الثلاثاء ١٠ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم فوزية العلوي

غفلة

السّلام عليكم....
اللّيمون متجعّد في الصّناديق الخشبيّة المتداعية.
الخوخ ازداد إحمرارا ثمّ تعفّن يزحف بداخله دود لا مرئيّ.
الباب الصفيح ذو المصراعين مفتوح نصف فتحة تعابثه ريح خبيثة فيئزّ متمارضا....
أنت هنا ياعم!
لا أحد يردّ، لكنّ رائحة آدميّة عطنة تنبعث من الظّلمة الملفوفة في الغبار. وقع أقدام بالدّاخل وقرقعة، وصراخ طفل أضاع بوصلة الطّفولة.
أنحني لأجسّ الخوخ،تغوص سبّابتي وإبهامي في إهابه العفن، فانفض يدي كما لو كنت المس جثة متفسّخة.
مساء الخير... لا أحد يرد ّوالميزان على المصطبة يتأرجح بفعل النّسمات المنسربة من الكوى العلويةّ ولا أحد يزن بالقسطاس.
يتمطّى طيف في الفراغ، يتقدّم متثاقلا، يأتي متعمّما بنصف وجه، وسيجارة توشك على الانطفاء يمتصّها فم دون أن ينفتح...
ناديتني، قال الطّيف، عفوا كنت أصلّي! والوقت بين العصر والمغرب، وثغاء خروف أهرمه الحبس وراء الباب....... قلت وأنا غير قادرعلى إخفاء حرجي:
-كنت أريد بعض الجزر أو اليقطين ـ كانت نفسي تحنّ الى ثريد أمي ـ و أريد بعض الفحم لو سمحت، قارورة الغاز فارغة وأنت أعلم بالبلدة... آه عفوا أريد بعض السّجائر أيضا....
" الليل.آه ياليل جيت نشكيلك، ونبوحْ لكْ بلوعتي وأنيني...."
.فتاة لا مرئية تتوسّد مذياعا والعشق يثقب قلبها...
البائع يمتعض، يزعق، يأمرها بإخماد المذياع. تستجيب فتسكته على مضض، ثمّ ينطلق صوتها بعد ذلك شجيّا... " الليل آه ياليل جيت نشكيلك "...
يحاول الرّجل إخفاء انفعاله متجاهلا صوت البنت.
« لا جزر ولا يقطين »قالها الرجل متوتّرا، ربما وجدت لك بعض حبّات البطاطا عند أم السّعد،أمّا الفحم عفوا لا أدري، رّبما أسعفك بما في الكانون.
ينطّ الخروف وقد تخلّص من وثاقه ويقفز في الظّلام. فتتداعى صناديق وكؤوس وقوارير وينطّ بطّ وديكة روميّة وعربيّة، من أقفاص بلا جنسيّة منضّدة في مكان ما من الفضاء المظلم.
كنت سأغلق المحلّ ولكني أ جّلت الأمر إلى حين، قدّرت أن أحدا ربما يأتي لاقتناء بعض الفاكهة أو السّجائر أو الشّمع،النّور معطوب في الآونة الأخيرة..أو لعلّ أحدا يأتي لاستشارة أم السّعد حول علاج ما..يكون طفل "غزّل " أو امرأة استعصى عليها الوضع،أو رجل به عسر بول. وأم السعد تعرفها لا تنام أبدا منذ مات أخوها تقضّي اللّيل بين صلاتها ونواحها،ولكنّها قرّرت أن تصاحبني على كلّ حال ـ أنا لا أعرف أم السّعد هذه ولا رأيتها قطّ ـ والجماعة كلّهم مستعدّون للذهاب، الحيّ كلّه سيذهب،أنت أيضا ستذهب، لا أظنّك ستمانع، هذه الفرصة قد لا تعود أبدا.
أصابني دوار...رائحة الخوخ مقرفة ذكّرتني ببطن مبقورة لجندي أمريكي في الفلّوجة رأيته على الشّاشة في الآونة الأخيرة، فظللت أستشعر العفن في كلّ مكان.وبعر الخروف اختلط بفضلات الدّواجن واختمر فصار كغازات الموت التي يستعملونها في الحروب، لكن الرّجل لم يكن يأبه لذلك أبدا، ألف الرّائحة وألفته، المسألة كلّها موكولة للتّعوّد. يدور الرّجل نشيطا في كدرونه الطويل، والسّيجارة ليست تنزل من فيه،تحرق شفتيه فلا يأبه، ويغمض عينيه لاتّقاء الدخان. يقفز وراء الخروف الجامح فيمسكه بشدّة من صوف ظهره ويهزّه هزّا ليعيده إلى وثاقه، ثمّ ينقضّ على الطّيور الفارّة من أقفاصها،يمسك هذا بضربة من يده وذاك بركلة من ساقه، فيسيطر سريعا على الوضع ويحشرها جميعا في العلب وهي تصيح مستغيثة ويغلق الباب. يرشّ بعض الماء على اللّيمون الذي تجعّد، ويسرّ لابنه الواقف هناك أن يأخذ صندوق الخوخ إلى البقرة،فهو لا يمكن أن يقاوم حرارة الدكان إلى أن يعود من مهمّته. يفرغ الدّرج من حصيلة اليوم ويحكم غطاء رأسه حريصا على إخفاء نصف وجهه كأنما يخاتل العالم.يخرج من علبة الكرتون الوسخة شمعا وقطعة كبيرة من الأشق، وقارورة لسائل نكرة.
يمكنني أنا السّاكن الغريب من بعض الفحم وأم ّالسعّد اعتذرت عن البطاطا. يؤجّل الرّجل استخلاص الثّمن إلى حين، مبيّنا أنّ الدّنيا لن تطير... ويأمرني بتجهيز نفسي ريثما يستعجل الآخرين.
لم أستطع معارضته... كان صارما وجازما وحازما وواثقا من أمره، والأشياء أمام عينيه واضحة لا غبش فيها ولا غيوم. لم أتمكّن حتى من الاستفسار فكلّهم جاؤوا بأسرع مما توقّعت.... النّساء والدّجاج والرّجال والخرفان والأطفال والسّلال وقوارير الماء والبطّيخ العبدليّ الفاقع،وعلب البسكويت الرّديء وعراجين البسر الكالحة، والرمّان القابسيّ، وركبوا الشّاحنة في تدافع منسجم كتدافع الأمواج.
السّلام عليكم!
لا أحد يردّ.. ورجلي ظلّت خارج صندوق الشّاحنة بينما انحشرت الأخرى ضمن الأرجل حيث يصعب علي أن أميّزها لو شئت النّزول..لكن ما من أحد يأبه... كانت الفتيات في زينة، اتلامحها كلما انعكس نور على وجوههن أو صدورهن. وقلبي لم يعد تتيّمه عين ولا جيد... الفتيات على كلّ لون وفي كلّ الأوضاع... مختمرات كالزّواهد،وأخريات بسراويل ضيقة وبطون عارية ونهود مستنفرة.
الرّجال كانوا كالغائصين في آبار أنفسهم، لا أحد ينظر إلى الآخر أو يفكّر في شيء،والسّجائر في احتراق سريع والزّمن هباء... وأغنية "اللّيل آه ياليل جيت نشكيلك ونبوحلك بلوعتي وأنيني " تعالت متحشرجة. والفتاة مدسوسة لست أدري أين من الشّاحنة، يأتيني صوتها كالفارّ من نفسه، فيه بحّة وشجن،وقلبي متعب من زمان لم أعد قادرا على تحديده، لكنّ الأطفال أفسدوا شجني بالزّعيق والصّهيل..بعضهم يطالب بالماء والآخر بالكعك، و الآخر بال على ساقيه من فرط الزّحام.والصّوت خمد في ليله،ولم يعد يبث ّشكواه لأحد.
قفزت فتاةمن الجمع،وانقضّت على سطل كان يحوي شيئا ما،فأفرغته وأخذت تدقّ عليه، وهبّت أخريات للرّقص رغم ضيق المكان. وشيخ أصابه الطّرب فحسر عن رأسه وراح يلوّح بعمامته.
امرأة انفرط عقدها فأخذت تولول وتجمع حبّاته التي ضاع أكثرها في الزّحام،وهي تقسم ولا أحد استحلفها أنّه من لؤلؤ مكة....
نزلنا في اللّاأين؟ والزّمان قدّرت أنه تجاوز منتصف اللّيل... الهواء هبّ رطبا وباردا كأنما يعد بالمطر، والشّاحنة توقّفت وقفز جميع من فيها، نساء وأطفالا ورجالا وخرفانا وديكة وسلالا،وبعض البطيخ بقره الزّحام ففاح مختلطا برائحة البول والعرق وأشياء أخرى.
السّلام عليكم...
لا أحد يردّ....
كانت القاعة فسيحة وشبه مضاءة ّوفوانيسها صفراء ضعيفة من فرط الغبار، والجدران مكسوّة بالزّرابي المجلوبة من ليبيا والجزائر، والحصر السّعفية المختّمة.
صور مجهولة مثبتة على الجدران بمسامير شديدة النتوء،وقد خطّ فوق إحداها بخطّ معوجّ "سيف الله المسلول".وخزائن متفاوتة الحجم موضوعة هنا وهناك وقد تكدّست فوقها كتب تتحدّث عن حقب غابرة،وحوادث خارج التاريخ. أجذاع ملتفّة في البرانيس تهمهم بما يشبه الأذكاروالأوراد.
...السلام عليكم لا أحد يردّ...
" اللّيل آه ياليل جيت نشكيلك ونبوح لك بلوعتي وأنيني " يردّدها الصدى عن بعد، والبنيّة قلبها مثقوب من فرط الصّبابة.
النّسوة في هرج يوزّعن الأطعمة على البسط المفروشة عند السّواري وبعضهن ينظّف الأواني قرب النافورة،والماء يتقاطر على المرافق والرّكب ويلطّخ المكان المترب...أما أنافلا أعلم لماذا أتيت؟ ولماذا لم أرفض الدعوة من أصلها... كنت في أسوء الأحوال أستفسر وأدقّق في الأمر قبل أن آتي إلى هنا،لكنّ الدوي ّالذي انفلق أجهض حيرتي وبدّد أسئلتي.
دخلوا...
السلام علينا...
لا احد يردّ
ودفوفهم مشهورة في الهواء،وصدورهم مشرعة للرّيح وبرانيسهم تلعق وجه الأرض، وأيديهم كالخزف المحميّ تهوي على الدّفوف فتضجّ برنين يرجف القلوب والأوصال،والنّسوة هببن واقفات،والصّحون ديست ببطّيخها ومرقها،والأطفال في فرق،والرّجال لبّوا النّداء وانتفضوا كما لو لدغوا، وانقلب المكان رقصا محموما ودورانا مسعورا، والأصوات انطلقت متجانسة كما لو كانت من حنجرة واحدة
" ياشيخ شيخ زمانك
يا هلال عالي في السّما مرشوق
يانور الافجار مااعظم شانك
داوي حبابك ضايقة الخلوق.
***
ارتعشت الجفون والخدود، والأكتاف اهتزّت والأجذاع بدات تميس بطيئة ثمّ سرى فيها مسّ فصارت تختلج،،،والأقدام هي الأخرى كأنما لم تعد لأصحابها...
الدّفوف مسعورة والعيون مغمضة أو مفتّحة على الغيب والرّؤوس في حركات موقّعة يتعاورها اليمين والشمال.
"ياشيخ جيتك نجري
خليت داري والغنم ومراحي
ياشيخ باللّه لا تبوح بسرّي
ولا تمكّن الأنذال من مطراحي.
............وياشيخ شيخ زمانك من تكون؟
ومن طرّز وجهك الأبلج بخيوط النور في هذه الخواطر؟ ومن أوثق القلوب بشامة وجهك واتّساع جبينك؟ ومن وطّن النفوس عليك؟ومن جنّد كل هؤلاء لينزلوا في باحتك مرجئين كلّ شيء لاسترضائك؟..هل أنت هنا فعلا تحت هذه القبّة الخضراء،أم تراك بعيدا في اّللامكان واللاّزمان وشمعك كان أصابعك،تضيئها في عيني "رمّانة " حبيبتك ذات الجدائل العسلية و" العبروق" الأبيض، لكنهم أقسموا أنّهم رأوا أكثر من مرّة،شمعك يخرج من المقام، وتحمله الطيور الصّادحة في الفضاء إلى مكان مجهول ثم ترسله شهبا على الوادي المجدب فيتفجّر ماء زلالا،ويهدر في السّفوح والجوّ صحو ولا غيم في السّماء ولا خريف يبشّر بالمطر.
..... ياشيخ شيخ زمانك
ياهلال ضاوي في السما مرشوق
يانور الافجار ماعظم شانك
داوي حبابك ضايقة لخلوق.
.................. ها أنا أرقص معهم ياشيخ على إيقاع دفوف أنا لا أعرف أصحابها، ولا من أين أتوا؟ ها أنا أتيت إليك في هذا اللّيل الغريب..وها أني أشمّ في جوّك المترب أردان أمي، وما كنت أصل إليك لولا شاحنة العمّ ّالذي لا أعرف اسمه أصلا،فهل قادر أنت ياشيخي حقيقة على مداواتي؟ وهل في وسعك أن تضمّد ماتقرّح من ثمار الرّوح؟ هل قادر أنت أن تعيد لنا سقيفة البيت والمربض الكبير الذي استولت عليهما البلدية إثما وبهتانا، وهل بإمكانك أن تعيد أخي حامد من غربته،وأن تعيد لأمّي إلى فرحها،وقمحها المكوّم في الحوش تذروه وتنقّيه لٌإعداد العولة،وهي تغنّي عند القيلولة فتصطف ّالخطاطيف على أسلاك الكهرباء تسترق السّمع اليها،وتتعلّم منها كيف تهيّئ الأمّهات لأبنائها دفء الشتاء.
أعدنا الى أبي، أو أعده إلينا، جمّعنا كما كناّ، رمّانة لم ينفرط حبّها،اجعلنا نعود جميعا الى البيت الكبير،لا من تزوّج ولا من مات، ولا من وطّن نفسه على البعد، اجعل الماء راقصا في البئر، والدّلو يغنّي في صعوده ونزوله، اجعل قوارير الماء هذه تنقرض،فعمّتي لو علمت أنّ الماء صار يباع لبكت في قبرها بكاء مرّا. أعد للمشمش طعمه المقدّس، وللبطّيخ صفرته العاشقة،اجعل الفلفل الأخضر كريم الرّائحة كما كان دائما تعترضنا رائحته في الزّقاق كأنّما تفتح الأذرع لتحضننا،والحلوى الحمصيّة الشّهيّة،بغية المتمنّي.
لم أدر مالذي اعتراني، كنت أصرخ وأبكي وأدور كالخذروف وأتمرّغ على الحصر والأنطاع،والنّاس تحلّقوا بي وهم يجهشون بالبكاء،والدّمع خضب اللّحي والنّحور،والنّساء متفطّرة قلوبهنّ من الإشفاق يمددن نحوي مشارب الماء، وأعواد الندّ وهي تشتعل،وينضحن شعري بماء الورد،والفتاة التي كانت تغنّي « اللّيل،آه يليل،جيت نشكيلك »،منكبّة علّيّ،ودمعها يهمي على وجهي في شجن لم أر أحسن منه، وصاحب الدكّان يزعق في تأثّر « أنا عرفته منذ رأيته أوّل مرّة،علمت أنّ به همّا عظيما،وعلمت أنّه من عشّاق الشّيخ لكنّه يتكتّم، العلامات الصّحيحة أنا لا أتيه عنها،وهي لا تضلّ طريقها الى قلبي، وكيف أتيه وأنا في صحبته مايزيد عن الثّلاثين»....كان العمّ الذي لا أعرف اسمه يهذي ويزبد، والنّاس أصابهم الإعياء وبلغ منهم الحزن كلّ مبلغ واللّيل انحسر والصّبح بدأ يتنفّس.
كانت الشّاحنة تشخر وهي في طريقها الى البلدة، الأطفال تكدّس بعضهم فوق بعض كالخرفان، النساء بين شخير وثرثرة قاتمة، الرّجال في البرانيس يحرقون قلوبهم بالسّجائر الرّخيصة المهرّبة من الجزائر،وليبيا.الفتاة التي ثقب العشق قلبها بدت متلفّعة بردائها الأسود كراهبة دير غابر، في الزّمن السّحيق،وعندما تفطّنت إلى أنّي كنت أسترق النّظر إليها تهلّل وجهها وأشرق وهتفت بصوت لم أسمع أعذب منه: "حبيبي يسعد أوقاته.." فداخلني الطّرب وطفقت أغنّي معها.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى