الاثنين ٣٠ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
بقلم زياد الجيوسي

"فيلم البيت المفقود".. لوفاء جميل

الفلسطيني الذي طرد من أرضه ووطنه لم يتملكه النسيان، هي ذاكرة المواطن في الشتات وفي المنافي والمخيمات، حافظ عليها وورثها لأبنائه كما ورثهم مفتاح الدار، الذي يحن لفتح الباب الذي افتقده، والفلسطيني يعلم أن بيته قد تهدم وقامت مكانه المستوطنات التي ضمت شذاذ الآفاق، الذين انسلوا من كل حدب وصوب فاستولوا على الأرض المقدسة واحتلوها، والبيوت التي لم تهدم وغالبيتها في المدن سكنها الغرباء...

لكن الذاكرة الفلسطينية لم ولن تنسى، وفيلم البيت المفقود نموذج إنساني يروي القصة، قصة الطفلة التي لم تعرف مدينتها عكا، هذه المدينة التي صمدت أمام حصار نابليون بونابرت، وحين عجز عنها قذف قبعته من فوق الأسوار، قائلا عبارته المشهورة "إن لم يدخل نابليون عكا، فقبعته قد دخلتها"، فعكا التي تميزت بأسوارها وبالبحر الذي تقف شامخة على شاطئه، وكأنها أسد غاب يحمي غابته، كان لها في الموروث الشعبي الشيء الكثير، فدخلت الذاكرة الفلسطينية عبر الأجيال، كما دخلت الأمثال الشعبية فما زال المثل الشعبي متداولا "لو خافت عكا من هدير البحر ما سكنته".

البيت المفقود يروي قصة بيت غادره الأب والأم، حاملين معهم الذكريات والمفتاح إلى مخيمات اللجوء في قطاع غزة، فحملت الابنة وفاء جميل العهد وحافظت عليه، فكان هذا الفيلم الذي يروي قصة وفاء جميل وهي تبحث عن بيتهم المفقود..

"يجب أن أجد البيت الذي في عكا، هكذا أوصاني أبي"، هكذا يبدأ الفيلم الذي أخرجته وفاء وهي تقف على مشارف عكا، إذن هي وصية الآباء للأبناء، والأبناء لأبنائهم، إنها قصة التشبث بالحق المغتصب مهما طال الزمان، انه الإيمان بالحق وعدالة القضية، انه الذاكرة التي لا تنسى وتطبق المثل القائل "ما بموت حق وراه مطالب".

كيف يمكن العثور على البيت المفقود، وهذه الشابة الصغيرة في العمر لم تعرف البيت ولم تكن مولودة لا في نكبة 1948 ولا في هزيمة 1967؟؟..إنها الذاكرة التي سمعتها من أهلها، الذين لم ينسوا بيتهم، وهي وصية الوالد الذي انتقل للعالم الآخر وهو يحلم بالعودة لبيته، أو عودة أبنائه إليه، المخرجة التي أصرت أن تكون هي نفسها التي تقوم في الدور، فهي تشعر أن لا أحد من حقه أن يقوم بالبحث عن بيتها غيرها، إنها وصية الأب الحنون في البحث عن البيت والعودة، فهي مخرجة ولكنها في عملية البحث لا تقوم بالتمثيل، إنها تقوم بالمهمة المقدسة، ومن هنا لم يكن هناك مشاهد تمثيل بمقدار ما هي أحاسيس ومشاعر حقيقية، تعتمد وفاء على ذاكرة الأهل أن البيت قرب مسجد الجزار ومكون من طابقين وساحة كبيرة، إضافة لذاكرة الحاجة التي استشهد أخوها في حيفا، وكيف تمت مغادرة البيوت تحت وطأة النيران وعمليات القتل التي مارسها الاحتلال.

في مشاهد تعتمد على نقل صور لعكا، واسترجاع للذاكرة في أحاديث كثيرة في مخيم اللجوء، حيث وضع اللاجئون في تجمعات سكانية تفتقد أدنى متطلبات الحياة والكرامة، حتى أن دورات المياه مشتركة لكل السكان، مع انعدام وشح المياه للشرب فما البال في المسائل الحياتية الأخرى، وما بين مشاهد لعجائز بقين في عكا وتسألهن وفاء عن البيت، لكن بلا جدوى..فالذاكرة تعبت والسن له أحكامه، إلى مشاهد الأهل وهم يتحدثون عن عكا والبيت المفقود، تشعر وفاء بالقهر فتنفلت في البكاء المرير، فتضمها العجوز وتحتضنها معتذرة لها عن فقدانها قسم من ذاكرتها بمرور الزمان، فيكون احتضان الذاكرة المنسية للذاكرة الشابة التي تبحث عن ذاكرة الوطن، في مشهد منبثق عن مشاعر حقيقية بدون تزويق ولا تمثيل.

تعود فينا المشاهد إلى صورة الأخ وذاكرته عن تعرض والده للضرب بأنبوب معدني من قبل الجيش الإسرائيلي، فيترك حادث الاضطهاد في روحه جرحا كبيرا فيسمي أبنته التي تولد بعد الحادث "كفاح"، انه الإصرار والكفاح حتى بأسماء الأبناء.

الأطفال ببرائتهم المعهودة يرون وفاء تبكي، فهو ليس تمثيلا بمقدار ما هو قهر ينتابها أنها لا تجد ضالتها، وخصوصا حين تواجه بالصد من البعض، فأحد الأشخاص الذي تدق بيته لتسأله، وحين يرى الكاميرا يخاف ويصرخ بعصبية "لا تصوروا بكسر الكاميرا هلا"، مما يزيد بتوترها، فنرى طفل يهمس للآخر "عم بتبكي لأنه ستها وسيدها – جدها وجدتها – ضايعين وعم بتفتش عليهم"، إن معظم السكان الموجودين في عكا هم ليسوا من أهل عكا الأصليين، وهم ممن تم تهجيرهم من مناطق أخرى وسكنوا عكا، فالاحتلال قام بتهجير معظم من تبقوا في قراهم إلى المدن التي هجرها أهلها، فقط من أجل أن يفقد المواطنين الذاكرة والارتباط بالأرض، ويحيلهم إلى عمال سخرة في خدمة مجتمع الاحتلال، وليس بالامكان لوم سلوك المواطنين الذين صدوا محاولات التصوير والحديث للمخرجة، فالخوف يعتمل في النفوس تحت احتلال لا يرحم، وتحت ظل حكم بوليسي لأهلنا في الداخل يجعلهم يتشككون بكل شيء، ورغم هذا السلوك الذي ووجهت به من قبل البعض، إلا أنها تعذرهم وتقول: لو لم يهاجر أهلي لربما كنا جيران.

تتواصل رحلة البحث المضنية بلا نتيجة، فمن تلتقيهم إما غرباء عن المدينة، أو كبار في العمر لعب الزمان دوره بتضييع الذاكرة، فتبدأ تستعيد ما قاله الأهل والأقارب عن موقع البيت وعن ذكريات عكا، تبحث في منطقة المسجد وفي الحواري القديمة، الكثير تغير ونهضت مباني جديدة، فمن يضمن أن البيت لم يهدم وقام مكانه بناء آخر، تفتش وتفتش لكن... أين البيت؟ هكذا تصرخ ألما..

ينتهي الفيلم وهي تقف إلى شاطئ عكا تصرخ..البيت هو ارتباط الجذور بالنسبة لي، وحين تقف للشاطئ يعتصرها الألم للفشل في تحقيق وصية الأب الذي رحل وتلته الأم بفارق ستة شهور، نجدها تقول: الحمد لله..بالرغم أن أهلي هاجروا من عكا، إلا أن البحر لم يهاجر..

البحر يا وفاء يا ابنتي لن يرحل، فهو سيحمل قوارب الطيور المهاجرة عائدة لأعشاشها، كما حمل الذين هجروا قهرا وغصبا، فهو بحرنا الذي يحن للمراكب والصيادين والأهل الذين سيعودون يوما، مهما طال الزمان...فالحق لا بد أن يعود.

تنتقل بنا الكاميرا بلقطة رمزية رائعة، الطيور التي تحلق قادمة نحو الشاطئ والمدينة، فهل تتنبأ وفاء جميل بعودة الطيور المهاجرة يوما من المنافي والشتات؟؟؟ ولسان حالها يقول " لو خافت عكا من هدير البحر لما سكنت الشاطئ".

الفيلم رغم مدته القصيرة والبالغة عشرون دقيقة، ورغم أنه التجربة الأولى في الإخراج لها، ورغم بعض المسائل الفنية في الصوت، إلا أنها تمكنت من أخراج فيلم مميز بالمعنى الذي يحمله، وفي التلقائية التي سادته، فلم يكن هناك مشاهد مصطنعة، فالأهل والجيران يتكلمون أمام الكاميرا بتلقائية وبساطة، وكذلك الذين تلتقيهم في عكا من رجال وشباب وعجائز، مما أعطى للفيلم مصداقية مميزة مقارنة بأفلام وثائقية أخرى شاهدتها، كانت تفتقد هذه الميزة إضافة للبعد الإنساني الذي تجلى في العديد من المشاهد، كبكاء وفاء واحتضانها من قبل العجوز.

والجدير بالذكر أن وفاء جميل حين بدأت في الفيلم توفي والدها، وبعده بستة شهور توفيت والدتها، وبذلك كانت مشاهد الأهل التي تضمنها الفيلم وكأنها لقطات الوداع، ومن المهم الإشارة أن العرض الأول للفيلم كان في مركز خليل السكاكيني الذي كنت أتشرف بعضوية هيئته الإدارية بتلك الفترة، وقد لقي استحسان كبير من الجمهور، مما أدى لاختيارها كنموذج للمرأة الفلسطينية المبدعة من ضمن مجموعة متميزة بالعطاء من النساء، وصدر عنهن كتاب من إدارة المركز اعتزازا وتكريما لهن ولعطائهن، ثم عرض في مسرح وسينماتيك القصبة وفي مدارس وكالة الغوث التي تضم في صفوفها أبناء اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات.

تبقى هناك مسألة لا بد من الإشارة إليها، وهي الإهداء الذي قدمته وفاء في فيلمها حين قالت..

الإهداء..

لوالدي الحبيبين.. لأمي وأبي اللذين توفوا بفارق ستة شهور، واللذين كنت أرى بحر عكا في عينيهما.

إلى كل من غرسوا شجرة بجذورها راسخة في الأرض وشاء القدر أن يرحلوا دون أوان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى