السبت ٣٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

عمارة يعقوبيان - بين الواقع الجنسي والخيال الروائي

هي رواية فنية كباقي الروايات، ولكنها أكثرها قراءة ومبيعًا في أيامنا مع أن مواضيعها التي تطرحها ليست جديدة ولا تختلف كثيرًا عن أي من روايات الواقعية الاجتماعية. وما يميزها عن غيرها أنها أكثر الروايات جرأة في تناول ما كان محرمًا، وأكثرها كشفًا وتصويرًا للعيوب التي عمت ولا زالت تعم المجتمع المصري منذ قيام الثورة –ثورة يوليو 1952م أو ما تعرف بثورة الضباط الأحرار- وحتى يومنا هذا. فها هو كاتبها –علاء الدين الأسواني- يعطينا صورًا لشخصيات متنوعة انتقاها لتُنتَدبَ عن الشرائح المختلفة التي يتكون منها المجتمع المصري، بدءًا بصورة البواب البسيط وانتهاءً بصورة الغني الكبير الذي ارتقى إلى أعلى درجات السلم وظل يتطلع إلى احتلال مناصب مرموقة وزيادة ثروته بكل الطرق الممكنة.

ونجح الأسواني في استخدام أسلوب المقارنة والمقابلة الذي يلفت انتباه القاريء ويزيد من اهتمامه، ليبين الأوجه المختلفة للجسم الذي رسمه في خياله، حتى يمكن القاريء من فهم رسائله وإصدار حكمه النهائي على الحالات الغامضة التي يعيشها الفرد المصري بعد أن تكشف أمامه الحقيقة. فنراه يعرض لنا صورة للمرأة المتدينة تقابلها صورة أخرى للمرأة العلمانية.. وصورة للمسلم تقابلها صورة للمسيحي.. وصورة للجنس الطبيعي تقابلها صورة أخرى للشذوذ الجنسي.. وصورة للغني وأخرى للفقير.. وصورة للرجل المتشدد في تدينه تقابلها صورة أخرى لعلماء السلطة.. وصورة للحياة البسيطة تقابلها حياة الترف والبذخ والإسراف.. وصورة للفساد في الجهاز الإداري تقابلها صورة للحياة الديمقراطية السائدة في أوروبا (وهذا ما جاء على لسان شخصيات الرواية).

ولما جاء العرض لهذه الرواية بطريقة أفقية لعمارة قائمة بشكل عمودي، أسلوبًا جديدًا في التعبير الذي أشبه ما يكون بمشاهِد مسرحية تعرض على خشبة المسرح، فإن كشف الأبدان وتعرية الشخصيات وممارسة الجنس كلها جميعًا قد أعطت الرواية زخمًا قويًا واهتمامًا زائدة لما فيها من متعة للقاريء الذي يرسم في نفسه الصور الذهنية التي يتحدث عنها الكاتب وكأنه يشاهد فيلمًا من أفلام الجنس السينمائية. ولا يمكن أن ينكر أحد أن في "العري" "والجنس" دلالات رمزية واضحة أراد بها الكاتب أن يعبر عن سخطه على ما يتستر به أو وراءه الفساد في المجتمع بكل فئاته. فنراه تارة يدخل إلى بيوت الأغنياء ويطلعنا على ما يجري داخل الحمام وعلى فراش الزوجية من حب بين الرجل وزوجته ثم ينتقل بنا إلى الحب والغرام السري الذي يمارسه الرجل دون علم زوجته.. وتارة أخرى يدخل إلى بيوت الشواذ ويكشف لنا عن سوءاتهم وطرق ممارستهم للجنس الذي يخالف الطبيعة البشرية ثم يتوجه إلى بيت الرجل المتدين ليكشف عن طريقة ممارسته للجنس وفقًا للشريعة الإسلامية.

إذن فقد جمعت الرواية بين عنصرين هامين وقويين في آن واحد.. عنصر التشويق من خلال الانقطاع المفاجيء من الحدث- وهذا عنصر مسرحيٌّ- وعنصر الاستمتاع والتلذذ من العرض السينمائي لموضوع الجنس الذي طالما امتنع الكتاب والأدباء من الخوض في أعماقه وتناوله بالتفصيل – كما هو الحال في هذه الرواية-في كتاباتهم حرصًا منهم على مراعاة مشاعر المجتمعات العربية المحافظة، ودرءًا للمخاطر التي قد تنجم عن فعل ذلك، وخوفًا من المجهول الذي قد ينتظرهم حين يسيرون في اتجاه معاكس للاتجاه الذي يسير عليه كافة أبناء الشعب.

تتكون الرواية من قصص فردية مستقلة لا علاقة للشخصيات الرئيسية فيها اللهم إلا ذلك المكان الذي اجتمعوا ليعيشوا فيه، وذلك الزمان الذي أتى بهم ليعطي كل واحد منهم حصته التي يستحقها وفقًا لمهارته في الحياة.. ولا ننسى أن عتب الكاتب وحتى الشخصيات ينصب على الزمان الذي غيّر الأحوال من سيء إلى أسوأ وإلى أسوأ من الأسوأ فجعل ماسح الأحذية يرتقي إلى أعلى المراتب.. وأذكى الطلبة يُرفض طلبه للالتحاق بالكلية العسكرية لتخريج الضباط لكونه ابنا للبواب ثم يُزجُّ به في السجن ويُنتهك عرضه.. وأغنى الأغنياء يهاجر من مصر أو تصادر أملاكه.. والمخنث يصبح إعلاميًا مشهورًا أو أن العبد يضاجع سيده كما جاء على لسان الشخصية.. ولم يبق لبنات الحي إلا وسيلة واحدة وهي ممارسة الجنس والزنا من أجل تحصيل لقمة العيش أو من أجل إعالة الأطفال في العائلة الفقيرة وإنقاذهم من الهلاك.. فأي زمان هذا الذي قلب الدنيا رأسًا على عقب.

1) ومع أن الأسواني يشكك في أكثر من موقع في روايته في صدق ومصداقية الأفلام المصرية التي لا تنقل الحقيقة والواقع كما هو وبصورة موضوعية.. "إن الدنيا شيء وما تراه في الأفلام المصرية شيء آخر" [1].. إلا أنه يحاول أن يعرض الحقيقة بقوله إن الناس اليوم يعيشون في عالم تحكمه الشهوات .. فالمثقف كالمهندس "زكي كمال الدسوقي" تتمحور حياته حول كلمة واحدة – "المرأة .. إنه واحد من هؤلاء الواقعين تمامًا ونهائيًا في قبضة الأسر الأنثوي اللطيف والمرأة بالنسبة إليه ليست شهوة تشتعل حينًا ويتم إشباعها فتخبو وإنما عالم كامل من الغواية التي تتحدد في صور لا نهاية لتنوعها الفتان: الصدور العامرة المكتنزة بحلماتها النافرة كحبات العنب اللذيذ ، المؤخرات الطرية اللدنة المترجرجة .... " [2]

فإذا كانت هذه حال الطبيعيين من البشر أمثال فإن حال الشواذ منهم – أمثال حاتم رشيد- أسوأ من ذلك بكثير فهم يجتمعون كل يوم في بار "شينو" – وهي كلمة فرنسية – معناها "في بيتنا" لاحتساء الجعة المثلجة : "لكن السكارى في شينو تستبد بهم الشهوة مع النشوة ويتبادلون كلمات الغزل والنكات القبيحة وقد يمد أحدهم أصابعه ليداعب بها جسد صديقه " [3]

وحتى أن أصحاب العمل يطاردون عاملاتهم ويستغلون فقرهن وحاجتهن للمال كل ذلك من أجل إشباع شهواتهم : " إن أكثر من 90% من أصحاب العمل يفعلون ذلك مع البنات العاملات لديهم وإن البنت التي ترفض تطرد وتأتي بدلا منها مائة بنت تقبل " [4]

2) أما إذا كان الرجل غنيًا ويملك ثروة طائلة ونفوذ هائل – كشخصية الحاج عزام- فإنه يبحث على تصريف شهوته الجامحة سرًا وبالحلال: " لكن الشهوة استمرت مع الأيام واشتدت حتى صارت عبئًا ثقيلا على أعصابه بل وتسببت في أكثر من مشادة مع الحاجة صالحة زوجته التي تصغره ببضعة أعوام والتي فاجأها عنفوانه الطارئ ثم أزعجها لأنها لا تقدر على إشباعه " [5]

ولم ينس الأسواني الخدم من إعطائهم حقهم في الشهوة – كإدريس السفرجي الذين يستغلون غياب الأهل عن أطفالهم فيعبثون بهم جنسيًا : "أثناء اللقاء كان يشهق من اللذة ويهمس بعبارات نوبية غير مفهومة، وبرغم شهوة إدريس وعنفوانه فقد دخل إلى جسد حاتم برفق وحذر وطلب إليه أن يخبره إذا أحس بأدنى ألم" [6]

وليس هناك أدنى شك في أن الأسواني أحسن في اختيار الأسماء لشخصياته حتى تتناسب مع الدور الذي تلعبه فأطلق على اللوطي اسم "حاتم" ليس لكونه لوطيًا بل لكثرة إنفاقه وكرمه على عشيقه عبده وعلى أسرته من أجل أن لا يتركه. وأطلق على الشخصية الدينية اسم "طه" لما فيها من دلالات توحي إلى طهارتها وصدقها في الحياة التي كانت تعيشها.. أما الحاج "عزام" فقد دلّ اسمه على دوره الذي عزم فيه أن يتقدم ويعلو بكل الوسائل والطرق التي تتاح إليه ولو كانت غير شرعية من أجل الوصول على مبتغاه.. فها هو يتستر خلف علماء السلطة والدين ويتاجر بالمخدرات ويجني أرباحًا طائلةً يعرف كيف يبيضها ثم لا يكتفي بالزواج سرًّا من فتاة ثانية ويرشح نفسه في الانتخابات لمجلس الشعب التي ينجح فيها بالطرق الملتوية والتزييف والرشوة. [7]

3) أما "زكي كمال" فقد أراد به الإشارة على ذكائه في اصطياد النساء من أجل معاشرتهن.. وجاء كماله من كونه ابنًا للباشا صاحب الثروة الكبيرة من كبار الأثرياء قبل الثورة.. ثم عاش زكي حياة الأغنياء التي لا ينقصها شيء وتعلم في جامعة باريس في فرنسا وهذا ما لم يحصل عليه أبناء الفقراء. [8]

(كفر قاسم)


[1عمارة يعقوبيان ص 63

[2عمارة يعقوبيان ص 63

[3عمارة يعقوبيان ص 12

[4عمارة يعقوبيان ص 54

[5عمارة يعقوبيان ص 63

[6عمارة يعقوبيان ص 63

[7عمارة يعقوبيان ص 74

[8عمارة يعقوبيان ص107


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى