الاثنين ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٥
بقلم محمد أحمد نجيب

فرصة أخرى للحياة

"بالطبع أذكرها كما أتذكر الحلم البعيد والأمل الذى ظل قلبى معلق به منذ رأيتها، بل منذ أن سمعت عنها، اسمها الذى تمنيت أن يجاوره أسمى، ووجهها المضئ وشعرها الثائر وقوامها المتناسق ومشاعرها الفياضة التى أيقظت سبات قلبى وبرود عواطفى، فأحيتنى من الوحدة، نعم أتذكر أنها الوحيدة التى جعلتنى أسعى إليها فأجدها تتقرب منى، فأظن أننى ملكتها فلا أجد إلا السراب، فأعود للبحث عنها بلا نهاية، فعشقها متجدد و إحساسها وميض من نور وهاج متأجج، باختصار هى فتاتى التى أحلم وهى أنثاى كما تخيلت أن تكون"، لم أستطع أن أرد حتى بنصف هذا الذى فكرت به لصديقى "فوزي" عندما سألنى عما اذا كنت أذكر "هدى"، بل إننى ردت فى برود بما يفيد أننى لا أتذكرها جيدا.

 "ولكنك كنت تهيم بها عشقا"

 ألتفت إليه فى دهشة "ومن أخبرك بهذا، علاقتى ب"هدى" كانت فى حدود الزمالة ولم تتعدى ما هو أبعد من ذلك".

وفى هذا لم أكن كاذبا إلى حد ما، فأمام الناس لم نكن عشاقا وحتى إذا انفردت بها لم نكن لنتفوه بأى كلام يدل على الحب الكامن بداخلنا، أو بداخلى أنا على الأقل.

 "لا تقل هذا لى، فالجميع يعرف كم كنت تحبها وتسعى ورائها"

 "من هؤلاء الذين تتحدث عنهم. أنا و"هدى" كما قلت لك كنا مجرد زملاء"

 "لن أدعك تناقشنى فى ذلك، فقط أذكرك انك لم تكن تأتى الجامعة إلا كى تراها، المحاضرات، المعامل، كل نشاط فى الكلية كنت تتواجد فيه بجوارها كظل يتابعها"

 هو أيضا لم يكن مخطئا، ولكنى لم أكن أتوقع أن يكون هذا ملاحظا لهذه الدرجة "مرافقتى لها كانت على اعتبار الزمالة كما ذكرت لك، وكى اثبت لك هذا أذكرك بأنها كانت مخطوبة وتزوجت فى آخر الأمر، لا لا لقد ذهبتم بظنونكم بعيدا"

كان ردى مقنعا حتى أن لسانه انحبس فى فمه ولم ينطق بعدها و لكن فى الحقيقة ردى لم يكن ليطفئ براكين أشعلها بتذكرى لها وللحب الساكن بين أركان فؤادى المتشوق لرؤيتها، العاشق للهالة التى تحيط بمدارها، المتألم لبعدها عنى و غيابها عن دنياى، قد كانت مخطوبة، نعم، وكنت أحبها، لقد تزوجت، نعم، وكنت أحبها، كيف يمنعنى ارتباطها بغيرى من تواصل مشاعرى معها وإحساسى الدائم بنبضات قلبها و تقلب أهوائها، ليس أحدا غيرى بقادر أن على أن يفهمها مثلى، فهى لى ككتاب مفتوح أخشى أن ألمسه فتتمزق صفحاته، إنى أقرأه من بعيد، أتمنى أن أكون لها أيضا رغبة مكنونة وأمل تسعى إليه ولا أعلم حتى الآن مكانتى عندها فهذه كانت الورقة المحذوفة من كتابها، أو أنه من غير المسموح للمحب أن يعرف من محبوبته حقيقة مشاعرها تجاهه.

لم يدم صمته طويلا على أية حال وأخذنا بتكلم فى مواضيع متفرقة ثم تذكرت أنه من بدأ الحديث عن "هدى" ولم يكمله،

 "لماذا كنت تسألنى عن "هدى"، أمازلت تتابع أخبارها"

لمحت فى تعبيرات وجهه نشوة انتصار، لعله يؤكد لنفسه ما أنكرته

"لقد تطلقت من زوجها الأسبوع الماضي "قالها وهو يتفرس فى وجهى ليرى وقع الخبر فى نفسى، إلا انه لم ير إلا الحزن العميق "آخر ما كنت أتوقعه أن يحزنك مثل هذا الخبر، أم أن تمثل على، ولكن لا انك لم تكن تجيد التمثيل آبدا"

 لم أجد ما أستطيع أن أخبره به ولو أخبرته لما فهمه ولو فهمه لما صدقه، فمثله لا ينظر للحياة إلا بعيون الصياد، أما أنا فنظرتى للحياة أهدى من ذلك بكثير فلم أكن أعيش فى غابة أو فى أعماق المحيطات، إن بفؤادى لمتسع للبشر كلهم، إذا كنت أحب "هدى"، فأننى أحب لها السعادة وراحة البال ولا يسرنى أبدا أنها تطلقت بعد شهرين فقط من زواجها، حتى وان كانت تكره زوجها، فطلاقها السريع مؤلم لها وألمها أحسه أكثر منها، بينما صديقى ينظر لهذا وكأنه فرصة أتت، كفريسة تهيأت لصياد يستعد ليرمى بشباكه حولها.

 "ولما لا تتوقع أن أحزن لهذا أليست "هدى" بزميلة لنا على الأقل"

 "زميلتك وحدك، أما أنا فالأمر لا يعنيني"

أعلم أنه يلمح لما كان عنه من قبل يفصح ولكنى لم أبالى فالخبر الذى أتى به شغل تفكيرى تماما، تذكرت أننى أحتفظ برقم تليفونها ولكننى ترددت فى فكرة الاتصال بها، خشيت ما تظنه منى وما أظنه أنا من نفسى.

 "لقد عدت تكلم نفسك مرة أخرى، ترى الخبر الذى قلته لك هو ما يشغلك أم ما هو ما وراء الخبر"

وددت لو يكف هذا الثرثار من مقاطعة حبل أفكارى ويدعنى كى أصل لهدوء نفسى الذى أتمنى أن أستعيده " ما هو الذى وراء الخبر يا أبو العريف"

كنت أشعر أن وراءه المزيد، فحاولت استفزازه لكى يفصح بما عنده.

 "عندما قابلتها بعد يوم واحد من طلاقها، سألتنى عنك وكانت مهتمة للغاية"

لا أنكر كم كان وقع كلامه الذى يقول على لسانها عذبا، ولكنى شككت فى نواياه" حيلة طريفة جربها مع غيرى فأنا لم أعرفك من الأمس" حقيقة لم يكن مخادعا ولكن أردتن أن أستيقن.

 "تعرف أننى لم أكذب عليك من قبل، أنا نفسى اندهشت من سؤالها عنك ولما استفسرت منها، علمت أنك سبب طلاقها"

 "كيف تقول هذا، أذكر لى ما قالته لك بالتفصيل الممل" ولكم كانت الحقيقة ممزوجة بالنبأ السار والمحزن فى تناغم عجيب، فزوجها وجد عندها قصائد شعر كنا نتبادلها، قصائد حب تائهة ليس لها عنوان فلا كانت هى تقصدنى أنا وكنت أمثل بدورى أننى أقصد المعنى الأسمى للحب، دون أن تكون لأنثى بذاتها، فهى كانت تهوى الشعر وكنت أبرع فيه وكانت تعشق الحب و تقدسه وكنت خير من يكلمها عنه، دون أن أطالبها بحبى أو أفرض عليها وجودى، فما ذنبها لا أعلم، ولكن السؤال الذى ظل يحيرنى، ما السبب الذى جعلها تحتفظ بتلك القصائد، ثم من أين لزوجها بمعرفة كاتبها
"تمنيت قبل الوداع سلاما لعله يوقف الزمن الآتي" نطقها فوزى فأيقظنى من تفكيرى العميق،

 "ممن سمعت هذا البيت، انك لا تجيد الشعر"

 "وأنت الذى تجيده أليس كذلك" قالها وأنا أكاد المح شبح ابتسامة تتوارى عندما نظرت إليه محدقا، فهذا البيت كان مطلع لآخر قصيدة أرسلتها إليها قبل زواجها بيوم واحد فقط.

 "أنت تعلم أن هذا البيت لك"

 "سألتك، فلا تتهرب، ممن سمعته"

 "منها بالطبع، لقد قالتها والدمع بعينيها والصوت متهدج كأنه يخرج من أعماق روحها، فلا يكاد يسمع"

ألجمت الحقيقة لسانى، إذن كانت تفهم، بل وتشعر بما أكنه لها من عواطف الحب الصادق وأنا الذى ظننتها معجبة بشعرى فقط وأنها ترافقنى كى تسمع المزيد منه، دون أن يكون لى تأثير مباشر عليها وعلى مشاعرها،

"جروحى من يشفيها من يمسح عنى الدموع
بكلمة منك روحى تحييها أحبك تضئ الشموع"

تلك الكلمات الرقيقة كانت آخر ما سمعته منها قبل زواجها بساعات قليلة، حينها ضحكت والحزن يعتصر قلبى قائلا "لسوف تجدى ما تطلبى عما قريب"، إلا أنها لم ترد و قطعت الاتصال، ظننت حينها أن حياءها هو السبب فى ذلك ولكن بعد كل الذى سمعته من فوزى، صار لكل كلمة قالتها لى معنى آخر، إننى أتذكر السنوات الثلاث الماضية كأبله كان يرافق محبوبته ولا يتفوه بكلمة واحدة تدل على حبه الصريح، بينما الرفاق من حوله يتراشقون بكلمات الغزل المبتذلة وعبارات الحب الملفقة، بينما كنت وفتاتى بجوارى لا أشعر بحبها لى وبأنها تتمنى أن تسمعها منى لكى تشفى جروحها، ولكن يبدو أن مأساتى كانت أكبر من أحزن لها، فأخذت ضحكاتى تعلو و تتصاعد بشكل هزلى سخيف.

 "ما الذى يضحكك، يبدو أنك فقدت عقلك"
 "لقد فقدت عقلى وقلبى معا يا صديقى العزيز، والبركة فيك"

 "كيف تقول لى مثل هذا الكلام، وقد أتيت لك بما يحيى حبك القديم الذى مازلت واثقا بتأثيره عليك وأؤكد لها أنها تبادلك نفس الشعور و إلا لما أطلعتنى على أسرارها بهذا الشكل"

حتى هذا لم يكن ليريح عذاب قلبى الذى طعنته بسكين الكبرياء البارد، فحرمت نفسى ومن أحببت شهورا من السعادة كانت من أبسط حقوقنا فى الحياة، فى الواقع لا أجد ما أفعله لكى أصلح ما أفسدت،

 "لقد أعطتنى رقم هاتفها الجديد، بالطبع كانت تقصد أن أعطيه لك"

نظرت لصديقى بامتنان، إنه لم ينسى شئ وهذا لم يفاجئنى، فهو كان دوما أكثر منى جرأة وإقداما فى الأمور التى كنت أخجل منها فهو أحب وتزوج منذ سنتين، ولديه ابن صغير يشبه تماما، ناجح فى حياته أكثر منى، إلا أن هذا لم يكن أبدا دافعا للغيرة منه، فنحن أصدقاء من فترة طويلة وأنا أنظر إليه كأنه الجزء المكمل لى، أخذت منه رقم الهاتف ووعدته أن أتصل بها، وأن أكون حازما هذه المرة، فليس الوقت أمامنا بطويل، وما أستطيع أن أفعله اليوم قد لا أقدر عليه غدا، ونظرت إليه أتأمل معنى الصداقة الخالصة، وعانقته متمنيا له حظا موفقا وحياة هانئة.

النهاية (أقصد البداية)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى