الثلاثاء ٢٠ شباط (فبراير) ٢٠١٨
بقلم عزيز العرباوي

عبدالله بلعباس، بين الحبر و الماء

خلال بداية شهر شتنبر الماضي، اتصل أعضاء من إحدى جمعياتِ الآباء بمدرسةٍ خاصة بالفنان المغربيعبدالله بلعباس، يستأذنونه في إحضار أطفال المدرسة إلى معرضه «حبرمائيات». كان الاتصال مفتوحا على كل الاحتمالات، خاصة أن الأمر يتعلق بأطفال صغار، و بمعرض تشكيلي، قد لا يعني لهم شيئا، لكن جواب الفنان كان هو الموافقة بدون أدنى تردد.

في الموعد المحدد كانت هنالك ثلاث سيارات نقل مدرسي تقف أمام المعرض، نزل منها أطفال لا يتجاوز معظمهم الثانية عشرة من عمره، ومنهم من كان سيلج معرضا للفنون التشكيلية لأول مرة في حياته. ذلك كان رهان الجمعية.

بعد قليل جاء الفنان تسبقه بساطته و ابتسامته العريضة. و لأن الأطفال كانوا سعداء بالتخلص من جدران المدرسة، وبهذه التجربة التي سيلتقون فيها لأول مرة، ربما، برسام يُفترض ألا يسمعوا عنه إلا في وسائل الإعلام، فلقد أحدثوا في البداية بعض الفوضى بفعل حماستهم الزائدة، وحاول كل منهم أن يستفرد بالفنان، و يصطفيه لنفسه.طلب منهم أحد المؤطرين أن يشغلوا زاوية واحدة من المعرض، و أن يجلسوا على الأرض، في شبه نصف دائرة، حتى يستفيد الجميع.
فاجأنا بلعباس بتواضعه، فاستوى على الأرض مقرفصا، و مد يديه خلف ظهره، و بدا عليه أنه كان مندمجا إلى أقصى حد. بدأ الأطفال يسألونه أسئلتهم البسيطة حينا و العميقة حينا آخر، و بدا أنه أصبح جزءا منهم.

اكتشفنا من خلال حواره معهم فنانا أنيق الروح، متوهج الأصابع، متواضعا و تلقائيا إلى أبعد الحدود...
كانت بداياته في طفولته المبكرة، داخل حجرات الدرس، حيث كانت لحظات الفراغ، أو لحظات الملل تتحول إلى لحظة مُنْتِجة، تبدأ عن طريق خربشات أولية على الورق، قبل أن تأخذ ملامحَ زميلٍ أو مدرسٍ.

قبل أن يعترفَ للصغارِ بهذه الأمور، استيقظ فيه التربويُّ( بالمناسبة هو مدرس سابق للفلسفة )، و انتبه إلى ورطته، فاشترط على الصغار، مقابل الكشف عن أسراره، وعدابألا يفعلوا مثله داخل حجرات الدرس.

أما السؤال التقليدي الذي يطرحه المتلقي غير المثقف، و الذي يكرهه جميع الفنانين، عن المعنى في اللوحة، فقد بدا،على وجه الفنان، التردد قليلا، قبل أن يحسم الأمر بينه و بين نفسه. شرح لهم،بلطافته و أناقته، أنه يفضل كفنان أن يترجم أفكاره في أعماله الفنية، و لكنه لا يرى ضيرا في أن يساعدهم قليلا، و راح ينشر لهم بعضا من أسراره كما لا يجوز لساحر أن يفعل.
كانت هذه الأحداث، بالنسبة لي، كاشفة عن زاوية جميلة في شخصية الرجل، فقد استطاع أن يندمج في عالم الصغار دون أن يبدو عليه أنه يبذل مجهودا. ألا يوجد في شخصية كل فنان أصيل طفلٌ يعلمه كيف لا يكبر؟

أما معرضه « حبرمائيات» فهو من نوع المعارض الموضوعاتية، اشتغل فيه الفنان، من خلال أربع و ثلاثين لوحة ضمها المعرض، على موضوعة مركزية، اختزلها عنوان المعرض، فالنحت اللغوي المتضمن في العنوان، بين لفظي الحبر و الماء يروي حكاية نحت عميق مارسه بلعباس لما لا يقبل النحت: الماء و الحبر. المادتان معا سائلتان، يتعذر، بشكل نهائي، تشكيل الأولى، أو تحويلها إلى مادة للعمل. ألا يتذكر كل منا الدروس الأولى في مادة علوم الحياة و الأرض، حيث نكتشف خواص الماء: « الماء سائل لا لون و لا طعم له »، فهو منفلت، إذن، من التشكيل. و من هنا التحدي. و لكن الماء هو أيضا الطبيعة. فهو عنصر سابق على الإنسان، تهبه الطبيعة، أو تشح به وفق قوانينها المادية أو الميتافيزيقية. و في جميع الأحوال لا دخل للإنسان فيه.

و هو كذلك الحياة، فهو الأصل ﴿و جعلنا من الماء كل شيء حي﴾، و هو الغذاء، لا تبدأ الحياة، و لا تستمر إلا به( نسمع عن معارك بطولية، يخوضها الشجعان، هنا و هناك، عبر الإضراب عن الطعام؛ و لكن لم نسمع أبدا عن إضراب عن الماء).

أما الحبر فهو، و إن كان سائلا و متضمنا للماء، إلا أنه مختلف عنه؛ لأنه يستدعي و يستلزم الفعل البشري، فلا يكون حبرٌ إذا لم يكن هناك فاعل يصنعه.و هو أيضا الكتابة. هو،بالتالي، الأداة التي ساهمت في خلق التراكم البشري الذي كان ضروريا لبناء الحضارة. إنه، إذن، الثقافة في مقابل الطبيعة.

لكن بلعباس لم يكتف بأن نصب كمينا تلتقي فيه الطبيعة و الثقافة بشكل يكاد يكون متعذرا، بل استضافت لوحاته كذلك الجسد البشري، خاصة الجسد الأنثوي. صحيح أن الحضور البشري لا يرتبط فقط بالأنثوي، و لكن الأنثوي، فيما يبدو لي، هو الأكثر حضورا. فهنا و هناك، عندما تتمعن في اللوحات، و تمنع نفسك من السفر الغامض الذي يفرضه عليك إيقاعها، تكتشف أن هناك خطوطا و منعرجات توحي بالجسد الأنثوي العاري. هل يتعلق الأمر بتناقض؟ أم أنها ثالثة الأثافي، بها يستقر إناء الإبداع على نار هادئة، لينتج لوحات تسافر عبرها العين، و تسافر فيها الروح.
لقد كان الجسد الأنثوي حاضرا في أقدم التعبيرات البشرية، و منذ أولى الحضارات. و قد فهم الإنسان البدائي، بشكل غامض، العلاقة بين المرأة و الطبيعة، فهي حاملةٌ لأسرار الولادة، و أثداؤها هي الغذاء الوحيد للإنسان في أوله و لمرحلة طويلة. و بهذا نفهم نحن أيضا هذا التداخل بين العناصر الثلاثة، حيث يعلو الإنساني على الطبيعي طورا، و ينخفض عنه طورا آخر.
التحدي الآخر الذي كان يواجه بلعباس هو ترويض العلاقة الملتبسة بين الماء و الحبر و القائمة على التنافي بينهما. فالحبر يستغل الماء، بما هو أحد مكوناته، و يكتب تاريخه، الذي هو، بمعنى ما، تاريخ البشرية. و لكن الماء يمحو الكتابة من خلال قدرته على محو الحبر. هو، إذن، اختيار الإقامة بين المحو و الكتابة، بين الوجود والغياب، بين أن أكتب أو أن أمحو، أو أن أعْلَـقَ بينهما، متشظيا بين الولادة و العدم.

تقنيا كان لا بد أن يستعين عبدالله بالصدفة الخالقة، فعندما ندمج عنصرين سائلين على قطعة من الورق الأبيض، لا بد أن يمرَّ إلى العملِ جانبٌ غير مُفَكَّرٍ فيه. و لكنه جزء من الفعل. و هكذا بين القصدية و العفوية تنكتب اللوحة ببلاغة الماء و الحبر حيث الاندماج و الاصطراع، و حيث الإنسان متوارٍ أو ظاهرٌ بينهما و بهما، لكن مفتـقـرٌ، في كل الأحوال، إلى الاكتمال، فتحولَ الـمُنْجزُ إلى أوراق بيضاء، من الحجم الصغير، حافظت بعناد على جزء كبير من بياضها، و لكنها استضافت امتدادات لسواد يتفكك، و تخف حدته بفعل الماء حينا، أو تتكثف، فتفرض نفسها على العين المتلقية، حينا آخر، بفعل غلبة الحبر، و تنجح الخطوط في استضافة الجسد البشري في هذا الاندماج المثير. و لم يكتف عبدالله بالحبر الأسود، بل دس فيه، بحنكة، ألوانا أخرى، خلصته من رتابته و من قتامته، و فتحته على بهاء ليس من اليسير الإمساك به.
عبدالله والعيد ــ الجديدة ( المغرب )15 نونبر 2017
ملحوظة: الصور المرافقة هي صور ملتقطة بعدسة الصديق عبدالله سليماني. و هو محافظ مكتبة عمومية بمدينة الجديدة )المكتبة الوسائطية التاشفيني(. إضافة إلى أنه حكواتي و ناشطجمعوي. يمارس التصوير على سبيل الهواية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى