الأربعاء ٢٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٢
مصافحة..
بقلم بلقاسم بن عبد الله

عبد المجيد مزيان و بعدنا الحضاري

..وهل كتب فعلا كل ما ينبغي أن يكتب عن المفكر الجزائري المرحوم عبد المجيد مزيان، عن حياته وأعماله، وعن جهوده الجبارة لتجديد الفكر الخلدوني وإبراز بعدنا الحضاري؟.. تساؤل مثير للجدل يطرح من جديد في ذكرى وفاته في 15 جانفي 2001عن عمر يناهز 75 سنة. واليوم تظل عدة جوانب من حياته وأفكاره في حاجة ماسة إلى مصافحة جديدة و إضاءة كافية من طرف الباحثين والكتاب المهتمين.

وإذا كان ولا بد من تعريف مختصر، فهو من مواليد مارس 1926 من عائلة عريقة بتلمسان حيث ترعرع وحفظ القرآن الكريم في التاسعة من عمره، وتعلم مبادئ اللغة العربية بدار الحديث ودروس اللغة الفرنسية بالمدارس العمومية،وبعد سنة 1946 انتقل إلى مدينة الرباط بالمغرب الشقيق ليواصل دراسته في جامعتها ويتخصص في الفلسفة.

ومع اندلاع شرارة الثورة التحريرية المجيدة إلتحق بصفوف النضال والكفاح حيث كان يعرف باسمه الثوري صالح الدين، وعينته قيادة الاتصالات العامة آنذاك (النواة الأولى للمخابرات الجزائرية) للعمل في إذاعة الجزائر التي كانت تبث من تونس..

و بعد الاستقلال تقلد عبد المجيد مزيان عدة مناصب في الدولة، حيث عمل مدير ديوان الرئيس الأسبق أحمد بن بله بالتوازي مع شغله منصب الأمين العام لوزارة الداخلية، قبل أن يتحول إلى جامعة وهران للتدريس في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين. ونصب عام 1981 عميدا لجامعة الجزائر قبل أن يعينه الرئيس الشاذلي بن جديد وزيرا للثقافة ثم وزيرا للثقافة والسياحة. واختاره بعدها الرئيس اليمين زروال لرئاسة المجلس الإسلامي الأعلى الذي بقي فيه إلى أن وافته المنية رحمه الله يوم 15 جانفي 2001 وقد لقبه رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة في برقية التعزية بأنه عمدة علمائنا الأعلام وزينة مثقفينا الأفذاذ..

ويعتبر الدكتور مزيان من بين أبرز علماء العالم العربي الذين عملوا من أجل ترقية حوار الحضارات، وكان يدير ندوات للتعريف بالإسلام بمعهد الدراسات العربية العليا التابع للفاتيكان، إضافة إلى تقديمه حصصا عن الإسلام على القناة الفرنسية الثانية.وعرف باهتمامه الكبير بالعلوم الإسلامية وتجديد الفكر الخلدوني،وله أطروحة ضخمة حول الفكر الإقتصادي عند ابن خلدون.مما أهله عن جدارة لأن يصبح عضوا في بيت الحكمة بتونس وبالأكاديمية العربية بالقاهرة، والأكاديمية الملكية المغربية وأكاديمية اللغة العربية بالجزائر.

و يعود بي اليوم شريط الذكريات إلى ربيع سنة 1994 عندما أجريت مع أستاذنا الدكتور عبد المجيد مزيان حوارا إذاعيا مطولا قدم على مدى ثلاثة أسابيع متتالية في برنامج "دنيا الأدب" بالإذاعة الوطنية، ثم في حصة "حوار مؤانسة" بإذاعة تلمسان الجهوية، واستأثر باهتمام المثقفين و المهتمين، لما يتميز به من أفكار صريحة جريئة حول الواقع الثقافي. والجامعة و البحث العلمي، ومكانة الإبداع الأدبي في المجتمع.

و قبل ذلك، كنت قد أجريت حوارا قصيرا مع الدكتور مزيان في شهر ماي 1984 عندما زار ولاية وهران بصفته وزيرا للثقافة و السياحة، و قد نشر وقتئذ بجريدة الجمهورية، وأعادت نشره كاملا مجلة "الثقافة" في عددها 82 لشهري يوليو-أغسطس 1984 تحت عنوان: "القافلة الثقافية و ملحمة الثورة".

و نعود الآن إلى حديثنا الإذاعي الذي لم ينشر من قبل، وقد دفعتني المناسبة إلى البحث عن الشريط و الاستماع إليه، لتقديم مجمل الأفكار الجريئة الصريحة الواردة فيه والمتعلقة بتضاريس الواقع الثقافي الجزائري.

بعد مصافحته وتقديمه بطبيعة الحال، سألته في البداية عن واقعنا و مدى ارتباطه بتطورنا الحضاري. فأجاب بهدوئه المعتاد:

قضية الثقافة هي جزء من قضية المجتمع ككل. الثقافة لها و جوه عديدة، في الفكر و الإبداع الأدبي و الإنتاج الثقافي. و من جهة أخرى هناك أرضية تنظيمية لابد منها. فالثقافة لا تنبت إلا في مجتمع قد وصل إلى درجة من الحضارة، عمادها الإنتاج الفكري.

وقد سعى الاستعمار الفرنسي على أن ينزع من الشعب الجزائري كل المؤهلات الثقافية، و بقيت هناك ثقافة شعبية، لم نكن طبعا في مستوى الثقافة الحقيقية العالمية. و حينما برزت للوجود بعض الكتابات الأدبية، كانت معظمها بالفرنسية، وكانت ثقافة نخبوية. و القلائل الذين كتبوا بالعربية لم يكونوا في مستوى الإنتاج الثقافي العالمي.

وحينما جاء الاستقلال، ومعه تعميم التعليم بكل تعثراته و بكل تجاربه، تأسست جامعات هنا و هناك، ودخلنا مرحلة الإنتاج الثقافي المتميز.

و أعود لأساله عن الأسماء اللامعة التي صنعت مجد الأدب الجزائري المعاصر، وعن طبيعة وأهمية هذا الإنتاج الثقافي. فيقول:

هناك أسماء أدبية لامعة حقا، ولكنها لا تضاهي مثيلاتها في المشرق العربي مثلا. وقد دخلنا الآن مرحلة جديدة يعتمد فيها الإنتاج على المؤهلات الشخصية، لان الدولة أظهرت أنها لا تنتج العبقرية و العبقريات بالتعليم فقط.

فالثقافة تتجاوز ما نسميه بالمؤهلات التعليمية، فلا بد من الانتقال إلى مرحلة الإبداع الحقيقي الخلاق الذي يمكننا من أن نصل إلى المستوى العالمي المنشود. لا يكفي أن يكون الإنسان مبدعا لمجتمعه فقط، بل لا بد أن يصل إلى مستوى أعلى.

و اسأل الدكتور مزيان: هناك الثقافة المكتوبة بالعربية و المكتوبة بالفرنسية، والثقافة الشعبية المتنوعة. و مع ذلك تطرح إشكالية النشر، و تلك معاناة أخرى تواجه عامة الكتاب في بلادنا منذ سنوات عديدة...يصمت الأستاذ قليلا قبل أن يجيب.

تلك تجربتنا في ظل الدولة ذات الحزب الواحد، كانت هناك دار نشر واحدة حتى سنة 1985 و ساهمت إلى حد ما في تشجيع الإنتاج الأدبي والثقافي. في ظرف تغلب الجانب الاقتصادي على الميدان الثقافي. و مع ذلك، وصلت الدولة إلى إصدار حوالي مليون كتاب سنويا، من الشرق و الغرب معا.

بالإضافة إلى ملتقيات عديدة ومهرجانات أدبية وثقافية، ساعدت الكتاب على تطوير انتاجاتهم المختلفة، فعجزت مجالات النشر عن احتواء هذه الوفرة، بما لها وعليها.

و أقاطع جليسي مزيان: و لكن الإبداع الحقيقي الخلاق لا ينمو ويزدهر إلا في ظل الحرية..فيبادر بالحديث ويسترسل:

لابد من الحرية حقا، و لابد كذلك من التنافس الايجابي. ووعي الكاتب برسالته في المجتمع. فالثقافة عبارة عن تنافس حميد، و الكاتب الحقيقي يتميز بإبداعه و عبقريته، و هو فوق المستوى العادي، فهو شخص يدخل أفكاره إلى أدمغة الناس بقوة الإقناع، وبتميز الأسلوب. فيتهافت القراء على اقتناء وقراءة كتبه أو كتابه، أو كتاباته،
و المجتمع الجزائري عموما له مؤهلاته و تجاربه، و تفتق الإبداع الحقيقي يحتاج إلى حرية واعية. فلا ثقافة بدون حرية.

ننتقل بجليسنا الدكتور مزيان إلى إشكالية البحث العلمي في الجامعة الجزائرية، هل تستجيب البحوث المقدمة لحاجيات المجتمع في مسيرة التنمية و التطور العلمي و التكنولوجي؟..يصمت الأستاذ قليلا قبل أن يجيب:

لقد حرصت الدولة منذ السبعينيات على تشجيع البحث العلمي، وان يكون مرتبطا أساسا بالمشاريع الاقتصادية المختلفة، و هناك جامعات و مراكز عديدة للبحوث العلمية في شتى الميادين. هناك بحوث و دراسات عديدة أنجزت في مختلف مجالات الثقافة والمعرفة. ولكن المشكلة الأساسية تتمثل في المقروئية.هناك مطبوعات محددة يقرأها عدد قليل من المتخصصين. سواء كانت تلك الأعمال بالعربية أو بالفرنسية أو حتى بالانجليزية على قلتها. و يظل المجتمع الجزائري في حاجة متزايدة إلى البحوث العلمية في شتى الميادين الفكرية والعلمية و الاقتصادية.

و أقاطع الأستاذ مزيان: ولكن هناك رسائل وأطروحات جامعية تناقش ثم تنام على الرفوف، يغطيها الإهمال والنسيان وبالتالي، أين هم قراء تلك البحوث الجامعية؟.. فيجيب على الفور:
عدد هؤلاء القراء محدود جدا، يتمثل أساسا في بعض الطلبة أو الأساتذة الذين يهتمون بهذه المادة أو تلك. و من هنا تظل حاجتنا ملحة نحو البحث العلمي، و تتمثل في مسؤولية الدولة و حاجيات المجتمع.

و اعتقد بان الحاجة الاجتماعية الاقتصادية هي التي يجب أن تسير البحث العلمي، عندما يرتبط هذا البحث بدوائر محدودة من الطلبة و الأساتذة الذين برمج لهم بحث علمي بسبب الاتجاه الجامعي أو توجيه الدولة، تظل تلك البحوث قضية نخبة محدودة ليس لها تأثير في المجتمع. ولهذا تكون في اغلب الأحوال، الجامعة في واد و المجتمع ككل في واد أخر..فالمجتمع الذي يتكون غالبيته من فلاحين و عمال وطلبة و أساتذة ليس لهم أي اتصال بالبحث العلمي الفعال الذي ينقل المجتمع من ثقافة معينة إلى مرحلة اجتماعية و ثقافية أخرى، يعني هناك انعزال لهذه الدوائر العلمية المنتجة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى