الثلاثاء ١٧ آذار (مارس) ٢٠٠٩
الكاتبة الرحّالة إيزابيل إبراهاردت
بقلم بشير خلف

عودة العاشق المنفي

صدر عن دار الوليد التابعة لمجمع الورود بالوادي كتاب للمترجم الأستاذ ميهي عبد القادر..الكتاب بعنوان: عودة العاشق المنفي..كتابات إيزابيل إبرهاردت عن وادي سوف.الكتاب من الحجم المتوسط، عدد صفحاته 200 تقديم الأستاذ الأمين مناني.

بعد المقدمة والتمهيد والإهداء قسّم المترجم مضمون الكتاب إلى أربعة أقسام:

1 ـ يوميات للرحالة إيزابيل إبرهاردت.

2 ـ المراسلات الشخصية.

3 ـ كراريس التشرّد.

4 ـ القصص القصيرة.

في التقديم للكتاب جاء ما يلي:

« حين نقرأ لهذه الكاتبة تزدحم على ذواكرنا مجموعة من الأسماء لأقطاب القصة والرزاية، وحتى الشعر في القديم والحديث.فإذا نظرتَ إلى دقّة الصورة التي تحاكي الصورة الفوتوغرافية تذكّرت الجاحظ مع نحلاته أو حيواناته، أو ابن الرومي وأبطال قصائده، وإذا تعمّقتَ في الجوانب النفسية المدمجة في الصورة ألْفيتَ نفسك مع نجيب محفوظ أو لوتي أو جيد..وإذا صرفتَ بصرك تلقاء الألوان التي تستعملها إيزابيل من ألوان بسيطة كالأبيض والأسود إلى الألوان المركّبة كالبنفسجي، والرمادي، والقرمزي..قفزتْ إلى ذهنك أسماء كثيرة مثل أبي تمام والبحتري في الأدب العربي، ومثل بودلير في الأدب الفرنسي.

عشقت إيزابيل الوادي( وادي سوف) ونخيلها، وكثبانها الرملية، وأزقتها وآبارها، وساحاتها، ومآذنها، وإبلها فجاءت كلّها صورا متناسقة منسجمة في كتاباتها عن الوادي كما كانت واضحة جليّة في ذهنها ومخيّلتها.

لقد بلغ عشقُ إيزابيل للوادي أن الذين عاشوا حياتهم كلها في هذه المدينة لا يمكن أن ينافسوها في معرفتها لها، واطلاعها على أتفه الجزئيات، والدقائق في الحياة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والروحية لهذه المدينة.

لقد عرفت إيزابيل عن الوادي خيرها وشرها، جدّها وهزلها، برّها وفجورها، عاداتها وتقاليدها.عرفت من أهلها صدقهم وكذبهم، غدرهم وإخلاصهم، صداقتهم وعداوتهم.

عرفت الطريقة التجانية والطريقة القادرية وما بينهما من علاقة، وما شاب هذه العلاقة من هدوء حينا، وعنْفٍ أحيانا.عرفت العلاقة بين أبناء المدينة الأصليين والحكّام الدخلاء، وميّزت لدى هؤلاء الحكّام الدخلاء بين أولئك الذين يجيئون من فرنسا ومعهم نزعة ديمقراطية تحرّرية إنسانية تتجلّى في معاملتهم مع السكان الأصليين، وبين أبناء جلدتهم من الفرنسيين الذين حملوا لهذا الشعب المستعبد مشاعر العداوة، والاحتقار، فتعسفوا في حقّه، واستذلّوه إلى درجة ينتج عنها الخلاف بينهم وبين الآخرين.
عرفت إيزابيل حتى أدقّ العلاقات الزوجية بل الخيانات الزوجية، ووصفتْها أدقّ الوصف، وكأنها إحدى عجائز القرية اللاتي يعرفن عادة باطلاعهن على هذه الأمور، ثم سردت هذه الوقائع كلها في أسلوب مثير لم ينج من عين إيزابيل وقلمها حتى تلك المرأة التي فاجأتها في مقبرة سيدي عبد الله ذات ليلة تفتح قبرا جديدا، وتقطع يديْ صاحبه لتفتل بها كسكسي تتخذه لتفتل به الغيرة في قلوب الرجال.

• ـ في قسم اليوميات التي هي عبارة عن ملاحظاتها اليومية لكل ما يجري حولها، أو ما يحدث لها في يوم معيّن..لا تراعي إيزابيل في هذا النوع من الكتابة الجانب الفني للجمل، بل تقـتصر في بعض الأحيان على كلمة واحدة للدلالة على موقف معيّنٍ، أو حدثٍ معيّن.ومن خلال قراءة اليوميات هذه يمكن للقارئ الحصيف أن يكوّن فكرة عن الحالة النفسية والاجتماعية التي كانت تمرّ بها الكاتبة، ويعيش القارئ معها تنقّلاتها عبْر أحياء مدينة الوادي وقرى وادي سُوف، ويتعرف على أصدقائها، وشيوخ الزوايا التي كانت ترتادها.

نورد هنا فقرة من إحدى يوميات الكاتبة:

الوادي في 14/12/ 1900

بعد يوميْن من الألم والضجر، دبّت الحياة في نفسي من جديد.بدأ الجوّ يبرد أكثر فأكثر.البارحة عند المساء غمر المنطقة ضبابٌ كثيفٌ ذكّرني بأيام الضباب هناك في بلاد المنفى.سيكون الشتاء عسيرا دون موقدٍ، ولا مالٍ.رغم ذلك ليست عندي رغبة في مغادرة هذا البلد الغريب.

منذ أيام عندما كنت جالسا مع عبد القادر في بهْو زاوية" الأقباب" تأملتُ في دهشة الديكور العجيب: وجوه الشعانبة السمر الغريبة الملثّمة بالرمادي، وأخرى تكاد تكون سوداء، نشطة حتى الشراسة لطُرود الجنوب..كل هؤلاء يحيطون بالشيخ الأشقر الضخم ذي العيْنيْن الزرقاويْن الهادئتيْن في بهْو الزاوية الخرب، قدَرُه يزيد غرابة على قدَري.

• في القسم الثاني الموسومة بـ " المراسلات اليومية" هي مراسلات الكاتبة إيزابيل للأشخاص المقرّبين منها كسليمان، وأخيها أوجستان.وقد ترجمها مترجم الكتاب ميهي عبد القادر وعلّق عليها الصحفيان ماري أوديل دي لاكور، وجان هولو..مراسلات تكشف عن عالم إيزابيل ابراهردت المليء بالكثير من الدهشة، والحيرة، والآلام، والخيانة، ولكنه أيضا مليء بالوفاء والأخوة والحبّ..مراسلات أغلبها صادر من مدينة الوادي.

هذا جزءٌ من إحدى هذه المراسلات صادرة من الكاتبة بمدينة الوادي إلى أخيها أوجستان:

الوادي في: 10/12/ 1900

وصلتني برقيتك الأخيرة وأدخلت فرحة كبيرة في قلبي. ظننتُ وقد مرّت أربعة أشهرٍ دون أن يصلني أيّ كتابٍ. إن القول المأْثور" الغائبون مخطئون" دائما فيه الكثير من الحقيقة.

أقيم في الوادي منذ 2 أوت الماضي، يعني منذ نصف سنة تقريبا، ولا أتوقع أبدا نهاية هذه الإقامة؛ بالعكس بدأتْ تأخذ عندي طابع الإقامة الدائمة أكثر فأكثر لو أنني أستلم نصيبي من أطلال" الفيلا نوف" ـ من الميراث، لا من البناية ـ قبل أن أرحل من هنا، فإنني أفكر بجدية بأن أرتبط نهائيا بهذه الواحة النائية التي ألفتُها، وأحببتُها، وأين بدأتُ أحبّ الحياة فعلاً.

• ـ في القسم الثالث " كراريس التشرّد " عبارة عن وريقات في شكل كراسات تدوّن فيها الكاتبة إيزابيل ملاحظاتها بشيءٍ من الإتقان الفنّي في مقالات أدبية، وخواطر يبرز فيها الجهد الأدبي للكاتبة.

هذه المقالات الأدبية الجميلة التي أطلق عليها المترجم: " خواطر" اخترنا من واحدة منها وهي بعنوان( المزخرف القدسي) هذا الجزء:

المزخرف المقدس

تحت قباب الجبس الصغيرة التي تعطيها الشمس لونا ذهبيا، تتراصف الدكاكين صغيرة غير متساوية كأنها خلايا النحل. مباسط السلع المتداعية هي من الخشب الخام.

يطنّ الذباب، في الضوء الأبيض يثير شهوته، ويثمله عصير التمر الخامر. الظلال البتفسجية العابرة تقطع اتبهار الأشياء، وإرهاق الساعة يكتم الأصوات. صاحب أحد الدكاكين يجلس على كرسي وهو متكئٌ على المبسط. البرنس متدلٍّ على جبينه. ينام وعيناه ليست مغمّضتيْن تمامًا، في وضعية متراخية لكن يقظة كأنه قط يستريح.

في الداخل يجلس سي حمّودة على حصيرة، إنه منكبٌّ على عمل الزخرفة الدؤوب الذي يخفّف في لُطْفٍ رتابة الساعات المملّة. ينسخ بقلمٍ ماهرٍ كلمات الكتب القديمة، ويزيّن بالذهب الصفحات العنبرية اللون بعدما كتب على أُولاها ( لا يمسّه إلاّ المطهّرون).

• في القسم الرابع " قصص قصيرة " أين تبرز بجلاء الموهبة الحقيقية للكاتبة في حبْك القصة القصيرة، حيث تستعمل كل الأساليب المشوّقة، وكيفية تحريك الشخصيات التي صادفتها في إقامتها بمدينة الوادي، والأماكن التي زارتها، إذْ تصبح مدينة الوادي، وما جاورها مسرحا لهذه القصص الشيّقة.

من قصة للكاتبة إيزابيل بعنوان: " الصديقان " نقتطع هذا الجزء:

حلّ فصل الشتاء..شتاء غريب، حزينٌ ومخيفٌ. تبدو الكثبان باهتة اللون تحت السماء السوداء، وتصرخ الريح تدفع بالرمال الرمادية تحت سور البرج. الجو باردٌ ولا يخرج الصديقان للتجوّل إلاّ نادرا لقضاء سهرات الليل الطويلة. ففي غرفة لمبار الأكثر ترتيبا ورحابة، في ركن الغرفة هناك طاولة وكرسي وعلى خشبة مثبّتة على الحائط يوجد جراب العسكر، وإلى جانبه البندقية والسيف، أمّا الثياب فمعلّقة على مسامير.

كان بوسعيد وهو جندي قديم يغمر صديقه العسكري الجديد برعاية أبوية، يقضي له حاجاته، ويغسل له ثيابه، ثمّ إنه بيّض جدران الغرفة بالجير، وعلّق عليها صورا من الجرائد، ومرآة عربية، وثبّت على الطاولة قرنيْ غزال كان قد سرقهما من مطعم الضبّاط، وأتى بتمائم من جلد، ٍ وسهامٍ تارقية حجارتها ملوّنة..زيّن غرفتهما بهذه الأشياء، بعد أن هجر غرفته ليأتي كل مساء بفراشه عند لمبار.

وأخيرا إن المترجم ميهي عبد القادر قد استطاع وبمهارة الخبير أن ينقل إلينا في لغة رقيقة، وعبارة رشيقة أنيقة، وبأسلوب سلسٍ جميل أفكار الرحالة الأديبة الكاتبة إيزابيل، وصورها، ومشاعرها، وأحاسيسها، وأطيافها، وألوانها، وشطحاتها، ومغامراتها،وقصصها، كل ذلك بأمانة وصدقٍ إلى حدٍّ بعيدٍ؛ فضلاً على أنه حافظ على روح النصّ الأصلي، ولم ينقص من قيمته الدلالية، بل إنه كثيرا ما تماهى معه وكأن القارئ يقرأ للمترجم وليس للكاتبة إيزابيل.

منْ هي إيزابيل إبراهردت؟
« في كثير من المرّات، وعلى طرق حياتي الشريدة، كنت أسائل نفسي:
إلى أين أذهب؟ وتوصّلتُ إلى أن أفهم أنني بين أبناء الشعب،
وعند البدو أتجه إلى ينابيع الحياة..إنني أقوم بسفرٍ في أعماق الإنسانية.»( إبراهاردت)
 
أن تكوم امرأة: هي بداية لرحلة عذاب..
أن تكون امرأة وأديبة: هي قمة العذاب..
أن تكون امرأة وأديبة ومهووسة بالحرية: هو العذاب كله مبتدأه ومنتهاه..
كانت إيزابيل إبراهاردت هذا كله...
• كانت امرأة لم تكن تريد أن تكونها، فارتدت ثياب الرجال لتخفي معالمها، مفاتنها، أنوثتها، وتكتم صرخة الجمال فيها..
• جاءت إلى الجزائر من أوروبا في جسد فتاة لا تتعدّى العشرين من العمر، في هندام رجل، في لباس فارسٍٍ عربي، والعرب من المحيط إلى الخليج " إمّا نعجة مذبوحة، أو حاكمٌ قصّابٌ "
• جاءتنا إيزابيل إبراهاردت أو " محمود سعدي" كما كانت تمضي بذلك قصصها، وتحقيقاتها في الصحافة الجزائرية في بداية القرن الماضي.
• ولدت إيزابيل إبراهاردت سنة 1877 من أمٍّ روسية مسيحية وأب؟؟؟ احتار الناس في نسبها قالت عنه هي إنه تركي مسلم، وقال البعض إنه ذلك الكاهن الأرثوذوكسي الذي ترك الكنيسة، فأتى به الجنرال زوج أمها ليعلم أبناءه، ففرّ بالزوجة من معقل الاستبداد القيصري بروسيا إلى سويسرا، وهو البلد الهادئ المسالم الذي يتقاطع فيه الحبّ والسلام.
• في سنّ العشرين تتبع الفتاة والدتها إلى مدينة عنابة، وهناك تعتنق الوالدة الإسلام، وتموت بعد ذلك بقليل فتعود الفتاة إلى جنيف لتقوم بواجباتها اتجاه معلمها، أو أبيها، ولكنه يموت هو الآخر بعد زمنٍ قصيرٍ فتعود إلى إفريقيا، وتعبر تونس، والشرق الجزائري على ظهر حصانٍ وهي في لباس فارسٍ عربي، وقد تمكّنت من لغة البلد، فأتقنت التواصل بها مع أهله.
• في صحراء الجزائر تجد إيزابيل نفسها، حنينها، قلمها، وحتّى دينها حيث تنضمّ في مدينة الوادي إلى الزاوية القادرية، وتزور الزوايا، وتجد في التصوّف راحة داخلية سرعان ما يحطّمها القلق الفطري الرابض في أعماق المرأة.
• لعلّ أبرز وأسعد فترة في حياتها تلك التي قضتها في عين الصفراء أين التقت الجنرال " ليوتاي" إذ نشأت صداقة بينهما مكنتها من القيام بتحقيقاتها الصحفية بكل حرية، فكانت تجوب الصحراء مع قوافل البدو، تقاسمهم حياتهم الصعبة في الرمال الساخنة، والجبال القاحلة، وتزور القصور، والقرى الصحراوية والزوايا، والأماكن المقدسة.
• ما قامت إيزابيل إبراهاردت بأيّ دوْرٍ سياسي، بل كانت دارسة لحياة أهالي البلد الذين استضافوها، وأحبّوها، وأحبّتهم فاتخذت منهم أصدقاء لها، ورفضت أن تلعب دوْر الاستشراق الذي كان موضة ذلك العصر فتنظر إليهم بعين الغرابة والدهشة، والاستعلاء، فأثارت بذلك حفيظة " الكولون" الذين ما أحبّوها، وما استساغوا ما تكتبه، ولا أفكارها التحرّرية، فقاوموها وهاجموها.
• وانتهت أيامها بأن جاءتها المنية بغتة ذات صباح خريفي يوم: 21 أكتوبر 1904 وهي في سن السابعة والعشرين إثْر فيضان أحد الأودية بعد هطول أمطارٍ غزيرة أدّت إلى ردْم قرية بعين الصفراء كانت إيزابيل تقطن بها، ولم يُعثر على جثتها إلاّ بعد ثلاثة أيامٍ غارقةً في الأوحال تحت الأنقاض.
• هي القائلة:
« هذه هي حياتي، حياة روح مغامرة..متحرّرة من استبداد آلاف الأشياء الصغيرة التي نسميها " المكتسبات" و " العادات" و" الأعراف" ومتشوّقة إلى حياةٍ تحت الشمس..حياة متغيّرة وحرّة.»

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى