الثلاثاء ٢٤ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
القصة القصيرة
بقلم منى العبدلي

فن السرد الأصعب في يومها العالمي

القصة القصيرة فن حوى كل صفات الفنون السردية الأخرى...

أخذت من القصيدة شعريتها وموسيقاها وتكثيفها وقوتها وأخذت من الرواية الحدث والشخصيات ومن المسرح الحوار والصراع السريع الخاطف. وتعتبر فن اللحظات المفصلية في الحياة فلا تتناول الحدث من خلال مساحته الواسعة وزمانه المطلق بل تختطف اللحظة كومضة أو كسهم ينطلق سريعا إلى هدفه وبكل قوة.

هي فن الكتابة الاكثر صعوبة ودقة من بين كل الفنون وإن تنبأ لها الكثيرون أنها لم تعرف لها مستقبلا بعد سيطرة فن الرواية وافتتان الكثيرين بها وازدياد الاقبال عليها.

بالرغم من كثرة التعريفات والتسميات التي يطلقها الأدباء والمثقفين على هذا الفن شديد المراوغة والجمال إلا أنه لايمكن أطلاق مسمى واضح أو تعريف محدد له , فالقص في اللغة العربية هو تتبع الأثر والقصة القصيرة هي على وجه الدقة الاعتناء بتتبع أثر كل لحظة إنسانية شديدة التعقيد والحميمية مستخلصة من أعماق الروح البشرية متفاعلة مع كل ما يحيط بها وهي بالتالي وجة نظر ذاتية تتخذ موقفها من الحياة.

تعّرف القصة القصيرة أنها لحطة القبض على الحدث وتخليد لشخوص صنعتهم فكرة عابرة ومنحوا الخلود والقدرة على تحدي الفناء والموت ,و استطاعت القصة القصيرة أن تحجز لها مكانا وسطا بين الرواية والقصة القصيرة جدا واستدرجت لها كل محب لفن السرد واستهوت الأفئدة والقلوب حتى اولئك الذين لا يملكون موهبة الكتابة وفنونها فتنوا بها وظن كل ممسك بالقلم بأنه قادر على ترويض هذا الفن العسير وأنه قصصي بارع حتى وإن لم يمتلك الادوات الفنية التي تؤهله لدخول هذا الباب دون عقبات

في من 14 شباط فبراير من كل عام تتوج القصة القصيرة ملكة على كل الفنون لينثر لها كل عاشق ورود جمعها ورسائل كتبها وحكايات قطفها من وجوه العابرين في حياته ومن محطات توقف بها لبرهة وكان من الممتع حقا الوقوف هنا والاطلاع على أوراق وشهادات كتبها اولئك المبدعين أو حتى الهواة وعن اسرار عشقهم لهذا الفن العصي وقد كان أن منحني اولئك الشرف بأن يكتبو هنا احاديثهم للقصة ورحلاتهم معها ومحطات وقفوا بها إما منتظرين او شاهدين على حدث مر عليهم ليرصدوه في دفاتر مذكراتهم ثم يطلقوه سهما نافذا ولمحة كثيفة اللغة عميقة المعنى نقرأها بمتعة لدقائق تعمر في ذاكرتنا طويلا...

أراد أن يكون حديثه شهادة تؤكد على أن القص الجميل متعة وتطهير للكاتب من آثام كثيرة..

قاص وروائي كتب القصة القصيرة والحكاية الشعبية وبرع فيهما..

الأستاذ والأديب:سمير الفيل في شهادته:

القص الجميل يمتع الناس، ويطهرالكاتب من آثام كثيرة

ليس بمقدوري أن أقدم توصيفا دقيقا وشاملا للقصة القصيرة، ولا أن أدخلكم جميعا معملي الفني فأكشف بذلك عن أسرار تخصني وحدي حيث أعتبر اللعب الفني عنصرا أساسيا في نصوصي، فقد اكتشفت أن الحياة بجهامتها وعبوسها وتقطيبها يمكننا كبشر تعساء أن نقاومها باللهو والشغب والتمرد.

سأحكي عن تجربتي مع القصة القصيرة فأقول أنني بدأت شاعرا شعبيا حين قدمني الأبنودي في جرن قمح بقرية اسمها كفر البطيخ لألقي أول قصيدتي، واستمر مشواري الشعري فترة لا بأس بها منذ سنة 1969 وحتى سنة 1974 حين كتبت قصتي الأولى " في البدء كانت طيبة " وكانت تعتمد على تضفير البرديات الفرعونية من كتاب العلامة سليم حسن " مصر القديمة " مع حدث الحرب،وحصلت القصة على المركز الأول في مسابقة نظمتها مجلة " صباح الخير" ثم تلتها قصة ثانية هي " كيف يحارب الجندي بلا خوذة؟ " وحصدت نفس المركز مع صرة نقود مكنتنني من شراء جاكت أحمر ورابطة عنق مطبوع عليها فتىزنجي يصعد شجرة جوز الهند، وقميص وردي بياقة عريضة، ومجموعة كتب لمكسيم جوركي وتشيخوف.

الكل من حولي رأى أنني أخطات طريقي بالذهاب إلى القصة فلها أعلامها ونسقها، لكنني كنت أتعمد أن أصدم ذائقتهم وتصنيفاتهم الجامدة المستقرة بالدخول لرحاب القصة القصيرة والتجوال عبر فراديسها واللعب في مساحاتها المشغولة بالجمال. مع قصتي الثالثة " الخوذة والعصا" بكيت بدموع حقيقية مع دفن المحارب في بطن التبة، وهو مالم يحدث في الشعر ووجدتني متوحدا ببطلي الذي يهبط في حفرة.

ولما كان أبي الأسطى مصطفى الفيل قد مات شابا، وأنا أخطو في عامي الثاني فقد وجدت في كتابة النص القصصي نوعا من دحض الفناء ومقاومة الهلاك الأبدي. هكذا وجدتني أكتب سلسلة نصوص قصصية تعبر عن نفس الفكرة، ولما أحببت " سعادا"، وكانت جارة لنا تذاكر في السطح وتشرح لي عبر الألواح الخشبية المتراصة بين السطحين مادة الجبر وأشرح لها بدوري مادة الجغرافيا وجدتني أكتب قصة قصيرة تقول لها بوضوح أنني أحب البحر وزهور التمرحنة وعينيها. السرد أنقذني من غواية الشعر حيث يبدو صخب الإيقاع وقوة المخيلة. في السرد مادة واقعية لا تندحر وهو ما وجدته يبرق في عيني سعاد.

في السرد وبالتحديد في القصة القصيرة آلاف الاحتمالات لتحكي وتقص ما يعن لك، يمكنك أن تحذف وتضيف، تقدم وتؤخر، تسهب و تختصر، وفي كل الأحوال هناك زمان ومكان وشخصيات تتحرك.
أمكنني في فترة البدايات أن أفتش عن أشكال جديدة أخرج بها عن النمط فكتبت " الساتر" وأرسلتها لإبراهيم عبدالمجيد كي تنشر في " الثقافة الجديدة"، فحملها بنفسه بعد أن أعجب بها وأعطاها الدكتور عبدالقادر القط لتنشر في العدد الثاني من " إبداع".
كنت فخورا أن تأتي قصتي تالية لقصة ليوسف أدريس وذلك في فبراير، 1983وكان أدريس يعني لي الفارس الأول للقصة القصيرة ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي حسب تصوري ولما قابلته مرة في معرض الكتاب قدمت له مجموعة قصصية مشتركة لأدباء شباب من مدينتي ـ كنت واحدا منهم ـ فطوى المجلة بعناية ووضعها في جيب جاكتته. إذن أصبحت منتميا لكتيبة القصة القصيرة. لكن حدث بعد ذلك أن كنت اقرأ كتابا في مكتبة قصر ثقافة دمياط، ولما حان موعد الانصراف وجدت رجلا يشبه في طلته يحيى حقي يجلس في مكتب مدير القصر فاقتربت منه مع صديقي القاص محسن يونس وفوجئنا أنه صاحب " قنديل أم هاشم".

30 دقيقة قضيناها مع يحيى حقي، ونحن نوصله لمحطة سيارات رأس البر. في مشيتنا معه. سألته: " قول يا أستاذنا. ما الفرق الدقيق بين كتابة القصة القصيرة وبين كتابة الرواية؟".

كان يسير بيننا وشعره الأبيض يبدو كعلامة على الإجلال والخشوع. تسمرت قدماه للحظة. أمسك بذراعي، وكأنه يتلو من كتاب مقدس:

" شوف يا بني. أنت أمام باب كبير مغلق. هيا بنا نفتحه. إننا نطل على الشارع والميدان والحارات. الناس تتحرك أمامنا بخطوات مسرعة أو متمهلة. يمكنك أن تحكي كل شيء تراه. حتى لو كان تاريخ هذه المجموعة من البشر كيفما تريد. يمكنك أن تنزل نهرالشارع. ويمكنك أن تستقل قطارا ليعود بك للماضي، أو يتقدم بك للمستقبل. لكن إياك أن تقول ما هو زائد عن الحد. وعليك أن تعاود إغلاق الباب بعد أن تنهي عملك!"

ـ " طيب يا أستاذنا. وماذا عن القصة القصيرة "؟

ضحك ضحكته المفعمة بالرقة، وهمس بصوت خفيض:

" إذن تعال. أنظر من ثقب المفتاح. ستقع عينك على دائرة. دائرة محدودة تكشف عن منظر بعينه لا امتداد له. هذه هي فكرة القصة القصيرة. لا يمكنك أن تفتح الباب كله، كما لا يمكنك أن ترى إلا ما هو عياني، يمكنك أن تتخيل ما وراء المشهد بحساب ".

كان هذا هو الدرس البسيط والعميق الذي درسته على يد كاتب جليل، له فضل كبير على جيل كامل من الكتاب، وسأعود لتجربتي لأقول أن مجموعة النصوص التالية التي ظللت أنشرها عبر طابع البريد في" إبداع" قد فتحت أمامي المجال لأسجل اسمي كسارد في بداية مشواره الأدبي، واحتفظ بالعرفان للدكتور القط الذي نشر لي إحدى عشرة قصة قبل أن ألتقيه لأول مرة في مطار القاهرة الجوي منتظرين ركوب الطائرة للمشاركة في مؤتمر دولي عن العقاد بأسوان سنة 1990. امسك الدكتور القط بيدي وعرفني على صديقه الدكتور محمد مصطفى الشكعة: " هذا كاتب جميل من كتاب إبداع ".
وأدركت أن الرجل يقدم لي تحية رائعة عن نصوص نشرتها في مجلته، كانت محل شك وقلقلة داخلي، ولكنني تعلمت من هؤلاء الكبار فضيلة التواضع.

في بداية تعرفي على شبكة الأنترنت نشرت 21 قصة هي مجموع نصوص " شمال.. يمين" وفوجئت بتجاوب رائع من المتلقين، وحدث أن صنف بعض النقاد النصوص كرواية إلا أن فكرة الباب وثقب المفتاح ظلا دليل عمل وبرهان صدق فانحزت لتصنيفها كنصوص قصصية.

ماتت ابنة خالتي وبعد عودتي من الجنازة أمسكت القلم وكتبت " مشيرة " وكانت بداية مختلفة إذ أنني كتبت بكل عفوية وبدون أن اشطب حرفا واحدا. وتأكدت ثانية أن في الفن منطقة سحرية غامضة، ليست هي العقل فقط، ولا هي الوجدان بمفرده بل تخص العنصرين وأشياء أخرى عديدة.

بعد "مشيرة " عدت بالذاكرة لفترة عملي صبيا في محل أحذية فكتبت مجموعة " صندل أحمر"، ولامست فيها مناطق البراءة في الحياة. كيف لنا أن نفهم الدنيا، ونعيشها رغم أوجاعها. الولد فلفل بطل النصوص يعيد اكتشاف الأشياء ومنها ما هو علاقات محرمة ومنها ما هو فوق التوقع، بنوع من القدرية والإشراق والوعي.

الوعي عنصر مهم جدا في قيمة مايكتب القاص: وعيه السياسي، ومصداقيته الفنية، وإدراكه لمنظومة العلاقات الإنسانية.
القصة القصيرة وعبر تجربتي في كتابتها منذ سنة 1974 وحتى الآن ( فبراير 2009) هي فن نبيل يحتاج لكاتب من طراز فريد. كاتب يهتم بالحياة، وعليه أن يلم بتفصيلاتها ومنمنماتها الدقيقة لأنها هي ذاتها التي يرتكز عليها الحدث. كاتب يمكنه أن يرصدها في عنفوانها، ولديه ما يقوله، وفي القلب من ذلك موقفه المبدئي من العالم والحياة والكون والرب وذاته. قلت مرة أن القصة القصيرة فيها تركيز وتكثيف، وفيها مساحة للحدس، ومنطقة للمناورات حيث التقدم المحسوب والتقهقر المنظم حالة احساس الكاتب بأهمية ذلك.

وأضيف هنا أن فن القصة القصيرة يعتمد على صدق الحكي، وقوة العاطفة، وامتلاك القاص للغة حية، منسابة، حاملة لنسغ الحياة، لا معاظلة فيها. كما أن لدى الكاتب فضاءات لا محدودة للتجريب بحيث لا يكون في كتابته شطط أونزق أو افتعال.

اعتبر نفسي كاتبا كلاسيكيا بنفس سردي تجديدي، وما يهمني شخصيا هو أن أظل محافظا على عمود الحكي، وعلى منطلقات شعبية مرقشة وجدتها في " ألف ليلة " وفي فن " المقامة " وعبر " الموال " وبنسب أعلى في الحياة الشعبية التي انتمي لعالمها سكنا ومعيشة، وهذا بالطبع لا يمنعني من حب فوكنر وكامي وسارتر، نيقوس كازنتزاكي وهيمنجواي وديستوفيسكي، نجيب محفوظ ومالك حداد وعبدالعزيز مشري، الطيب صالح وبهاء طاهر وابراهيم أصلان، هدى بركات وإبراهيم الكوني وعبدالرحمن منيف.

لا يبدأ الكاتب من فراغ، ولا من نقطة الصفر، لكن عليه أن يستوعب التجارب السابقة ثم يجترح لنفسه أفقا جديدا.في التكرار مقتل النص وفشل الكاتب. وأضيف ثمة كتابة لها حرارة التجربة ودفء الإنسانية، وفي المقابل هناك كتابات تولد ميتة، ولا أعرف السر حتى اللحظة في ذلك؟!

كتبت عني الدكتورة وجدان الصائغ وهي أكاديمية عراقية أفضل دراسة عن رواية " ظل الحجرة "، وكتبت عني الناقدة السورية شهلا العجيلي منذ أيام حول مجموعتي " صندل احمر" فلامست قلب التجربة بمقدرة وعمق حقيقيين، وكتب الدكتور صلاح السروي والدكتور محمد عبدالحليم غنيم وابراهيم جاد الله عن" شمال.. يمين" كما كتب الدكتور شريف الجيار وسيد الوكيل واحمد أبوالعلا عن " مكابدات الطفولة والصبا". في كل دراسة كنت أجد الناقد يطرق منطقة مختلفة لم تخطر لي على بال. سألت نفسي عن دلالة ذلك فكان الجواب الذي توصلت إليه أن فن القصة القصيرة يملك من الثراء والتعدد والتنوع ما يدعم نظرية الاحتمالات في الفن, فلا توجد رؤية وحيدة بل رؤى متقاطعة ومتداخلة شأن الحياة ذاتها.
أريد في هذه الشهادة التي أكتبها خصيصا بمناسبة يوم القصة القصيرة أن أبسط تجربتي الأخيرة في نصوص قصيرة جدا كتبتها على هيئة مروحة سردية، ونشرت في أغلب الصحف العربية والمصرية ومنها نصوص " حكايات السرير"، " مخابيء"، "رأس البر"، " هواء بحري"، "قبلات مميتة "،" غائبون "، " مناخوليا". إنني أبحث عبر هذه النصوص عن إمكانية تعدد زوايا الرؤية للعنصر الواحد فالمكان هنا يصبح البطل مرة، و" الشخصية" الثرية بتحولاتها هي المرتكز مرة ثانية. " المخابيء " مثلا يمكن أن تصبح لها اليد الطولى ثم أتمعن فيما يحيط بالحياة من " ارتباكات " فأضمنها حكيي.أقصد أنني أحاول البحث عن التعدد في " اللقطة " الواحدة كأننا إزاء مرايا متواجهة تقدم عددا لا نهائي للفعل الإنساني، وعلى كاتب القصة القصيرة أن يتخير اللقطات التي تفيد اختياراته التقنية وتشريحه الجمالي.

أعتبر القصة القصيرة حالة من المتعة لا نظير لها ورغم مروري بكل حالات الكتابة وأجناسها الأدبية من شعر ورواية ومسرح ونقد فما زال للقصة القصيرة عندي مكانة خاصة. ذلك أنها فن جميل وصعب وممتع في آن. فن يشتغل على الإنساني ويدخل الذات فيهزها هزا ويحكي عن المكابدات التي نمر بها فلا تغادر ذاكرتنا أبدا.

لما انتهيت من كتابة قصة " نرجس" خرجت إلى الصالة أنتحب، وكان البيت خاليا من إلا مني، رحت أنهنه بصوت مسموع، وكأن السرد كشف ضعفي لكنه في نفس الوقت طهرني من آثامي الكثيرة وأعاد الكبرياء لروحي المثقلة بعذابات لا حد لها!

القصة القصيرة حكاية اللمحة العابرة. هكذا عرفها القاص والأديب عبد الواحد اليحيائي في حديثه عنها ولها حيث قال:

يوم للقصة القصيرة؟!

لعل الموسيقى أسبق الفنون إلى حس الإنسان الأول، هي ولع بالجمال الحاصل من تناسق الأصوات، ولعل القصة القصيرة في شكلها البدائي جاءت ثانية في حس الإنسان لولع آخر مشمول به هذا الإنسان هو رغبته في حكاية ما كان، ثم تطور الأمر لحكاية ما سيكون، ثم تطور في مرحلة لاحقة لحكاية ما لو كان فكيف سيكون. وللوصول إلى هذه الحكاية كان لا بد للإنسان من أداة توصل الحكاية إلى غرضها، وتنوع الغرض مع رقي الإنسان: بدء بالترفيه، ثم انشغل بالمغزى من وراء الحكاية، ثم جاء طور ثالث شغل الإنسان فيه نفسه بتحميل الآخر المستمع مسؤولية ما يتفاعل معها قوة وضعفا وتأثرا وتأثيرا، وهي بلا شك أطوار لا تتعاقب بل تتنوع وتتقاطع.

نعرّف القصة القصيرة بأنها حكاية اللمحة العابرة، لكن بعض القصص القصيرة قد تشمل زماناً ممتداً يتجاوز اللمحة إلى لمحات كثيرة، وقد نعرّفها بقصة الشخصية الواحدة أو الحدث الواحد أو المكان الواحد أو الزمان الواحد، لكن قد تقع القصة القصيرة مع شخصيات وتتقاطع فيها أزمنة ويبحر فيها الإنسان أو الناس بين أمكنة مختلفة. ليبقى أخيراً التعريف الأكثر التصاقا بالواقع: القصة القصيرة هي حكاية الكلمات الأقل، وحكاية الأوراق القليلة وإن عاب بعض النقاد هذا التعريف المجحف، لكنه بلا شك فارق واضح بين القصة القصيرة جدا، والقصة القصيرة، والأقصوصة، والقصة الطويلة، والرواية، والملحمة.

في يوم القصة القصيرة ما الذي يمكننا أن نقدمه لمن حولنا؟

لنعرفهم أكثر بالقصة القصيرة في شكلها ومضمونها وأهدافها والفارق بينها وبين غيرها من الفنون، خصوصا أولئك الذين يخلطون بينها وبين الخاطرة، أو بينها وبين الخبر، أو بينها وبين التقرير كما تقدمه الصحافة وغيرها من وسائل الإعلام. وأيضا أحب أن نعلم أنفسنا أدوات القصة القصيرة: اللغة الصحيحة، والجملة الموجزة الدالة، والفكرة النابضة بالحياة مع اختزال الزمن والشخوص والكلمات أو لنكن أكثر شاعرية فنقول اختصار الزمن في كلمات، واختصار الحدث الكبير في لمحة أو لمحات، واختصار الإنسان في ورقات قلائل: الإنسان أنموذجا، والشعور باعثا، والإيحاء بعد ذلك محركا إلى الأجمل والأكمل في هدأة ضمير أو في واقع حياة.، وأيضا أحب أن نحتفي بروادها: انطوان تشيكوف، أو هنري، يوسف ادريس، صالح الأشقر، فهد المصبح وكثيرون غيرهم يحسب لهم وللفن الذي قدموه.

نشغل أنفسنا بقصة قصيرة بحثا عن جمالها، أو مغزاها، أو الهم الذي تحملنا إياه، أو ما تمثله للإنسان فينا. ونشغل أنفسنا بكاتبها حسب قدرته على التأثير فينا دون أن ننسى أنها قدرة لا تستمد طاقتها من موهبته وثقافته بل من طاقتنا وثقافتنا كقراء ايضا.

حين سألته أن يكتب للقصة في يومها قال مبتسما: هي صديقة الأنسان حتى وإن كان وحيدا!! القاص صلاح القرشي صدرت له مجموعة قصصية بعنوان (ثرثرة فوق الليل)

ثرثرة حول القصة القصيرة.

كلنا خرجنا من معطف غوغول

العبارة الشهيرة لديستوفسكي..

لكنني عرفت تشيخوف قبل أن أعرف غوغول ومعطفه الشهير
عرفت تشيخوف في مرحلة مبكرة وأصابني بالكثير من الدهشة

هكذا قدم الروس الرواية والقصة القصيرة كما لم يقدمها أحد سواهم ولعل كثيرا ممن عشقوا هذين الفنين يدينون للأدب الروسي العظيم بالفضل الكبير.

وإذا كانت الرواية هي ابنة المدن والمجتمعات الكبيرة فالقصة القصيرة هي صديقة الإنسان حتى ولو كان وحيدا لا يصاحب سوى النجوم وبعض الأغنام التي يرعاها أو يحرسها في منطقة مهجورة..والإشارة هنا إلى قصة "صوت الليل" التي كتبتها هي الأخرى في مرحلة مبكرة من حياتي ثم أعدت تنقيحها لأنشرها في جسد الثقافة وفي مجموعتي القصصية ثرثرة فوق الليل..

قلت أن الرواية هي ابنة المدن لأنها تتناول المجتمعات وتحولاتها فيما تبقى القصة القصيرة تتلمس الفرد الإنسان الذي يجمع الروبل على الروبل ليحصل على معطف جديد في الشتاء وعندما يحقق حلمه ويحصل على المعطف يفقده في أول يوم.
عربيا كان نجيب محفوظ هو باب ولوجي إلى القصة القصيرة العربية ولا زلت أتذكر بكثير من الحب والحنين مجموعة "همس الجنون" وهي من أوائل المجموعات القصصية التي نشرها محفوظ..

عرفته إذا قبل أن أتعرف على يوسف إدريس وعلى زكريا تامر..وهم من أوائل من قرأت لهم قصصا قصيرة جميلة ومهمة.

ومحفوظ بالمناسبة هو كاتب قصة قصيرة خطير جدا..وإن كان يمكن تصنيف بعض قصصه القصيرة بأنها روايات صغيرة أكثر من كونها قصص..ومسألة التصنيف هذه لا تشكل أهمية كبرى لمن يبحث عن الجمال والمتعة.

أما محليا فقد كانت الصحف والملاحق الثقافية وسيلة مهمة لقراءة الكثير مما كان يقدمه كتابنا وكاتباتنا.. عبده خال مثلا لا زالت اتذكر تفاصيل بعض قصصه التي قرأتها في تلك المرحلة..لا زلت أتذكر تلك القصاصة التي اقتطعها من احد الصحف وبها قصة بعنوان (واصب قل وأمعني..) وهي قصة عن فتى جنوبي يهرب إلى جدة.. وبالمناسبة فعبده خال أعاد كتابة هذه القصة لتكون نواة لروايته "مدن تأكل العشب"..

ولأن الأمر لا يعدو أن يكون ثرثرة حول القصة القصيرة..فإنني أقول أن سر ّ تطور الفنون السردية عموما هو أنه لا يمكن تأطيرها بنظم وحدود وأسس وقوانين..هي فنون مراوغة لا تتوقف عن أن تأتي بالجديد والمختلف ولهذا فلا يمكن مطلقا الحديث عن قواعد خاصة بكتابة القصة القصيرة..لكن هنالك شيئا واحدا مهما في نظري المتواضع..وهو ما يفرق بين تمثال وبين إنسان حي..الحياة داخل النص أو داخل القصة..وإلا ستكون القصة مجرد قالب جامد لا ينبض ولا يتحرك.
ولهذا ربما يبقى أمثال تشيخوف وغوغول مثيرين ومهمين ومدهشين حتى الآن ذلك أن قصصهما تمتلئ بالحياة.
صلاح القرشي

لا بد أن تعاودك أشباح ذكرى , تشاركك صحوتك والرقاد عندما تستعيد أيامك مع القصة

حين يتحدث عبدالواحد الانصاري فهو يعيش ذاته القارئة المبددة، وذاته الكاتبة الأشد تبديدا بين هالات هؤلاء، وكأنما يعيش لقاء غير معقول كما يقول يجمعه برواد القصة القصيرة , الأنصاري صدرت له مجموعات قصصية من بينها (بكارة)

وكتب:

عندما تستعيد أيامك مع القصة فلا بد أن تعاودك أشباح ذكرى، تشاركك صحوتك والرقاد، أن تتذكر غوغول، وتشيخوف، موباسان، تشيخوف، كورتاثار، بورخيس، ماركيز، نجيب محفوظ، زكريا تامر، الطيب صالح، يوسف إدريس، إبراهيم الكوني، جون شتاينبيك، نايبول، هيمنغواي، كونديرا.

ولكنك لا بد أن تتوقف حتما مع غوغول وتشيخوف وبورخيس، غوغول في حكايات قرية ديكانكا وقصة الأنف والمعطف، وتيشخوف في مجموعاته الكاملة، وبورخيس في الألف وحديقة الطرق المتشعبة والبحث عن المعتصم والنمور الزرقاء وكتاب الرمل، وأسماء أخرى وأخرى.

لا يستطيع القارئ أن يتخلص من الذاكرة الموسيقية لهؤلاء الثلاثة وكأنما هم عازفون منفردون، كما لا يستطيع شخص مهتم برسوم النهضة أن يتخلص من أنجلو ودافنشي.

أعيش ذاتي القارئة المبددة، وذاتي الكاتبة الأشد تبديدا بين هالات هؤلاء، وكأنما أنا أعيش لقاء غير معقول، كذلك اللقاء الذي رصده كونديرا في الخلود بين هيمنغواي وغوتة، أو كذلك اللقاء الذي يعيشه بيسوا العائد من موته مع ريكاردوريس. ولا أكاد أقرأ أو أكتب نصا إلا وتعترض طريقي الهالات الراقصة لهذه الخيالات. كنت أظن أن اطلاعي على صورهم سوف يحرر مخيلتي، ولكنني دائما أتخيل نايبول وهو يتحدث عن عنزة المعلّم، وهاندكه يتحدث عن الفتاة التي انتحرت وحملتها الرياح بعيدا لتلتف بها الأسلاك الشائكة، وماركيز يتحدث عن العاشق الذي عثر على حبيبته ليجد أن عفتها موصودة بقفل محكم، ولتخبره بكل بساطة بأن المفتاح عند أبيها، وغوغول يتحدث عن رجل يجلس تحت شجرة، وتعطس الشجرة، فيقول لها: كان بإمكانك أن تتنحنحي على الأقل، وتشيخوف متحدثا عن الرجل الذي جاء وهو في أشد حالات السعادة حاملا معه الصحيفة التي تحمل خبر دهسه تحت عجلات عربة، ونجيب محفوظ وهو يتحدث عن الرجل الذي اختفى في برميل داخل مقهى وأخذ يستمع لما يجري فيه.

أطياف تتراقص أمامي وتحوزني لتعزلني عن عالمي الجاف، عالمي الذي يبتدئ بإدارة سلف السيارة وينتهي برسالة إنذار فصل الجوال، ومن هنا فإنني لا أستطيع إلا أن أتعلق بأحبال ذلك العالم لأطير فيها، باحثا عن سر الكائن الذي يتغذى على نفسه فيبتلعها كما هو عند يوسا، وعن سر كتاب الرمل الذي لا يمكن أن تعود للصفحة السابقة ولا اللاحقة منه فتجدها في مكانها، ولا يمكنك أن تصل إلى الصفحة الأولى ولا الأخيرة، ومع ذلك فهو كتاب بين دفتين تحمله بين يديك.

من هنا تنتابني الحيرة وأشاغب الطيب صالح بأن أضع للنور ذيل حصان فضفاض كالحرير، وبأن أجعل شريفة بغيا تعاودها البكارة أربعة أيام من منتصف كل شهر، ويبتلع حسين يده فجأة، لأكلفه بصناعتها قبل مشرق يوم غد.

هكذا أتعلق مع إكزوبري في طائرته التي افتقده العالم محلقا عليها، متجولا بين الكواكب الصغيرة جدا مع الأمير الصغير، منقبا عن البترول مع عبده خال في أرض المجاري الفسيحة، منتظما في طابور المياه الحديدية مع الصقعبي، ومرتعبا من حمامة زوسكيند المخيفة، وسائحا على أرض المقهى ذائبا مع رجل الثلج الذي صنعه البلغاري أنجل كاراليتشف.

لن أقلد ماركيز، ولن أردد مقولته في أن الهم الإبداعي هو ما يشغلني. إن ما يشغلني هو الحياة في عالم الإبداع القصصي والروائي. وما يشغلني حقا هو أنني لا أجد جوابا لسؤال غريب يقول: هل كان في إمكان العالم أن يكون مبهجا حقا، لولا بهجة القصة؟

برسالة طلبت منها ان تكتب لي حديثا عن القصة القصيرة فأجابتني: يحمل كل منا تاريخاً في داخله , يحمل بؤرة الإبداع، وليس عليه إلاّ أن يجعلها تتكاثف كعمل فني.

نينوفر القاصة والزميلة الجميلة وثّقت شهادتها بقولها:

الدهشة شرارة أولى للكتابة!

يحمل كل منا تاريخاً في داخله , يحمل بؤرة الإبداع، وليس عليه إلاّ أن يجعلها تتكاثف كعمل فني.

منذ ثلاثة عشر عاماً وثمة سؤال يحيك خيوط قلقه في روحي , لم أعثر له على إجابة حتى الأمس عندما كنت أفكر فيما سأكتبه بمناسبة اليوم العالمي للقصة القصيرة , ففكرت ببداية علاقتي مع هذا النوع من الكتابة الأدبية ( القصة القصيرة) ,وعدت لأيام دراستي في المرحلة التوسطة كأقصى ذكرى كنت أمارس فيها نسج حكاياتي علناً وأنا أقف على كرسي في مقدمة الفصل لأُشاغل مشاغبة التلميذات بالإنصات لخرافات أمي التي كانت تدفعنا بها للنوم , حتى انتهت تلك الحكايات المُعلبة , فوجدتني أقف على كرسيّي وأنسج حكاية من تأليفي فكانت أكثر جاذبية للتلميذات حد أن أكثرهن تغيباً وإهمالاً تخلت عن عاداتها وباتت تحضر يومياً ليس من أجل الدرس بل انتظاراً لحصة تكون معلمتها غائبة لأصعد على قمة كرسي حكاياتي. تلك الذكرى جعلتني أعود لما هو أقدم حيث ذلك السؤال الذي تناسيته لهدهدتي عقمه بإجابة غير مقنعة إلاّ لتجاوزه , كان ذلك السؤال لجملة غريبة كنت أتباهى بها عندما كنت في الثامنة من عمري , فلقد كنت أقول لأصدقائي:

"أنا لما كنت كبيرة كنت دكتورة! "..

بقيت زمناً طويلاً أبحث عن السبب في جعل المستقبل ماضياً , إذ كان من الأصح أن أقول " إذا كبرت سأكون دكتورة " وكانت إجابتي التي كممت بها قلق هذا السؤال " ربما كنت روحاً مستنسخة! " ورغم عدم إيماني بتناسخ الأرواح وأني أكثر أنانية من أن أكون خردة روحية: ولكن بالأمس فقط تكاثفت تفاصيل ذكرياتي وأدركت أخيراً أن اعوجاج جملتي تلك لم تكن نبوءة , بل كانت لأن لغتي آنذاك ضئيلة جداً لا تتسع لمفردة " مخيلة " وكان إدراكي آنذاك أقل من أن أُفرق بين أحلام اليقظة وتفاصيل الواقع.

ما كتبته أعلاه هو التاريخ الحقيقي لكل أنواع الإبداع , بما فيها القصة القصيرة , فالتاريخ يبدأ من "المخيلة".. نحن قد نشبه عجوزاً ضجرة من اتساع الفراغ , تجلس في شرفتها وحيدة وهي تمسك بسنارتيها وكرة صوف تشكل بعقده ثرثرات العابرين.. ابتساماتهم.. صوت أحذيتهم.. رائحة أنفاسهم.. وظلالهم التي تبدد وحدتها , تشكل تلك الظلال متمازجة بظلالٍ أخرى حتى تكون أكثر تكاثفاً حد التجسيد في غُرزة! القصة القصيرة هي صوفي الأبيض القادر على احتواء كل لون بحقيقته دون أن يتماهى معه فيدنس أحدهما الآخر. تكون عقدتي الأولى ( صورة أو لوحة , صوتاً أو رائحة , حلمٌ يطل في نومي , أو حلمٌ يشغل يقظتي , خربشة لملء فراغ ممل ) , مثلاً: في قصتي ( فراشة سئمت حشريتها فتأنسنت ) كان المحفز لها صورة تداعيات من حلم ذات يقظة لطفلٍ يجلس على عتبة بيت طيني ويتفاجأ بظله المنعكس على يساره. وفي قصتي ( آن ) كنت في قاعة المحاضرات في الجامعة وقد نسيت إحضار دفتري , فلم أجد ما أدون المحاضرة عليه وكانت الأستاذة تصر على أن يكتب الجميع فلم أجد بداً من الانحناء على طاولتي لأرسم سرباً من كائنات عشوائية مشوشة وجدتني أدفعها رسماً لحافة الطاولة علها تسّاقط. ولكن العقدة الثانية والثالثة والرابعة وحتى الأخيرة لن تكون بمجانية دهشة الأولى , فهي تبقى شهوراً عدة حتى تختمر في داخلي , العقدة الأولى غالباً لا إرادية , والإبداع في الكتابة يأتي عفويّ الخاطر أي نتيجة الانبثاق من اللاشعور , بل هي تجيء فارضة سطوة حضورها بداخلي لتكون كمغناطيس يجذب كل الأشياء لتتحد بجسده. الكتابة هي اجترار , فنحن نبحث ونطلع ونجمع المعلومات ونفكر ونحلل , ثم نخزنها في اللاشعور حتى تكون وحدتها الخاصة , ثم تُلفظ كتابةً في نسق واحد وفكرة واحدة!

القصة القصيرة فن حوى كل صفات الفنون السردية الأخرى...

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى