الجمعة ١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٥
بقلم عبد الوهاب الأفندي

عن أية ديمقراطية تتحدثون؟

صدر عن دار الأهالي بدمشق في منتصف شهر مارس لهذه السنة كتاب جديد للدكتور منصف المرزوقي في 232 صفحة عنوانه ’’ عن أية ديمقراطية تتحدثون’’؟

يشير الأخ الكاتب د. منصف المرزوقي في تمهيده لهذا التناول المتعمق لإشكاليات الديمقراطية إلى أننا أصبحنا هذه الأيام نعيش ما يشبه الهوس الديمقراطي، في القول طبعاً وليس الفعل كما هو ديدن بين يعرب. فالكلمة "يعلو الصراخ بها والترديد إلى درجة الإزعاج"، حتى لا تكاد "تفتح اليوم إذاعة، أو فضائية، أو جريدة، إلا وأنت قي مواجهة الكلمة البعبع ، وقد أشهرت في وجهك أحرفها التسعة ومعانيها الملتوية ومقاصدها الخفية واستعمالاتها المتباينة وكل ما يحوم حولها من قيل ومن قال."

وهذا يطرح أول سؤال عن اختلاف المساهمة الراهنة عن كل هذا الصراخ البابلي الذي يصم الآذان، وعما إذا كانت ستضيف جديداً أم تندرج في حومة الضجيج الذي لا يسمن ولا يغني من جوع؟ وأول إجابة هي أن الاختلاف في مساهمة المرزوقي بدأ واضحاً حتى قبل أن يجلس إلى طاولة الكتابة. فقد عرفنا الدكتور الطبيب المناضل وسمعنا به علماً من أعلام المنافحة عن كرامة شعبه وعن كرامة كل العرب قبل أن نسمع بأطروحاته النظرية حول الحرية والديمقراطية فكان سيفه (الرمزي طبعاً) أصدق أنباءً من كتب الآخرين ومقالاتهم وشعاراتهم وهتافاتهم. لقد كانت وقفته الشجاعة والمبدئية في وجه واحدة من أشرس الدكتاتوريات العربية (بل والدولية) المعاصرة تعادل أسفاراً تحملها دواب كثيرة. لم يكن من تابعوا تلك الوقفة، والثمن الباهظ الذي دفع بسببها، يحتاجون لأن يقرأوا كتابات روسو أو مونتسكيو حول الديمقراطية لكي يعرفوا معنى الحرية والعزة والكرامة، تماماً كما لم يكن ملايين الأميين والمحرومين في جنوب إفريقيا في حاجة لقراءة كتاب حول الحرية والكرامة وهم يرون أمام أعينهم مجاهدات رجال عظام ونساء عظيمات من أمثال نيلسون مانديلا وويني مانديلا ووالتر سيسولو وديزموند توتو وغيرهم ممن وقفوا وقفة الرجال (والنساء) الأحرار، فكان سجانهم هو السجين.

الفصل الأول، إذن، والمقدمة التي لا بد منها، هي تلك التي كتبت على أرض تونس العزيزة قبل كتابة السطر الأول في هذا الكتاب "في المنفى" كما جاء في التنبيه الذي لا بد منه. ذلك أن أول درس من دروس الديمقراطية (والتعامل الأخلاقي والمبدئي عموماً) هو أننا يجب ألا نحفل بقول من لا يصدق قوله عمله. ويروى أن الإمام المحدث البخاري رحمه الله سافر مرة في طلب راوية بلغه أنه يحفظ بعض الأحاديث. وعندما وصل إلى الشيخ المطلوب بعد أشهر من الترحال، وعرف له، صادفه ينادي دابته ويغريها بمخلاة حبوب يهزها حتى تسرع الدابة باتجاهه. إلا أن البخاري لاحظ أن المخلاة كانت فارغة، فقرر من توه أن يعود دون أن يدون حديثاً واحدا ً من أحاديث مضيفه، قائلاً إنه لو كان الرجل يستحل خداع الدابة، فكيف أثق في روايته؟

صحيح أن مشايخنا قد وضعوا لأنفسهم مستويات عالية من التطهر الأخلاقي تندق دونها الأعناق، وكلفوا أنفسهم شططاً في بعض الأحيان. ولكن المبدأ العام ينطبق على الكل. فكيف نقرأ لمن يكتب عن الديمقراطية وهو جالس في حجر حاكم مستبد يزين له باطله ويأكل من يده؟ وكيف نسمع عن الاستقامة ممن هو والغ في الفساد؟ وكيف يحاضرنا عن الحرية "مثقفون" يغدون ويروحون على سلاطين الجور، ثم يعودون ليجادلونا بأن أسباب انعدام الحرية هي في "تخلف الشعوب"؟ إن التخلف الحقيقي هو ما فيه هؤلاء القوم الذين لا يستحي الواحد منهم أن يظهر على الملأ بتسمية مستشار الملك الفلاني، أو نديم الرئيس العلاني، ويسهب في الحديث والتنظير عن إشكاليات التحديث ومتطلبات الحرية، والأقبية تحت أقدامه وأقدام نديمه ملآنة بضحايا التعذيب، والصحارى تمور بضحايا الاختفاء القسري، وصحف السماء وسجلات منظمات حقوق الإنسان ملآنة بآهات المظلومين وأنين الأرامل وأسر المعتقلين جوراً.

هذا هو التخلف، لا ما فيه الشعوب المقهورة الرافضة للظلم. وبداية الخروج من النفق تكون بالخروج من هذا التابوت الذي وضع فيه المثقفون من "فقهاء السلاطين" وعبيد الدرهم والدينار الذين يحاضرون الكل عن الحرية والطهر، وينسون أنفسهم. ولو تحرروا هم من مطالب الترف والجاه الأجوف المستعار، لكان لغيرهم فيهم أسوة حسنة. ويندرج في هذا التخلف من وصفهم الكاتب بأنهم يمارسون "الإفتاء من الربوة"، أي من موقع متعالٍ أو "استقلال" مصطنع، ولعل الأنسب أن يقولوا أن الأمر يتعلق ب "إفتاء من المستنقع"، لأن القوم غارقون حتى آذانهم في وحل التواطؤ مع الفساد القائم.

نحن إذ نقرأ للمرزوقي إذن نقرأ له وفي ذهننا أنه لم يكتب ليخادع أو ليروج لنفسه، شأن من نعرف، فهو قد مشى تلك الخطوات التي لا بد منها لكل مثقف في طريق الصدق مع الذات والبراءة من العبودية التي ارتضاها الكثيرون لأنفسهم. لهذا نقرأ له باهتمام، ونناقشه بجدية.
القضايا التي يتناولها المرزوقي في هذه التأملات هي أيضاً قضايا جادة تستحق كثيراُ من النقاش، وبعض الإجابات التي تقدم بها مثيرة للجدل، وقد لا نوافقه فيها، ولكنها تستحق التناول بعناية. ولا يسعنا إلا أن نتفق مع الكاتب على أن التناول الفج والسطحي للديمقراطية وتقديمها على أنها شفاء من كل داء يحتاج إلى توقف. هناك نقاط تستحق كثيراً من الانتباه في تشكيكه في نوايا الإدارة الأمريكية وهي تتبنى الديمقراطية للعرب وتبشر بها. ولكن المرزوقي يضيف إلى المقولات الرائجة (حتى لا نقول الغوغائية) حول شرور أمريكا وسوء نيتها تحليلاً نظرياً متعمقاً، حيث يؤكد أن أمريكا لا تروج للديمقراطية بقدر ما تروج لليبرالية، في داخل أمريكا وخارجها، وهذا الموقف كثيراً ما يتعارض مع الديمقراطية.

ولا شك أن هذه ملاحظة على قدر كبير من الأهمية، لأن هناك خلط رائج بين المفهومين، حتى في التناول الغربي لهذه القضايا. ولكن كثير من المنظرين لاحظوا هذا التمايز، بل والتناقض، بين الليبرالية والديمقراطية. الولايات المتحدة قامت في الأساس على مفاهيم ليبرالية، وكان الآباء المؤسسون لا يستخدمون مصطلح الديمقراطية إلا لماماً، بل يميلون إلى مصطلح "الحكم الجمهوري"، تيمناً بروما، لا أثينا. وقد عبر بعضهم في كتاباته عن إشفاقه من أن يتمكن الرعاع والعامة من الفقراء من الاستيلاء على السلطة وإفساد أمر الجمهورية. ولهذا فإن الدستور الأمريكي حفل بضمانات كثيرة ضد هذا الخطر، منها الانتخاب غير المباشر للرئيس، وتوزيع السلطات بين المركز والولايات، وإعطاء دور مهيمن للمحكمة العليا، وغير ذلك من التعقيدات الدستورية. ويدخل في هذا أن الحزب الديمقراطي، الذي يجسد الاهتمامات الشعبية ويمثل الطبقات الأوسع، يعتبر إلى حد كبير "حزب المعارضة"، بينما ظل الحزب الجمهوري الذي يمثل المصالح المتجذرة في النظام الأمريكي يعتبر إلى حد كبير حزب السلطة.

الفكر الليبرالي كما هو معروف يركز على الحقوق والحريات الفردية وعلى ضمان حقوق الملكية وحرية التبادل الاقتصادي، بينما الديمقراطية تركز على مفهوم سيادة الشعب. وقد كان المنظرون الليبراليون يتخوفون منذ البداية من أن يؤدي ترسخ المفاهيم الديمقراطية إلى "انقلاب" يقوم فيه الفقراء بالإمساك بالسلطة واستخدامها لسلب الأغنياء أموالهم، وجعل أعزة أهل البلاد أذلة. ومثل هذه المخاوف كانت سائدة في الفكر الغربي منذ أيام أرسطو، واكتسبت أهمية جديدة بعد قيام الثورة الفرنسية وما ارتكبته في حق الطبقات العليا، وزادت بعد ظهور الفكر الماركسي والحركات الاشتراكية التي أخذت تنادي علناً بحق الفقراء في الاستيلاء على السلطة تحديداً لإنهاء هيمنة الطبقات الغنية. وهكذا أصبح ما كان بالأمس خطراً يتخوف منه المنظرون مطلباً ينادي به المنادون ويؤكدون مشروعيته.

التعارض بين الليبرالية والديمقراطية اكتسب بعداً جديداُ في عصر العولمة، حيث أصبحت المصالح الليبرالية المرتبطة برأس المال بعيدة كل البعد عن هيمنة الدولة، وبالتالي خارج متناول المحاسبة الديمقراطية. ليس هذا فحسب، بل أصبحت الامبراطوريات الإعلامية العابرة للقارات، والواقعة خارج إطار المحاسبة الديمقراطية تتحكم في اللعبة الديمقراطية دون أن تتقيد بشروطها، كما نرى في امبراطورية روبرت ميردوخ الإعلامية التي تؤثر في السياسة في أكثر من بلد دون أن تعبأ بسلطات وضوابط المحاسبة الديمقراطية.

ولكن هذا التمايز بين الديمقراطية والليبرالية تم الاستناد إليه عند بعض منظري اليمين الجديد في الولايات المتحدة من أمثال فريد زكريا للقول بأن سياسة أمريكا يجب أن ترتكز تحديداً إلى ما اتهمها به المرزوقي، وهو أن تروج لليبرالية وتمتنع عن المناداة بالديمقراطية. ولا شك أن مثل هذا الموقف قد يجد هوى عند كثيرين من أنصار التيار العلماني المتخوفين من أن يؤدي "التسرع" في تبني الديمقراطية إلى هيمنة عناصر "غير ليبرالية" (وخاصة العناصر الإسلامية) على مقاليد الأمور، فتتولد من الديمقراطية نقيضها. وعلى الرغم من أننا نجد المرزوقي يرفض مثل هذه الدعوات، إلا أن بعض انتقاداته لمفهوم الإسلاميين للديمقراطية قد يفهم منها أنه أيضاً يقدم الليبرالية على الديمقراطية، أو على الأقل لا يرى مكاناً للديمقراطية بمعزل عن مركبها الليبرالي. وإذا كان الأمر كذلك، فقد يطرح هذا تساؤلات مهمة حول المعادلة المطلوبة في هذا المجال.

هناك نقطة أخرى لا تقل أهمية ينبه إليها المرزوقي، وهي أن الديمقراطيات، بما فيها الديمقراطية الأمريكية، قد لا تكون ديمقراطيات حقيقية، بل استبداد مقنع. الديمقراطية، كما نعلم، تميز نفسها عن بقية أنواع الحكم في كونها نظام حكم يقوم على حكم الشعب والمساواة في المواطنة. ولكن المرزوقي يرى تقارباً بين الديمقراطيات الحديثة ونظم الاستبداد في كونها أخذت تتحول فعلاً إلى ارستقراطيات تقسم الشعب إلى قلة من "المواطنين" وأغلبية من "الرعايا". الفرق بين الاستبداد المقنع في الديمقراطيات المزعومة والمكشوف عندنا هو أن تلك الديمقراطيات لديها من الفتات ما يكفي لشراء سكوت الرعايا، وما يكفي من الأدوار الثانوية لاستيعاب العدد المتزايد من "المواطنين" إلى جانب الأرستقراطيات المتمكنة. أما في الدول الأخرى فلا بديل عن القمع لضبط الأمور.

الاستبداد هو أيضاً ظاهرة مرضية في المجتمعات مثل ما هو ظاهرة مرضية في نفسية المستبد. المرزوقي، وهو طبيب محترف، مولع بالتشبيهات الطبية، ولكنها تشبيهات تكشف عن نظرة ثاقبة. فهو إذ يتناول مرض العصر العربي، الاستبداد، ويتساءل عن أسباب استعصائه على العلاج، يمتعنا بتشخيصات تشحذ الفكر، حيث يشبه دور المستبد بالفيروس الذي يدمر خلايا الجسم عبر الاستيلاء عليها، بينما يشبه القائد الديمقراطي بالانزيم الذي عليه تعتمد صحة الخلية واستمراريتها. فالإنزيم، يقول المرزوقي، "هو أيضا مكوّن عضويّ وحيد بالغ الصغر. لكنه خلافا للفيروس عامل رئيسي من عوامل البناء والتشييد. فلولاه لما استطاعت المفاعلات الكيماوية الضرورية لحياة الجسم أن تضطلع بوظائفها. وفي غيابه تتوقّف عمليات البناء والإصلاح أو تتباطأ بشكل رهيب. هو يلعب دور المحرّك والمنشّط والموجّه للطاقات الكامنة في الجسم . من هذا المنطلق يمكن القول أنّه بقدر ما لعب صدّام حسين دور فيروس العراق بقدر ما كان نلسن مانديلا أنظيم جنوب إفريقيا."
ويطرح المرزوقي سؤال الساعة حول عوامل بقاء الاستبداد فيستمر في التشبيهات الطبية، حيث يشير إلى أن العلة تكمن في خلل في "الجسم السياسي"، أساسه اختلال الجسم وعموم الفوضى أو خطرها. وهذا يتيح الفرصة لفيروس الاستبداد مهاجمة الجسم والتغلغل فيه. وهذا بدوره يخلق حلقة خبيثة من ضعف المناعة واستفحال المرض.

وضع "الفيروس" الذي يسبب هذا المرض هو أيضاً استدعاء لتشبيه طبي آخر، وهو أن المستبد شخص مريض نفسياً في الغالب، حيث يواجه أزمة ثقة بالنفس، تجعله يحيط نفسه بالمنافقين والفاسدين، ويستجدي منهم المديح الذي يتحول إلى حالة إدمان، كلما أخذ منها جرعة اشتدت حاجته إلى المزيد، دون أن يكتفي أو يكسب ثقة بنفسه.

المستبد يستند في وجوده واستمراره على جوانب خلل أخرى، منها وجود بطانة فاسدة هي انعكاس للخلل القائم في النظام واعتماده على "الردائقراطية"، أي اختيار الأعوان من بين الأسوأ، وعلى أساس الولاء لا الكفاءة. وهناك دوائر أخرى تدعم هذا الوضع، من المنتفعين والسلبيين. كما أن الاستبداد يستند على أساس متين قوامه وجود "الإنسان المستبد"، الذي هو عملياً الإنسان العادي، الذي يمارس الاستبداد كل في مجال اختصاصه: الرجل في الأسرة (والمرأة كذلك)، والمسؤول الصغير، إلى أن يصل الهرم الاستبدادي إلى القمة.
ولكن إذا وافقنا على هذه التشخيص، ألا يطرح هذا إشكال حلقة الاستبداد المفرغة التي لا فكاك منها؟ يتساءل الكاتب: " من أين للعرب والمسلمين القدرة على تشغيل مؤسسات البنى الفوقية كما يقول الماركسيون وبناهم التحتية تنضح بالاستبداد؟ هل من الممكن أن تكون نظرة العنصريين الغربيين لنا صحيحة وهم يقرّون بعدم قدرتنا على تشييد بناء لا نملك له أسسا؟ قد يفاجأ البعض بإجابتي لأنها نعم . هم محقّون في التهمة ولكن..."

ويضيف أن الحل يكمن في تفجير الطاقات الكامنة حتى في المجتمع الذي يهيمن الاستبداد على كل طبقاته. ذلك أننا سنجد إذا دققنا البحث "بأن في أعماق مجتمعنا العربي الإسلامي المتشبّع بقيم الاستبداد والغارق في ممارساتها إلى الأذنين ، قوى جبارة يمكن أن تدفع ب ’الإنسان الديمقراطي’ إلى مركز الصدارة. هكذا ستجد عملية التأسيس في العائلة والمصنع والإدارة مخزونا هائلا من الأفكار والقيم وحتى السلوكيات السرية الرافضة للاستبداد وظلمه والمستعدة للدفاع عن أي نظام بديل يرجع الكرامة المسلوبة والاعتبار الذي صادره الاستبداد."

يصل المرزوقي إلى هذا الاستنتاج عبر تأملات طويلة، يستلهم فيها الطبيب المرزوقي نموذجاً آخر، هو النموذج الإداري لتقديم الخدمات الصحية، ويدلف إلى تأملات أخرى في الطبيعة الإنسانية لا بد أن تواجه اعتراضات عديدة أصبحت مألوفة في حق مثل هذه الاستنتاجات التي تستند إلى مقولات مثيرة للجدل من علوم الحيوان والطبيعة. لا نريد أن نتوقف عن هذه المسائل، التي نترك للقارئ استنطاقها وتحديد رأيه الخاص فيها، ولكنا نكتفي هنا بتساؤل بسيط هو: لو أن طبيعة مجتمعاتنا هي صناعة وإعادة إنتاج الاستبداد من القاعدة إلى القمة، فلماذا لا نجد الاستبداد قد تحول عندنا إلى "ديمقراطية"، بمعنى أن تكون سطوة المستبد تقابلها استكانة الضحايا، فلا تكون هناك مقاومة ولا يحزنون، ولا يحتاج المستبد إذن إلى كل هذه الجيوش من المنافقين ولا إلى استخدام كل هذه الأجهزة القمعية، ولا يكون هناك أي داعٍ لتلك الترسانة الثلاثية التي وصفها المرزوقي: التضليل، القمع والإفساد، للإبقاء على الأوضاع؟ هذا سؤال لا بد من إجابة عليه إذا كان لنا أن نقبل بفرضية استبدادية المجتمع، أو قابليته للاستبداد.

الكاتب يفرد مساحة كبيرة من مداخلته لما يسميه "التأسيس"، وهي الخطوات اللازمة لتأسيس نظام ديمقراطي متكامل وقابل للاستمرار. ويقدم لهذا بنقد مفصل للديمقراطية، معدداً نقائصها وعيوبها، ومنبهاً كذلك إلى بعض جوانب سوء الفهم الشائعة لمعاني الديمقراطية. معظم هذه الانتقادات مثيرة للاهتمام والكثير من الجدل، ولا شك أن القراء ستكون لهم تعليقاتهم عليها، خاصة فيما يتعلق بالأولويات. انتقادات المرزوقي للمثقف السلبي والمثقف الطوباوي، والإشارات المبطنة لبعض من دعموا الاستبداد ويدعمونه بسبل شتى، كلها ستثير نقاشاً حاداً بدون شك، وقد تجد صدى عند الكثيرين وهوىً في نفوسهم. أما الاقتراحات التفصيلية حول الضمانات الدستورية وكيفية إرساء أسس النظام الديمقراطي وإشاعة القيم الديمقراطية ومفاهيم حقوق الإنسان فإنها أيضاً ستكون مثيرة لجدل كثير، توقع بعضه الكاتب وسعى للرد "الاستباقي" عليها. ولعل أبرز هذه النقاط التي قد يتوقف البعض عندها هي المحاولة الطموحة للتوفيق بين مقولة أن الشعوب العربية لم تنضج بعد للديمقراطية وقد تجد صعوبة في الحفاظ عليها حتى لو حققتها، وبين التفاؤل الكبير الذي يبديه الكاتب بإمكانية التحول الديمقراطي وفرص نجاحه. كذلك قد يشعر الكثيرين بالإحباط من التحليل الذي يؤكد أن هذا التحول قد يحتاج لعقود طويلة.

أهمية هذه المساهمة، كما أسلفنا، لا تنبع فقط من التأملات العميقة والاقتراحات الجريئة التي تشحذ الفكر وتطرح تحديات لعقول المؤيدين والمنتقدين على حد سواء، بل وأيضاً من كونها عصارة تجربة عملية طويلة وثرية في النضال الديمقراطي. وإنني أدعو القارئ الكريم للاستمتاع بهذا العطاء القيم من قلم لا يمكن اتهامه بالإقامة الطويلة في الأبراج العاجية المعزولة، وللمشاركة في نقد وتقييم وإثراء هذه المساهمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى