الأربعاء ٢١ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم بيانكا ماضية

فصل من سيرة روائي عاشق

سمع نقراً خفيفاً على بابه ، فترك قلمه وأوراقه وأفكاره ، وألقى من على كتفيه تعبه وإرهاقه ، وقام متثاقل الخطا ليفتح الباب ... وما إن فتحه حتى وجد ساعي البريد ينظر إليه وقد ساءه الانتظار ... رد على تحيته وعلم منه أنه قد أتى إليه مراراً فلم يجده ، وأنه يريد تسليمه مغلّفاً مرسلاً بالبريد المضمون ، ولابد من أن يدوّن توقيعه على تسلمه ...
رسم له الرجل توقيعه بسرعة على ورقة كانت بيد ساعي البريد ، فأعطاه هذا الأخير مغلّفاً يشي بأنه قادم من بلاد بعيدة ... قرأ العنوان فوجده مرسلاً من وطنه .

شكر ساعي البريد واعتذر له ، وأغلق الباب وراءه ، وانتظر للحظات وهو يفكر ... تُرى ما الذي تحتويه هذه الرسالة ؟!! .
فتح المغلّف وأخرج الرسالة من جوفه ، وبدأ يقرأ ...

( متقوقعٌ أنتَ في غرفتك ... تكتب وتكتب ، ولاترد على الرسائل ، و لاتأبه لرنين الهاتف ... أعرف أنك بقدرتك العقلية الفائقة تستطيع أن تتحكم بالأمور... كي لاتشرد قليلاً عن أفكارك ... وتبقى رهين الورق والخيال .
متقوقعٌ أنتَ في غرفتك ... إذاً ... لاتخرجْ منها ، وإن استحضر خيالُك صورةََ المكان الذي التقينا به ... لاتتعب نفسك في الذهاب إليه ، لأنك إن خرجتَ سيجمد أفكارَك البردُ الذي يعربد في الخارج ... ، ولكن إن أردتَ الخروج لأمر ما ، تدثّر بكل أوراقكَ وحروفكَ ، فربما تهب عاصفة على غرفتكَ فتكسر نوافذها وتسرق مارتبتَه من أوراق وحروف ، وتبعثرها في شوارع حزينة لن تقدر على أن تلملمها بمفردكَ ، وأنت وحيد في هذا العالم ..

وحيدٌ أنتَ ... واتخذتَ الصمت منهجاً كي تجد لك مكاناً في هذا العالم ، لا ... لن أكلمكَ ... ولن أقطعَ سلاسل الصمت التي خضتَ متاهاتها بحثاً عن ذاتكَ ...

وإن أردت قراءة أفكاري ، لاتفتح بريدكَ ، لأنك ستضطر إلى محادثتي ، وأنا لا أريد قطع سلسلة صمتك ... ابقَ كما أنت في صومعتكَ ، ولا تلق بالاً لما يحدث في الخارج ، في أقرب نقطة إليك ، وفي أبعد نقطة عنك ..
وحيدٌ أنتَ ، ومنعزلٌ في غرفتك ... إذاً ، أغلق هاتفك ولاتستقبل أية رسالة من أية جهة كانت ، فربما تشرد قليلاً عما أنت فيه ، ولا ... لن أكلمكَ ، ولن أرسل حروفي إليك ... فقد تضطر إلى أن ترسل حنينكَ وأشواقكَ ومتاعبكَ وأوراقكَ وأفكاركَ كلها ، وأنا غير مستعدة بعد دهر من الفراق أن تنهال عليّ جميعها فأحار عن أيها أجيب !

وحيدٌ أنت ، وأفكارك تتعبك ، ولا تعرف كيف تبدأ بصياغتها ... إذاً ، إن رن جرس هاتفك ، فلاترفع السماعة ، فقد أكون أنا ، وقد تضطر إلى أن تترك قلمكَ لتكلمني ، وأنا لا أريد أن أبعثر حروفكَ ، فيمضي زمنُك في البحث عنها .
وحيدٌ أنتَ ، وأنا لا أريد أن أقتحم عزلتك ، فما من داع لأعبر عن اشتياقي وعن لهفتي وعن جنون أحاسيسي تجاهك ، لا ... لن أجعلكَ متعباً من خفقات قلبي إليك ، يكفي أن تكونَ أنتَ أكثر راحة من أشواقي !! .

دع عنكَ لومي ، ولا ترد على أسئلتي ، وإن غضبتُ وعلت نبرةُ صوتي ، فلا تنفعلْ ، ولا تهز خلية من خلاياك ، فقد تتوه أفكاركَ وتأخذ لنفسها مجرى آخر ، وقد تغضب منكَ فتخرج من باب غرفتك لتصفعه وراءها وتذهب إلى غير مارسمتَه لها ، وحينها لن تعرف كيف ستعيدها إليك ، ولن تفلح في أن تجلب بعضاً منها ، بعد أن جعلتَها تغضب منك حين فارقتَها بخيالك ، وستضطر إلى أن تمزق الأوراق لتعيد الكتابة مرة أخرى .
منعزلٌ أنتَ ، تكتب وتكتب ، ولاتفتح بابك لأحد ، ممن تركوا عليه لصيقات ورق ليعلموكَ أنهم أتوا إليك ... ، لأصدقائكَ الذين ظنوا أنك ميت ...
متعبٌ أنتَ ، إذاً ، إن داهمك الوقت ووجدت عقارب ساعتك تشير إلى الثالثة صباحاً ، ووددت أن ترتاح قليلاً قبل أن تذهب إلى النوم ، فلاتفتح جهاز الكمبيوتر لترد على رسائلي الملقاة في بريدك ، لأنك ستكون متعب الفكر ، منهار القوى ، ولن تفهم كلمة واحدة مما كتبتُ إليك ، ستجدني أبالغ في القول وفي الخيال ، وإن وجدتني أسألك : ما الحب ؟ فلاترد ... لأنك ستجيب بدقة متناهية ، وستضطر إلى أن تشرح تفاصيله بعناية كأنك ممسك بزمام أموره ، وأنا لا أريد أن أحيل فكرك إلى أمر قد يشرد بك عما أنت فيه ، إلى أمر لن تبلغه إن بقيتَ منعزلاً عن حنيني وأشواقي ... دع فكركَ يجول فقط على الورق !! ) .
فكر في حروف الرسالة مليا ً، وأدرك أنها مرآة تعكس صورة حياته ، بل تعكس صورة أفعاله وأفكاره ، والتفاصيل الدقيقة التي يعيشها .
جلس وقرأ السطور مرة ثانية وثالثة ، وأيقن أنه على شفير ما احتوته من حروف ... بدأ الخجل يتسرب إلى أجزاء جسده ، وشعر بحرارة مشوبة باحمرار تعلو وجنتيه ، واسترجع في ذهنه الذكريات التي مضت ، والكلام الذي دار بينه وبينها ، ولحظات الحب التي استرقاها في غفلة من الزمان .

وضع الرسالة جانباً ، وبكى في تلك الليلة بعد أن رأى قبحه المتغلغل في مسامات الرسالة .

الرواية التي يُعمل فيها فكره لكتابة فصولها ، تجعله قسراً بعيداً عن العالم ، عن عالمه ، عن أصدقائه ، عن أهله وجيرانه ..
يبتغي ذاك الرجل نشر رواية يتحدث عنها كل القراء وكل النقاد ، يبتغي أن تكون حديث الساحة الأدبية ، إذ لايريد لها أن تحتوي ثغرات تثير النقاد فتجعلهم يتناولون أخطاءه ومطباته ... يريدها رواية مكتملة البناء ، مترابطة الأجزاء ، وإن استغرقت كتابتها مئة عام من العزلة .

أمسكَ بورقة بيضاء واستل قلمه وكتب ....
( لماذا ترسلين لي المرآة لأرى قبحي ... لماذا ترسلين رصاصة الرحمة لتريحيني وترتاحي ... أنا على شفير ماقلتِ ... خجل مني ومنكِ ... وأبكي بعد أن ظننتُ وظن الكلُ وأنتِ .. أنني حجر ... ياليتني حجر ... سأكون معكِ ... فلاتنسيني كما فعل الآخرون ... لأنكِ الأقرب وإن بعد المكان ... ولاتهمليني كرواية مللتِ من قراءتها ... فأنا تعبتُ من أن أُقرأ ليُلقى بي بعيداً لما وراء الزمان ... هل تستطيعين الاحتفاظ بي لتدليني عليّ ؟!! ) .
وضع نقطة النهاية في آخر السطر ، وطوى الصفحة ليرسلها في الغد ، عساها تقرأ جيداً محتواها فتدرك أنها الأقرب إليه وإن بعد المكان .
* * *
بعد أيام وصله الجواب مع ساعي البريد ، إلا أن هذا الأخير لم يجد على محياه مايشي بفرح أو حزن أو طول انتظار ، على نقيض مايستشفه على محيا كل العشاق الذين يلتقيهم ليسلمهم رسائلهم .
أعطاه ساعي البريد الرسالة مستنكراً الجمود الذي استشفه على وجهه .

وفتح الرجل المغلّف ليقرأ ... فوجد سطوراً فاق عددها سطور رسالته التي أرسلها إليها ... قرأ :
(كل شيء أصبح مهجوراً إلا من قلب يرتعد وليل داج وفضاء يحتمل التأويل ، لمن هذه المسافات تتوالى ولا أكاد أرى ظلالك إلا وتعصف بها الأنواء ، أهذا هو السحاب الذي توسدتُه يوماً لأفكر على حافته ببعض الجنون ؟!
لم أنس شيئاً ، حتى النسائم التي أمسكتني لتبكي على هفهفة الورد جلبتُ قليلاً منها ، ولم أنم ، كنت أسهر كي أسرق فسحة من خيال أغوص في أعماقها ، لكن السماء كانت متعبة والمكان كان خالياً .

لاشيء تبقى على تلك النافذة التي أطلت على العالم سوى عينين اغرورقت فيهما المساءات ، وظلال أمست بلون السماء .
كم أقوال كشفنا بها وجه العالم ، وكم خيالات ابتعدنا بها عن صمت المكان ، وكم أفراح دخلنا في دهاليزها لنرشها بعطر الورد ؟!
مذ كان ذاك اليوم الذي ودعتُ فيه عالماً يشبهني ، تاهت الألوان التي فرشناها ظلالاً وودع حنيننا أرصفةَ الدهشة ، فأعد الصمت وليمته لحناً لما يشِ بعذوبة تسري في الشرايين ، ألهذا كان الزمن حلماً ، وكان الحلم ذات يوم ناراً لاتزال تنهش في ليالي الوداع ؟!! .
أنتَ الرواية الوحيدة التي أقرؤها مراراً وتكراراً ... وكلما قرأتُها شعرت بالمتعة تزداد في نفسي ... فكيف أهملكَ وأنتَ من كنتُ أبحر في خلاياه ... ما زلت محتفظة بكَ إلى مدى لايخطر ببالكَ ... أنتَ الوحيد الذي كنتَ وشماً في ذاكرتي لاتمحوه السنون ... واعلم أنكَ مافارقتَ خيالي إلا لتعودَ إليه ... حلمتُ مراراً برؤيتكَ وما أزال أنتظرُ ذاك الحلم الذي لايزال معششاً في ذاتي .. وبقي حلماً ... واعلمْ أيضاً أنني لم أرسل إليك رسالتي الأولى ، لترى قبحاً ماوجدتُه قط في شخصيتك ... وما أردتُ أن تذرفَ دمعة واحدة من دموعك الغالية عليّ ... كل ماوددتُه أن اعلمك أنكَ برغم ابتعادك عني قسراً لكتابة روايتك ... لاتزال مشاعري نحوك كما هي .. لم تتغير البتة ... نعم .. أنا كما أنا ... هل كنت تظن أن الشتاء سيغيرني ، وأن المسافات ستقلع من الذاكرة تلك الأمكنة ، وأن عاماً جديداً من الفراق إذا ولج روحي سأنتفض كعصفور بلله المطر لألقي عن كاهلي شوقي وانتظاري .

لا ... لم أتغير ... ولن يغيرني صمتٌ يفتّت القلبَ ، لكن دعني أتكلم ... دعني أخبرك عن تنبؤات روحي ...
سـتأخذني الريحُ إليكَ ، وستفتح الكواكبُ لي طريقاً إلى مجرتكَ ...زلزالٌ سيهز أعماقكَ وستدهش من هزة تثير فيكَ أحاسيسكَ ، ولن تقف واجماً أمامي ، ستغرقك الروحُ بوابل عطرها ، ولن تستطيع فكَ الحصار أو سحبَ البساط من تحت المكان ... سترفعُ الرايةَ آنئذ وتعلن انهزام حنينك أمامي ...

المعجزة التي بقيت تحاصرني هي أن صبراً لايزال يغلّف نفسي ... صبراً لم أكن أتوقعه ، هل تدري ماسر تشبثه بي حين رفضتُ أن يسكنني .
ستأخذ الريح أجزائي ، ولن أبوح لها بما يعتمل في حروفي ، سأجعلها تختار لي المسار لأدركَ هل لامستْ الغيومَ التي تركتُ أوراقي مبعثرة فوقها ، فتستشفَ طريق الحياة التي خبرتُها ، وهل أدركتْ أني حين حاصرني المكانُ وددتُ أن ألقي بنفسي لأنزع عني الحنين .

خفيفاً من كل حلم ، مرتحلاً من كل كلام يجعلك أسير الذكريات ، تحمل أوراقكَ وتمضي متأبطاً بقايا الحروف ، وتنهض حين يكتمل الشتاء لتغادر الوقت إلى وقت آخر ، موقناً أنني مازلتُ أنا أنا ... لم يغيرني شيء ، ولا البرد جمّد حنيني ، ولا الرياح اقتلعت جذور اشتياقي ... في أي زمن ستغادرني هذه الدهشةُ التي أعيشها مابين صبري وصمتي ..

لقد توقفتُ ملياً عند جملكَ التي أرسلتَها ... ولمستُ إصراراً منكَ على بقائي معكَ ... مازلتَ أنتَ معي دائماً ... ولم ولن أنساكَ أبداً ...
لكنني أود اختتام رسالتي هذه بعد أن أضناني الفراق والهجر بأن أقول لكَ : حبنا سيحيا خالداً وإلى الأبد ... ولتكملْ أنتَ روايتكَ إلى أن تنهي فصولها جميعها ... متمنية لكَ نجاحاً أدبياً يعز نظيره ) .

وضع الرسالة جانباً وهو يبتسم غير مدركٍ أن تلك الرسالة كانت تحمل له بقايا روح تلفظ أنفاسها الأخيرة .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى