الخميس ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم بيانكا ماضية

فكرة ضائعة

أسبوعان مرا، وهو يحاول القبض على طيف فكرة كان يحوم في رأسه ليل نهار، لكنه لم يكن بإمكانه أن يرسم تفاصيل ذاك الطيف ... كان يراه ضبابياً غير واضح المعالم والملامح ... وكان يسمع طنينه في إحدى أذنيه، كأنه صوت قادم من اللانهاية عبر غياهب مجهولة ... أو خيال آت له شكل أمنية أو أمل استعصى على الواقع ... إلا أن شعوراً داخلياً كان يسامره ويطمئنه على أنه سيقبض ذات يوم على ذلك الطيف الذي أتعبه ... وسيجعله رهين قلمه ليستثمره في كتابة أحداث قصة أو رواية.

أسبوعان مرا وهو يصيخ السمع لكل ما يقال حوله، ويعرض أمامه على شاشات التلفزة، فربما يمر من أمام خياله طيف تلك الفكرة فيقبض عليه متلبساً بالحياة، أو بالموت، إلا أن كل ماسمعه ورآه جعله منغص العيش، إذ لم تحوِ كل الصور التي رآها وتخيلها بصيصاً من تلك الفكرة ...

بدأ يقرأ في مجموعات القصص القصيرة والروايات التي أهداها له أصدقاؤه الكتّاب، باحثاً في العناوين ... بين السطور ... بين الشخصيات ... عن طيف يأخذه إلى حلمه المتوتر ... إلا أن أشياء من تلك المجموعات كانت تنكأ جرحه وترحل راكبة خيوط العتمة، ملوحة بالوداع، فيخال أنه ينبش في قبور أحياء ملوا الموت بين هذه الصفحات.

ما إن ترك آخر مجموعة كانت بين يديه، حتى راح شيء ما في ظلام ذاكرته يلمع كالبرق ثم ينطفئ، كادت ذاكرته في تلك الليلة توشك على أن تمطر حروفاً من تلك الفكرة ، إلا أنها ظلت عصية على العصف .

فكر قليلاً ثم أقنع نفسه بأن عليه ترتيب الأجواء من حوله، فراح يرسم لتفاصيل المكان سحره الخاص، هدوءه التام، رائحته التي تعبق من فنجان قهوة غاص في اسوداد اللحظة.

الظلمة تسرق النظر إليه من الخارج، والضوء الشاحب في زوايا غرفته يتملى خياله على الجدران، لم يكن وحده الذي يفكر، كانت جميع الأشياء من حوله تفكر معه .

جلس إلى طاولة مكتبه، وأمسك بيده القلم، وراح يركز فكره في هذا المكان الخفي من ذاكرته، عسى أن يجد له طريقاً للتجسد أمامه .

كان الوقت يسير بثبات فلا يسمع منه سوى صوت دقات الساعة، وهو يحاول إمساك أي خيط من جزء بعيد، أبعد من الخيال، إلا أن الساعة لم تحن بعد ...

بدأ يشعر بالغضب، بالتوتر، بالانفعال، إنها على طرف خياله، فكرة قابعة منذ زمن بعيد، لكنها لم تجرؤ على أن تطل برأسها إلى هذا العالم الماثل أمامه على الورق ... فلن تأتي إليه كامرأة من شمع تسير نحو موعدها الأخير ... لن تأتيه حائرة مابين أمرين ... مابين أن تحيا في خياله أبداً، وبين أن يسفح دمها على البياض... لن تمشي إليه ببطء كأحلام العاشقين، أو تركض إليه آتية من غابات الخيال ممزِّقة الدروب لتصل إلى كوخ الحقيقة ... لن تكون أشلاء مبعثرة مرمية على طرقات خياله... بل لن تكون على حافة هوة عميقة .

ستأتيه ساهرة الليل في عينيه ... مالئة بالأحلام فضاءه، ستأتيه مغرية ذاك الشاعر في أعماقه، مكتشفة قدرة غوصه العميق في جسدها، وراحلة مع انبثاق الفجر مصبوغة بأمل جديد ...

كان التيه قد حام من حوله وكانت عملية البحث المضنية قد جعلته معلقاً مابين الأرض والسماء، كاتب يبحث عن وميض في الخيال، يجدف في محيط عميق القاع، يعاقر لاشيء في لحظة تفكير ....

بعد قليل ... سيسمع عن أوطان تركتها الأقلام تئن في ليلها الداجي .... عن فكرة مجنونة من نشرة أخبار تعطلت فيها لغة الكلام ... عن خيبة وانكسار ... عن فكرة جابت البحار والصحارى، باحثة عن كاتب يبحث في مكان خفي من ذاكرته، عن فكرة ضائعة تكتب ملحمة الموت والحياة ... وسيحطم الكاتب قلمه باحثاً عن فكرة عمل آخر بعيد عن الأفكار والتصورات والخيال .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى