الأحد ٢٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم محمد متبولي

عن الحضارة «3» سقوط الحضارة الاسلامية

عندما تذكر الحضارة الاسلامية نجد أناس أغرورقت أعينهم بالدموع باكين على تاريخ ولى متناسين ان ما يمضى لا يعود، وفى المقابل نجد آخرين لا يرون اى اسهام يذكر لتلك الحضارة سوى الحفاظ على علوم اليونان ونقلها لأوروبا الحديثة لتؤسس عليها حضارتها غير معترفين بأى انجاز علمى او فكرى لها، وبعيدا عن هؤلاء جميعا فمن المؤكد ان الحضارة الاسلامية أضحت الان تاريخا وان لهذه الحضارة اسهاما فكريا وعلميا كبيرا فى شتى المجالات كالفلسفة والفنون والمعمار والفلك والطب والرياضيات والكيمياء والفيزياء، وقد استفادت الحضارة الغربية كثيرا فى نشأتها من تلك العلوم التى انتقلت اليها عن طريق المراكز الحضارية خاصة فى الاندلس او من خلال الحملات الصليبية، وهنا تظهر أهمية محاولة معرفة بعض الاسباب والملابسات التى أدت لسقوط تلك الحضارة سواءا كان ذلك بهدف الاجابة على السؤال الأشهر الان و هو لماذا وصلنا لتلك الحال التى نحن عليها؟، او اتخاذ العبرة منها وتفاديها فى أى اسهام حضارى مقبل على اعتبار انها آخر الحضارات الشرقية المعروفة، ويمكن تلمس بعض عوامل سقوط تلك الحضارة فى ظروف نشأتها وما تلاها من أحداث جسام.

فبالنظر الى الديانات الكبرى السابقة على الاسلام سنجد ان هذه الديانات اما انها كانت جزءا من حضارة كبرى او أساسا لها، وان لهذه الحضارات دول مركز تتولى نشر الحضارة والديانة التى تعتنقها وتضمن لها الاستمرارية، فنجد ان الديانات الاسيوية كالبوذية و الكونفوشيوثية و الماجوسية، قد انتشرت من خلال حضارات فارس والهند والصين وغيرها، كما ان اليهودية حافظت على نفسها من خلال بنى اسرائيل الذين كانوا معظم الوقت جماعة منغلقة على ذاتها أشبه بالدولة داخل الدولة، وعاشوا أغلب تاريخهم اما فى ظل احدى الحضارات القديمة كالفرعونية او البابلية او داخل دولتهم وحضارتهم الخاصة، كذلك فقد حققت المسيحية انتشارها الاكبر بعد ان أصبحت الديانة الرسمية للدولة والحضارة الرومانية، وهنا تظهر بعض الخيارات التى كانت امام الاسلام فاما ان يصبح ديانة محلية خاصة ببعض القبائل المنحصرة فى منطقة جغرافية بعينها لا يخرج عن نطاقها، او ديانة عالمية تمتد من أقصى الارض لأقصاها، واما ان ينتشر من خلال احدى الحضارات القائمة كالرومانية او الفارسية فيكون عليه ان يقنع رموز تلك الحضارة ورجال دينها بدعوته والصدام معهم اذا لزم الامر وهو ما قد يأخذ قرونا كما حدث مع المسيحية، او يظهر وسط قوم كعرب مكة بلا حضارة او دولة فيدخل معهم فى مواجهة عنيفة من أجل اقناعهم بدعوته الا انها لن تكون بأى حال من الاحوال كتلك التى يمكن ان يخوضها مع اى من الحضارات القائمة، وسيكون عليه حينها انشاء الدولة التى ستتولى اقامة الحضارة ونشر الدين، و هو ما قدر الله ان يكون عليه الاسلام فى النهاية، ديانة عالمية تبدأ من خلال جماعة بلا حضارة يقوم هو بانشاء الدولة من خلالها.

الا ان الدولة الجديدة نشأت على انقاض بعض الصراعات، كالصراع المحتدم على زعامة قريش بين بنى هاشم التى ينتمى اليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) و عمه العباس و ابن عمه على بن ابى طالب، و بين بنى أمية التى ينتمى اليها ابى سفيان بن حرب ونجله معاوية وأمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضى الله عنهم جميعا، كذلك تلك الدماء التى سالت فى الحروب بين المسلمين الاوائل والكفار الذين اصبحوا فيما بعد مسلمين، علاوة على العصبية القبلية التى أشتهر بها العرب، الا ان حكمة الرسول محمد(صلى الله عليه وسلم) وسماحته وايضا حنكته السياسية ورغبة المسلمون الاوائل فى ان يرضى عنهم الله عز وجل ورسوله حيدت تلك الصراعات وأطفأت نيرانها، وكان من الطبيعى ان يكون الرسول(صلى الله عليه وسلم) فى تلك المرحلة رئيس الدولة وامامها، على اعتبار انه واضع اسسها، والمنوط به التشريع فيها من خلال خبر السماء، وقاضيها الذى يؤيده الله بوحى السماء ويرشده للصواب، أى على اعتبار انه مؤسس الدولة و نبى الله فقد حاز(صلى الله عليه وسلم) السلطة الدينية والسياسية، لذا فمن يقولون ان الاسلام دين ودولة لهم قدر كبير من الحق، شريطة ان يكون ذلك فى ظل فهم جيد لظروف ارتباط الدين بالدولة.

وبعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وسلم) انتقلت سلطاته عدا ما يخص الوحى لصحابته نظرا لكونهم من تلقوا العلم عنه مباشرة دون حواجز، وشاركوه فى سياسة أمور الدولة الجديدة خاصة المقربين منهم كالخلفاء الراشدين الاربعة، فأصبح ابو بكر الصديق(رضى الله عنه) هو رئيس الدولة وامامها والذى انتهج سياسة قائمة على اقتفاء أثر أفعال الرسول(صلى الله عليه وسلم) فى كل الامور، الا أنه واجه تحديا خطيرا كاد ان يعصف بالدين والدولة وهو المرتدون، فقد ارتدت بعض القبائل عن الاسلام، ورفضت أخرى دفع الزكاة، وأدعى البعض النبوة، فقرر الصديق محاربتهم جميعا، وعلى الرغم من ان بعض الصحابه أشاروا عليه بعدم الاقدام على ذلك خاصة مع من امتنعوا عن دفع الزكاة، الا انه قرر المضى قدما فى الحرب مبررا ذلك بأنهم نقضوا عهدهم مع الرسول(صلى الله عليه وسلم) وهو ما يكفى لقتالهم، ويدفعنا ذلك لتحليل أعمق بعض الشئ، فالاسلام دين قائم على الاقناع لا الاجبار، والقرءآن والاحاديث النبوية مليئة بما يشير لحرية الكفر او الايمان، وعدم دفع البعض للزكاة لا يخرجهم من الدين طالما أنهم لم ينكروها، وأبو بكر الصديق أكثر الناس علما ودراية بذلك، وليس هو الرجل الذى يطمح للسلطة فقد كان من أغنياء قريش وسادتها وهو ما كان يغنيه عن كل تلك المشاق التى واجهها منذ بداية الدعوة وحتى ساعتها، ليظهر هنا تفسير آخر للأحداث وهو ان المرتدين وفتنتهم مثلت تهديدا قويا ومباشرا للدولة الاسلامية وهو ما كان سيقوض فرص توسعها ونشرها للاسلام خارج جزيرة العرب، ويمكن القول ان حروب الردة كانت اول الصراعات الاسلامية التى ارتبطت فيها مصلحة الدين بمصلحة الدولة بشكل يصعب معه القول بمن أثر فى من، السياسة فى الدين أم الدين فى السياسة، لتظهر هنا لأول مرة السياسة بشكل واضح ممثلة فى مصلحة الدولة كلاعب أساسى فى حياة المسلمين، ومن المفارقات هنا ان الرسول(صلى الله عليه وسلم) لم يستخلف قبل ان يموت ومن المؤكد ان فطنته-ان لم يكن الوحى أيضا- ربما اعلمته ان هناك من سيرتد على الاسلام بعد وفاته وقد يؤدى ذلك لمواجهة الدعوة لخطر داهم لا يقل عن ما لاقته فى بدايتها، الا أنه (صلى الله عليه وسلم) قد فضل ترك الامر للشورى/الديمقراطية حتى لا يقول أحد بوجوبية الاستخلاف وتصبح عادة فيما بعد، كذلك حتى يعرف الناس كيف يحكموا أنفسهم بأنفسهم.

وتمضى خلافة أبى بكر ويأتى عمر بن الخطاب(رضى الله عنه) والذى توسعت فى عهده الدولة بشكل كبير أصبح من الواضح معه انها نواة لدولة وحضارة عالمية جديدة، وقد أشتهر عمر بعدله وتدقيقه فى اختيار الولاة ومحاسبتهم باستمرار، كما أنه أرسى الكثير من الاسس التى تتناسب لحكم الدولة المتسعة، ويمكن القول بأن سياسته كانت تعتمد على تولية الكفاءات ومحاسبتهم بشكل دائم، ثم انتقلت الخلافة بعد وفاة عمر بن الخطاب الى عثمان بن عفان(رضى الله عنه) وقد تغيرت الكثير من الامور، فلم يعد عثمان رئبسا لدولة صغيرة قاصرة على شبه الجزيرة العربية وما حولها بل دولة كبيرة مطردة الاتساع، كما أنه لم يجئ حاكما على مجموعة من صحابة الرسول(صلى الله عليه وسلم) بل جاء حاكما على شعوب مختلفة ومتنوعة، وكذلك فقد غادر الكثير من الصحابة المدينة وأنتشروا فى بقاع الدولة المختلفة ما بين حكام وقادة للجيوش ودعاة وغير ذلك، كل ذلك كان يتطلب ان تتناسب سياسة الخليفة مع تلك المتغيرات فيتوسع فى الاخذ بالمشورة لوضع السياسة المثلى للدولة وتقريب أكبر عدد ممكن من الصحابة الباقين اليه، لكن ما حدث ان عثمان بن عفان قد انتهج سياسة مبنية على الاعتماد على الثقات خاصة من أقاربه من بنى أمية، فأتخذ من بعضهم أهلا لمشورته والبعض الاخر حكاما للولايات وهو ما أثار حفيظة بعض الصحابة وأهل الولايات الذين كانوا يرون ان بعض هؤلاء لا يصلحون لتلك المهام، وقد يرجع البعض تلك السياسة لحسن خلق عثمان بن عفان وكرمه اللذان أطمعا البعض فيه خاصة من أهله فأستغلوها أسوأ استغلال، لكن على أية حال فقد تصاعدت الاحداث ووصلت للذروه بأشتعال الثورة ومقتل عثمان على يد الثوار ليفجر مقتله كل الصراعات التى كانت كامنه عند نشأة الدولة، ويظهر الخلاف الاكبر فى تاريخ الاسلام و الذى تشكلت على أساس نتائجه القرون التالية.

فقد انتقلت الخلافة بعد عثمان الى على بن ابى طالب(رضى الله عنه)، وتأسيسا على ذلك الانتقال فقد انقسم المسلمون الى فريقين، فريق يرى ان الاولوية يجب ان تكون لأستعادة الهدوء وتأمين الدولة ورفع المظالم بعد تلك الاحداث الدامية ثم محاسبة المخطئين وهو رأى على ومن معه، والفريق الاخر يرى ان الاولوية للقصاص من القتلة وان على ومن معه قصروا فى ذلك وهو رأى معاوية بن ابى سفيان والسيدة عائشة والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وعمرو بن العاص ومن معهم، رضى الله عنهم جميعا، وبعيدا عن الخوض فى الكثير من الاحداث التاريخية المتعلقة بتلك الوقائع سننتقل للخلاف الاكبر الذى كان بين على ومعاوية، والذى يمكن تفسيره على عدة أوجه، منها ان كل طرف ربما رأى أنه أحق من الاخر بالسلطة، أو ان على رأى ان قتلة عثمان لهم بعض الحق فيما فعلوا، بينما رأى معاوية ان بنى هاشم ممثلين فى على فرطوا فى دم بنى أمية ممثلا فى دم عثمان، او ان على رأى ان المصلحة تقتضى ان تهدأ الثورة اولا ويقضى على الفتنة ثم يحاسب المتسببين فيها، بينما رأى معاوية ان القصاص من القتلة أولى حتى لا يتمادوا، وكان يمكن حل الخلاف عن طريق اجتماع أهل الحل والعقد والفصل فيه وينتهى الامر، لكن ما حدث هو ان كل طرف تمادى فى موقفه، ليس ذلك فحسب بل أستغل كل طرف الدين للتدليل على صحة ذلك الموقف، وحتى لا يقال اننا نخوض فيما لا يجب ان يخاض فيه، فيمكن القول ان الطرف المخطئ اى ما كان من هو قد قام بعملية تسييس للدين حتى يجد سندا شرعيا لمحاربته الطرف الاخر، فبالنسبة لعلى فقد انعقدت له البيعة التى أصبح بمقتضاها أمير المؤمنين ومعاوية ومن معه خارجين عليه فهم الفئة الباغية التى يجب ان تحارب حتى تفئ، وبالنسبة لمعاوية وجماعته فعلى ومن معه معطلين لشرع الله الذى يقتضى القصاص من القتله فيجب مقاتلتهم حتى يمكن تحقيق أحكام الله التى عطلوها، وهكذا فان كان فى بداية الدعوة السياسة متمثلة فى الدولة أداة فى يد الدين لنشره، ثم أصبحت مصلحة الدين والسياسة متلازمة فى حروب الردة والمرحلة التى تلتها، فقد أصبح الدين فى تلك المرحلة أداة فى يد السياسة.

وتمضى الاحداث فتأتى موقعة صفين التى كاد ان يهزم فيها على ومن معه جيش معاوية وعمرو بن العاص، فرفع معاوية وجيشه المصاحف مطالبين بالتحكيم، والذى قبله على حقنا لدماء المسلمين لتأتى نتائجه مضعفة لموقف على ومقوية لموقف معاوية، فخرجت طائفة من جيش علي عليه وهم من عرفوا بالخوارج قائلة بأن الحكم لله وحكم الله فى الطائفة الباغية متمثلة فى معاويه ومن معه هى ان تحارب حتى تفئ، وعلى قد خالف شرع الله بقبوله التحكيم، وهى الافكار التى عرفت فيما بعد بالحاكمية والتى أستغلتها الجماعات الاسلامية المتطرفة فى تكفير المجتمعات واستخدام العنف ضدها، ثم قرر مجموعة من الخوارج قتل رؤوس الخلاف الثلاثة، على بن ابى طالب ومعاوية بن ابى سفيان وعمرو بن العاص، ليصيبوا على ويخطأوا الاثنين الاخرين، فأستتب الامر لمعاوية الذى حول الحكم بعدها من خلافة قائمة على الشورى الى ملك عضود قائم على التوريث، فأخذ البيعة لأبنه يزيد ليرث رئاسة الدولة السياسية وامامتها الدينية وتصبح الشورى بمقتضى تلك الاحداث اختيارية للحاكم لا الزامية، ليصبح بذلك توريث الحكم وجمع الحاكم المورث للرئاسة السياسية والامامه الدينية بصرف النظر عن مدى مناسبته لتلك المهام علاوة على تعطيل الشورى هى أفدح الاخطاء التى وقعت فيها الدولة الاموية وورثتها عنها الاجيال اللاحقه، ثم قامت الدولة الاموية بعد ذلك باضطهاد آل البيت النبوى من علويين وعباسيين وكذلك اضطهدت الخوارج.

ومع اتساع الدولة الاسلامية خاصة فى العصر العباسى ووصول الاسلام الى شعوب تعرف الفلسفة والحكمة ظهرت الحاجة الى اقناع تلك الشعوب بالاسلام عن طريق الادلة العقلية لتظهر طائفة المتكلمين فتقوم بذلك الدور، كما أدى دخول الكثير من الشعوب فى الاسلام الى نقل بعض تلك الشعوب البدع والخرافات من ثقافاتها السابقة، علاوة على المحاولات المستمرة من قبل الفرق المتصارعة على السلطة للأستقواء بالدين سواءا عن طريق جمع الاحاديث النبوية التى تظهر فضل جماعه على حساب أخرى، او عن طريق التعظيم من دور ذلك الفريق فى نشر الدعوة على حساب الفرق المنافسة، او التقليل من شأن بعض الصحابه لحساب الاخرين، وهو ما صعد المخاوف من ضياع الدين فأصبحت الحاجة ماسة الى ايجاد وسيلة تسمح برد الدين لأصله متى انحرف العقل وسادت البدع وحاولت السياسة استغلاله عن طريق تلمس ذلك من خلال القرءآن والسنة والاحاديث النبوية وتفسيرات وأفعال الصحابة والتابعين وهو ما أدى لظهور الافكار السلفية والنصوصية.

ويمكن القول بأن أكبر المفارقات فى تاريخ الحضارة الاسلامية هى ان الاسباب التى أدت لأزدهارها وتقدمها هى نفسها الاسباب التى أدت لسقوطها، فأختلاط الدين بالدولة بالحضارة و كون الاسلام ديانة تدعو لأعمال العقل أعتمدت فى اقناع الناس بها على الادلة العقلية والتفكر لا تقديم المعجزات أدى الى الرغبة فى اكتشاف قدرة الخالق فى صنائعه ومخلوقاته ورغبة أكيده فى العلم والمعرفه، كما أدى احتدام الصراع على السلطة الى رغبة الدولة القائمة فى اثبات أحقيتها فى الحكم عن طريق التوسع والقيام باسهام حضارى ملموس يخلد ذكرها فشجعت الترجمة والعلم والفكر طالما انه لا يعاديها، كما أدى توسع الدولة وتطبيقها قدرا معقولا من المواطنه مع أهل البلاد المفتوحه فاما هم أسلموا فيصبح لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، أم هم بقوا على ديانتهم فدخلوا مع الدولة فى عهد امان توفر لهم بمقتضاه الامن والحماية والحياة الكريمة الى اسهام هؤلاء بشكل كبير فى تقدم الحضارة وازدهارها، خاصة ان الكثير منهم كانوا من أمم لها حضارات سابقة، كما أدى اضطهاد شيعة على و الخوارج الى ظهور الفقه المستقل لهاتين الطائفتين والمذاهب المنبثقة عنهم وهو ما أدى مع مذاهب أهل السنة الى تنوع فقهى كبيرحظى به الاسلام، كما أدى تباين المواقف من نتائج الصراع بين على ومعاوية الى ظهور الفرق الاسلامية، فعلى سبيل المثال لا الحصر أعتبرت بعض الفرق الاسلامية ان أحد طرفى الصراع مرتكب للكبيرة بقتاله الطرف الاخر، وظهرت بعض الفرق الاسلامية تأسيسا على موقفها من مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن ام كافر ام فى منزلة بين الكفر و الايمان، وهل هو مخلد فى النار ام يعذب بعض الوقت ثم يدخل الجنة، ام يجب ارجاء أمره ليفصل فيه الله يوم القيامة، كما كان من نتائج ذلك الصراع ظهور الخلاف حول اذا ما كانت الشورى الزامية للحاكم ام اختيارية، علاوة على ذلك فقد نشب الخلاف بين المتكلمين والسلفيين حول بعض المسائل الفقهية والعقائدية مثل قضية خلق القرءآن، وقد أدى ذلك كله لتصاعد حالة الجدل الفكرى التى أثرت الفكر والحضارة الاسلامية بشكل كبير، كما أدى عدم وجود آلية واضحة لتداول السلطة، ووجود من يرون أنهم أحق بالحكم من الدولة القائمة بشكل مستمر وتسييس الدين الى حالة دائمة لنقد الدولة القائمة، وهو ما سمح باتاحة الفرصة لتلك الدولة لتصحيح مسارها اذا ما ارادت ذلك مثلما حدث للدولة الاموية فى عهد عمر بن عبد العزيز، او ايجاد الذرائع الكافية للأطاحة بالدولة متى دخلت فى عصر التراجع والانحطاط، فتنشأ دولة جديدة أكبر من سابقتها ولديها رغبة أكبر فى التوسع و التقدم والازدهار لاثبات انها كانت الاجدر بالحكم من الاصل، كما حدث للدولة العباسية بعد ان أطاحت بالاموية، وما حدث للدولة الاموية بعد ان انتقلت للأندلس.

وعلى الجانب الاخر فقد بث الخلاف الاول بذور الفرقة والانشقاق داخل الامة، فأضهد الامويوون آل البيت من علويين وعباسيين ثم أضهد العباسيون العلويين، لينتهى الامر بانفكاك الخلافة الموحدة الى ثلاث خلافات، عباسية فى المشرق العربى وفاطمية علوية شيعية فى المغرب العربى وأموية فى الاندلس، كذلك فقد أفرز نظام الملك العضود خلفاء ضعاف غير قادرين على القيام بواجباتهم و ليس لديهم سعة أفق تسمح لهم برعاية التقدم او تقبل الخلاف بصدر رحب، علاوة على ان حيازة الخليفة للرئاسة السياسية والامامة الدينية قد صعبت من فرص الخلاف معه خاصة اذا ما انتهج سياسات تضر بالرعية، فان خالفت الخليفه فى الرأى فقد خالفت معه الامام وخرجت على الدين، وهو ما كان يجعل اشهار السيف الحل الاقرب فى كثير من الحالات، كما أدى غياب الشورى وعدم وجود نظام لتداول السلطة للأطاحة بأحلام الطامحين وابناء الشعوب المكونة للدولة الاسلامية فى ان تصل للسلطة، خاصة وان الاسهام الحضارى لتلك الشعوب قد فاق ما للعنصر العربى وهو ما دفعها للشعور بقوميتها ورغبتها فى الانفصال، كما أدت الافكار التى ظهرت مع الخوارج من تكفير المخالفين وأستخدام العنف ضدهم لتعميق الخلافات الطائفية والمذهبية والميل للتطرف والتشدد، وقد أدى ذلك كله بالاضافة الى تسييس الدين الى تلاشى الخلافة او تحول الخليفة الى منصب رمزى فى أفضل الاحوال، كذلك تفككت الخلافة الى عدة دويلات كما حدث للدويلات الوارثة للخلافتين العباسية والفاطمية وملوك الطوائف فى الاندلس، ثم أخذت تلك الدويلات فى التناحر مع بعضها البعض اما فى محاولة لأستعادة الوحدة الضائعة او التوسع او تثبيت النفوذ على حساب الدويلات الاخرى، وهو ما جعل تلك البلاد فريسة سهلة للغزاة كالتتار والصليبيين والاسبان، وقد جعلت تلك الاحداث البيئة غير مناسبة للابداع العلمى او الفكرى علاوة على اهتمام الحكام اما بصد الغزاة او التحالف معهم ضد أعداءهم او الصراع داخل دويلاتهم او مع حكام الدويلات الاخرى وهو ما أبعدهم عن تشجيع العلم والتقدم، واحيانا جعلهم مستفيدين من عدم تشجيعه، وقد أدى تكالب المحن وعدم وجود رموز قوية قادرة على اخراج الامة مما هى فيه، الى شعور المسلمين بأن السلف كانوا أناس غيرهم لديهم قدرات خارقة لا يملكونها، فأضفوا عليهم قدرا من القداسة وصلت لحد التنزيه عن الخطأ، فأغلقوا باب الاجتهاد واعمال العقل وأعتبروا ان كل ما لم يقم به السلف بدعة تستوجب المحاربة غير مراعين لفرق الزمن والظروف، ثم انتشرت الفتاوى المتشددة وأحيانا المتخلفه كرد فعل مضاد لحالة الانحلال والانحطاط التى وصلت لها الامة، كذلك لمواجهة الحكام الخونة المتعاونين مع الغزاة، او مواجهة الغزاة المدعين الاسلام.

لتتحول السلفية من حركة تهدف لرد الدين لأصله متى ضل العقل وأنتشرت البدع وتحكمت السياسة، الى حركة تدعو للجمود والتراجع وابقاء الاوضاع على ما هى عليه بحجة ان ذلك قضاء الله وقدره الذى يجب ان تسلم به الامة، ثم أدت تلك الظروف فى نهاية المطاف الى انتقال السلطة لحكام أبعد ما يكونوا للتفكير فى استعادة الحضارة كحال المماليك فى مصر والشام، وعلى ما يبدو ان العثمانيين الذين استعادوا جزءا كبيرا من الخلافة لم يكن لديهم هم ايضا المقدرة على استعادة الحضارة، خاصة أنهم لم يهتموا كثيرا باللغة العربية والتى كان الارتقاء به أساسا هاما للتقدم وكتبت بها منجزات الحضارة الاسلامية، وربما كان ذلك خوفا من شعور العرب بقوميتهم ومحاولتهم استعادة الخلافة، او أهتمامهم بأن تكون عاصمة الخلافة هى المركز الحضارى الاكبر بالسلطنة ان لم يكن الوحيد، تاركين الولايات تحت نير الجهل والتخلف، فأخذت الحضارة فى الانحطاط والتراجع أكثر وأكثر حتى زالت، وتحولت الخلافة العثمانية الى أسد اوروبا العجوز، والذى أخذت الدول الاستعمارية فى تقسيمه بينها حتى لم يعد له ذكر.

ويمكن القول بأن هناك فرصتين كبيرتين قد أضاعتهما الحضارة الاسلامية للتخلص من الاسباب التى أدت الى زوالها، الاولى عندما أطاح العباسيون بالامويين فكان بامكانهم اعادة الخلافة الراشدة، واقامة نظام قائم على الشورى وتولية الاصلح أى ما كان من هو، وبذلك يكون هناك ضمانة دائمة لتداول السلطة وبالتالى الحد من الصراعات المسلحة لنيلها، والثانية عندما نجح العثمانيون فى استعادة جزءا كبيرا من الخلافة خاصة وأنهم قاموا بتحقيق الحلم الذى طمح اليه معظم خلفاء الدولة الاسلامية ولم يستطيعوا تحقيقه حتى فى أوج تلك الدولة وهو فتح القسطنطينية، كذلك فكان أبناء الدويلات قد تعبوا من حالة الصراع المستمر ونتائجه الداميه وهو ما كان ليسهل تقبلهم لتنقية المبادئ الحضارية مما شابها واقامة حضارة جديدة، بنفس السهولة التى تقبلوا بها التخلف والجهل والمرض والرجعية، لكن على ما يبدوا ان العثمانيين قد فضلوا دور حارس القبر الذى يجمع أشلاء الميت ويدفنه ثم يقف على بابه مانعا له من الخروج من ظلمة المقبره، و مانعا للنور من ان يدخل قبره.

ولا يعنى كل ما فات انه ليس امامنا فرصة لأسهام حضارى جديد، او ان نقنع انفسنا بأن الحضارة الغربية هى الحضارة المثلى التى يمكن ان يصل الانسان اليها، فعلى الرغم مما حققته تلك الحضارة من انجازات كبرى لم تتحقق لأى من الحضارات التى سبقتها، فان ذلك لا يمنع من وجود وحش كامن بداخلها يظهر على فترات متباعده يمكنه ان يلتهم انجازاتها، كما حدث فى الحربين العالميتين الاولى والثانية، وهو ما يدفعنا للبحث عن بعض نقائص تلك الحضارة.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى