الأربعاء ٦ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم خضر أبو جحجوح

عذاب الشعر وهموم الشعراء

كثير من الناس لا يعرفون مدى ما يكابده الشاعر، من لحظة ميلاد إحدى قصائده، ومحاولة إلقائها على مسامع الجماهير، إلى أن تتكامل مع أخواتها في مجموعة شعرية تُحمّله هموما لا تنفك تؤرقه وتعذبه، ليستحيل الشعر عذابا لا يرى منه الناس إلا جمالياته المصوغة أمامهم في الكتب، والملقاة على سمعهم، في الندوات.

فنحن حينما نقرأ قصيدة جميلة فإنها تشدنا إلى أفياء المتعة، وتجليات الدهشة، ومسارب الانبهار، وتحملنا على جناح الخيال المحلق إلى عالمها، حيث بؤرة الكثافة التي تبلورها، وإشعاع اللطافة الذي انبعث منها.

ذلك هو دأب المتذوقين الشعرَ، المحبين رونقَه وجماله وبهاء صوره وتشكيلاته، على اختلاف درجاتهم في حبه وتذوقه، وإن كان بعضهم مع ذلك الحب كله، بما يصاحبه من ارتشاف رحيق المتعة، وشذى الانبهار نجد القليل منهم من يكلف نفسه عناء شراء ديوان شعري لشاعر يحبّه أو تشجيعا لشاعر يتوسم في إنتاجه جمالا كان قبل هنيهة يشده إلى عالم المتعة وبحر التأثر وموج الانفعال، ولكنه في الوقت عينه يحب أن يصله الكتاب هدية ممهور بإهداء لطيف، وتوقيع خفيف للذكرى والتباهي أمام الأبناء والأصحاب بأنّ الشّاعر يخطب وده، ويسعى جاهدا لاسترضائه والتقرب إليه، وهو يحب ذلك لا لضيق يد، وشدة حال، وقلة مال؛ فهو من ذوي اليسار والجاه، وقد يكون من أهل التخصص، وهو – مع ذلك كله- مستعد لأن يدفع عشرين ضعفا من ثمن الكتاب لشراء وجبة من لذيذ الطعام الذي يملأ به معدته، أو يكرم به أضيافه من علية القوم وسادتهم، أو يتفاخر به على أقرانه حين يلقاهم، وذلك حقه الذي لا ينازعه فيه أحد، ولكنّ متعة الحياة لا تقف عند حدود المأكل والملبس، أما ما يقدم له متعة النفس، وشعلة النشاط وغذاء العقل فهو يكتفي منه بالاستماع للاستمتاع، ناسيا أو متناسيا أن دريهماته التي قد يبذلها لشراء مجموعة شعرية تضم أشعارا كانت نفسه تهواها وتنسجم معها، ويداه تتراقص وهي تصفق لها عند سماعها، سيعمل على تشجيع هذا الشاعر أو ذاك؛ فيزيدهم اندفاعا لإطلاق أشعارهم، وشحن تجاربهم، وتقديم أفضل ما لديهم من تشكيلات جمالية للتأثير والإمتاع والتغيير، ومع ذلك تجده يحبّ أن يقتني الكتاب موهوبا، حتى إن عديد ما يطبع من الدواوين الشعرية لا يتجاوز في الغالب ألفا من النسخ، وفي أحسن الحالات ألفين، وغالبا ما يقدمه صاحبه للطباعة على نفقته الخاصة يوزع العدد الوفير منها على مثل هذا الذي يعشق الشعر، ويتذوقه ما دام لا ينفق مقابل متعته مالا، وبعضها يجد طريقه إلى مكتبات أناس نذروا حياتهم لتتبع منابع الجمال ولو كلفهم ذلك مالا وفيرا، فما بالك بديوان شعر ثمنه زهيد وجماله منه يفيض، ولكنهم معدودون قلة في الوسط الاجتماعي ويبقى الجزء المتبقي سنوات حتى تمنّ عليه يدٌ حانية يفكر صاحبها باقتنائه، ثم ينفد تدرجيا بعد أن يكون الملل قد بدأ يتسلل إلى نفس صاحبه الذي يصرف - في كثير من الأحيان- نظره عن المجازفة بطباعة كتاب آخر، إلا أن يكون من ذوي الهمم العالية الذين لا يتسلل ثعبان الملل إلى قلوبهم، فيستمر في دفع نتاجه للطباعة والنشر على نفقته الخاصة كلما سنحت الفرصة، دون أن ينتظر أحدا من الناشرين أو المتبرعين أو ذوي الجاه والسلطان الذين يعتبرون الشعر والأدب عموما بضاعة كاسدة سوقها لا تغطي نفقات الورق والحبر الذي يدفع لطباعة الكتب.

ويتساءل ببراءة شاعر ملأ الخيال وجدانه، حتى فاض من مشاعره على أفكاره، لماذا لا يفكر الناشرون بطباعة دواوين الشعر التي تستحق أن تطبع؟! فيأتيه الجواب ردا على تساؤله الذي ألقاه كوردة الربيع على أحد الناشرين، حيث يعتدل في جلسته ويرفع رأسه عن أوراق مليئة بأرقام وحسابات وهو يقول : يا عزيزي، نحن في زمان لا يجد الشعر فيه سبيلا إلى بيوت القارئين الذين يزهدون في القراءة والاطلاع، ولا يفتشون عن مصادر الثقافة والإمتاع مقابل المال، ونحن الناشرين لا نجازف بأموالنا في طباعة كتاب ربحه زهيد وغير مضمون، فيكتم مرارة يغص بها حلقه، ولا يستطيع مواصلة الحوار الذي يصبح إن زاد عن هذا المقدار توسلا واستجداء، ويستأذن بالانصراف، ثم يمضي وقد نبت برعم جديد من براعم همومه المتصلبة على صفحة ذاكرةٍ مريرة، فلا الناشرون ولا الموسرون مستعدون للتضحية بدراهم معدودة في سبيل الارتقاء بالمشهد الأدبي، وتنزلق على صفحة خياله أيام خوالٍ كان فيها الشاعر يقول قصيدته فيتسارع الرواة بتناقلها، والأمراء يرفدونه بكيس من المال، وهو على مشارف القرن الواحد والعشرين في زمن التقدم والمدنية لا يطلب مالا بالشعر، ولا يتكسب بالمديح، ولكن كل ما يطلبه مزيدا من الاهتمام بنشر قيم الجمال والخير التي تشع من خلاصة تجربته المريرة التي يعيشها ليمنح الآخرين لحظات متعة وانفعال، وهم لا يعرفون مدى عذاباته، يريد أن يتجاوز الحصار الذي يمنعه من التحليق والانتشار كالبلبل الصداح والسنونو عاشق الرحيل الذي لا يكاد يهدأ إلا ساعة الوسن، يريد الانعتاق من ربقة المحسوبية التي تقدم أناسا مبتدئين، وآخرين دونه في مستوى الإدهاش والتشكيل، والقدرة على تطويع الصور وصهر مخزون التجربة المحترقة بنار العذاب، الذي لا يحس به ناشر مشغولٌ بنشر كتب تعود عليه بالمنفعة المادية حتى لو لم تكن لها قيمة ثقافية أو جمالية، ولا يتلمس وهجه مسئول لا يعنيه من الشعر إلا أمسية شعرية، أو نشرة ثقافية تزينها قصيدة قد لا يكون اطلع عليها –أصلا- تنضافان إلى أوجه النشاط التي يسجلها في ملف إنجازه العملي حتى لو أديرت بأناس لا شأن لهم بالشعر والأدب، وهو لا يفكر في أن يخصص جزءا من ميزانية مؤسسته لنشر كتاب شعري، فالشعر والثقافة سلعة كاسدة لا تستحق الدعم والمؤازرة.

ويحمله قارب الهموم إلى دوامة أمل انبثق من إعلانٍ قرأه عن افتتاح إحدى المؤسسات الثقافية التي تطرح نفسها داعما له ولأمثاله من الأدباء والشعراء، فيتخفف من همومه بحذر فطالما عاش مثل هذه اللحظات قبل أن يغرق أمله في وهدة الخيبة، ولكن الأمل تراقص في قلبه وتفتحت أكمام التفاؤل، فقرر الاتصال بالمسئولين عن تلك المؤسسة بعد أن جهز نسخا ناجزة لديه من مجموعاته الشعرية وبعض مؤلفاته النقدية، لعلها تحظى بشرف الانفتاح على قطاع من الجماهير، فقد توسم في تلك المؤسسة بادرة حسنة ستكون جسره للتواصل والانفتاح والانطلاق، فحاورهم في الأمر فجاءه الجواب صدمة صاعقة إذ اكتشف أن تلك المؤسسة لا يعنيها من دعم المثقفين والشعراء سوى شعارٍ تطرحه لتسد به فراغا ونقصا في الميدان، واكتشف أنّ تكاليف طباعة كتاب لدى تلك المؤسسة يفوق إمكاناته الشخصية، وزاده صدمة على صدمته أن تلك المؤسسة لا تمد يد العون إلا لصاحبها وبعض المقربين منه والعاملين معه، ولمن يستطيع أن يغطي نفقات الطباعة من الشعراء الموسرين، فهو ملكي أكثر من الملك ضيع الأمانة، وغطى عجزها بنشرات وشعارات يقدمها للمسئولين عنه في ملف من الإنجازات يفوق ما يقدمه على أرض الواقع أضعافا مضاعفة،

سمعت يوما مسئولا متنفذا في مجال الثقافة، سئل في لقاء تلفزيوني: لماذا لا تخصص جزءا من موازنة المؤسسة لنشر الكتب والمجموعات الشعرية فقال: إن آخر ما نفكر فيه هو نشر هذه الكتب فنحن نصنع ثقافتنا وصناعتها لا تكون بالنشر، إي والله ذلك ما نقش في ذاكرتي، ولا أدري كيف سيصنع ثقافة وهو لا يفكر بنشر الكتب التي تحمل هذه الثقافة، وي كأني به قصد جانب الطعام والشراب والولائم من مفهوم الثقافة العامة.

ثم يمضي الشاعر لعله يجد في تجمعات الكتاب واتحاداتها ما يؤنس وحشته، ويفكك شفرات غربته، وطلاسم حرقته، مع رفاق القلم؛ فهم خير مؤنس ونصير فهم أناس عاشوا تجارب أدبية كتلك التي عاشها، وصهرتهم كما صهرته، ولكنّ عصا الأمل تنقلب تحت خيمة الخيبة فيقع ما بناه من وهم على رأسه كخيمة تتقاذفها الريح في يوم زعزع عاصف، فرفاقه يتعاملون بالمنطق عينه الذي يكرس واقع التشرذم الثقافي والتفكك الأدبي، فقد وجد المحسوبية ضاربة بأطنابها تقدم هذا، وتقصي ذاك وتقزم أولئك، ووجد الأحاديث والهموم كومة من المجاملات ووجد الحبر الذي يسيل على بعض الصفحات حبرا مستأنسا بعضه، ومزيفا بعضه الآخر، ووجد فيما ينشر ركاما لا يستحق ثمن الورق والحبر، فيصاب بالدوار ولا يفيق إلا على صوت صاحبه وهو يسلمه دعوة لحضور ندوة شعرية يتخللها مقاربات نقدية، فينشرح قلبه ويتوجه إلى قاعة الندوة ليمتع نفسه بمشهد يمتزج فيه ألق الأداء بروعة النقد، ولكنه لم يجد ما يتوقع فلا نقد ولا تحليل فكل ما هنالك مجاملات سطحية وانطباعات شخصية، وينكفئ راجعا يحمل في نفسه همومه وطموحاته يحلم بأن يتغير الحال فيزدهر الاهتمام بالشعر والأدب فتدور عجلة النشر والتوزيع، ويخصص المتنفذون في ميدان الثقافة قدرا من الاهتمام بالشعراء، وتمّحي المحسوبية من الدوائر المعنية، والمؤسسات المتخصصة، ويصبح النقد مجالا لسبر النصوص واستكناه جمالياتها، وتتشكل لجان من ذوي الذوق الرفيع لتمحيص إنتاج المبتدئين، ليستوي على سوقه قبل أن يدفع للمطبعة، ويترفع ذوو اليسار من محبي الشعر عن الاكتفاء باستقبال الإهداءات بل يسهم كل واحد منهم في شراء عدد من النسخ يقوم هو بدوره بتوزيعها دون أن يكلف الشاعر ما لا يطيق، وتزدهر الصالونات الأدبية لتصبح ميدانا خصبا لتقديم الجمال الشعري وإثراء المشهد الأدبي والثقافي. عسى أن يكون قريبا ذلك اليوم الذي يبسط فيه الشعر سلطانه جمالا وحقا وخيرا وإدهاشا. فيحوز دعم الداعمين، ومؤازرة ذوي اليسار والمسئولين. ويبقى في الأفق شعاع من الأمل في تجمعات ناشئة، وجهود حثيثة تسعى لتصحيح المسار وإزاحة الهموم عن كاهل الشعراء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى