيلةٍ استَخدمتُها قَمعتْ جُماحَ ثرثرتي التي تنتابني غالباً حينَ "أصدّق" أحدهم..
نعم ، لقد كُنتَ بارعاً بالكلامِ لدرجةِ أنّي: صدّقتك!

و أثبتّ أخيراً نظريّتكَ القائلة ببراعتي في الإصغاء، دون أن تدري. فلقد أصغيتُ كثيراً، كثيراً جدّاً، حتّى تكشّفتْ أمامي الطريقُ التي كنّا بها نسير..لألتفتَ و أجدكَ.. قد زرعتَهُ بالألغامِ طوالَ المسير..جاهلاً أو متعمّداً..كنت تثقبُ جسدَ الحقائقِ بالكذبات،كي تُضرمَ النارَ في نِقاطِ ضعفٍ كنتَ تخافها، و ظننتَ في إخفائها الحلّ.

ما كان حلّا أبدّاً..كانَ مُجرّدَ صخرةً جثمتْ على صدرِ الطريق، فأجهزت عليه.إرضائي لم يكن صعباً..لكنّك لم تثق في نفسك، أو ربّما أحببتها زيادةً فداريتَها حتّى المراوغة..
كُنتَ كاذباً بجدارة..و كانَ الصعبُ هو أن تكون: أنت!

قالَ لي والدي ذاتَ أُمسيةٍ بعيدةٍ، بعيدةٍ جدّاً، أنّ الإنسانَ مخلوقٌ حُرّ، حُرّ لدرجةٍ تمكّنهُ من ارتكابِ شتّى الأخطاء- وما عليهِ من إثمٍ إن فعل- لكن عليهِ أن يعي بدايةً، أنّ الندمَ على الخطأ، قيدٌ يُثقلُ العُمرَ كلّه إلى الأرض..ليدعكَ مَنهوكَ القِوى عن الطيران!
هي حياةٌ واحدة، أنا لا أريدُ أن أندم..

-5-

اليوم، عائدةٌ كنتُ من عملي.الطقسُ صقيعٌ و الشتاءُ صديقي الحميم. على عَتبةِ بيتنا، يجلسُ طفلٌ صغير، يرتجفُ من الحُزنِ وجهه، بَدنهُ يَهتزُّ مِنَ البردِ..جلستُ إلى جانبهِ بصمتٍ..أفرغتُ حقيبتي بكلّ ما فيها أمامي،لأهَبه ما اشتملتْ عليه. بينَ كمِّ الأقلامِ والمناديلِ و أدواتِ التجميلِ و ألواحِ الشوكولاته، رانَ لي منديلك.

رؤيةُ ذلكَ الولدِ ربّما، أو هوَ الشعورُ بالضّيق، ما آذنَ للدموعِ بغسلِ وجهي دونَ أن أشعر.

بكيتُ طويلاً جدّاً، موجةٌ من الهدوء غمرتني؛ لففتُ بذاتِ المنديلِ كلّ أشياءَ الصبيّ. وضعتها في يديهِ و دخلت..

تلك كانت، أوّل تذكِرة بك..و هذي الحروف ..هي منتهاها.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى