الثلاثاء ١٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم فيصل سليم التلاوي

فيل السلطان

بعد أن يغطي سعيد رأسه تحت اللحاف الصوفي الثقيل، مطمئنا إلى أنه قد أخفى سائر بدنه الضئيل عن أي منفذ قد تتسلل منه نسمة باردة، و بعد أن يلتقط بعض أنفاسه، و يشعر بدفء المكان إلى جوار جده، يبادر إلى سؤاله التقليدي:

ما هي حكاية الليلة يا جدي؟

سأقص عليك الليلة يا سعيد قصة فيل السلطان.

و هل لكل سلطان فيل يا جدي؟

لا. ليس لكل السلاطين أفيال، لكن سلطان مدينتا في قديم الزمان كان لديه فيل عظيم، أهداه إياه ملك من ملوك الهند، حيث تكثر في بلادهم الأفيال.

ولما كانت بلادنا تخلو من هذه المخلوقات الأليفة على ضخامتها و هيئتها العجيبة، فقد سُرَّ سلطان مدينتا بهذا الفيل، مثلما عمَّ الفرح و البهجة سائر الرعية لمرآى هذا الفيل العظيم. وصار أهل مدينتا صغارا و كبارا، رجالا و نساءً، يمنون أنفسهم باختلاس نظرة و لو عن بعد، لهيئة هذا الكائن العملاق في طريق غدوه و رواحه إلى الحديقة التي خصصها له السلطان. يتأملون قوائمه الضخمة، و خرطومه الطويل، و ناباه العاجيان البارزان على جانبي فمه الواسع. و أحيانا كان يُدهش الناظرين، و هو يلف خرطومه حول وسط صبي صغير من صبيان خدم السلطان، فيرفعه عن الأرض في طرفة عين، ليستقر المقام بالصبي على ظهر الفيل، و يسير به هادئا مطمئنا، ثم ينزله عن ظهره بنفس الطريقة.

كان كل أطفال المدينة يحسدون أبناء خدم السلطان على هذه اللفتة، التي يخصهم بها الفيل دون سواهم من أبناء المدينة، و يتمنون لو أتيحت لهم و لو مرة واحدة فرصة الركوب على ظهر الفيل، لكن بواسطة سلم يسندونه إلى جسده العملاق، و ليس بطريقة لف خرطومه حول خصورهم. تلك الطريقة التي كانت تفزعهم، و يخشون أن يشد عليهم خرطومه فيعتصر أبدانهم الهزيلة.

و لم تسنح الفرصة لأي منهم بتحقيق تلك الرغبة يا جدي؟

يوما بعد يوم، و شهرا بعد شهر ازداد تعلق الناس بالفيل، و اشتعلت رغباتهم بمتابعته، و زاد تلهفهم إلى رؤيته، و لو من وراء أبواب الحديقة و أسوارها.

و بلغ السلطان أمر تعلق رعيته البالغ بمرآى الفيل و مشاهدته عن قرب.

فماذا فعل السلطان يا جدي؟

قرر السلطان عندها أن يتكرم على رعيته، و أن ينعم عليهم، فيلبي رغباتهم، فأمر بأن يُترك الفيل على رسله، ليسير في شوارع المدينة و طرقاتها، و يتجول على هواه في أسواقها و مزارعها، و أن يترك له أمر ملاطفة الرعية و مداعبتها كيفما شاء. و أن يحمل على ظهره من يريد من بينهم، و يسير به المسافة التي يريدها، دون أن يظل ذلك الامتياز مقتصرا على أبناء خدم السلطان دون سواهم.

يا لله! إذن لقد استمتع أهل المدينة كثيرا.

نعم. ذلك ما حصل، لقد فرح أهل المدينة أيما فرح بمرآى الفيل عن قرب، و متعوا أنظارهم بتأمل ضخامة بنيته، و تعجبوا من قوته و قدرته الفائقة على رفع شخص عن الأرض بخرطومه، ليلقي به على ظهره في مثل لمح البصر, و أكثر ما أعجبهم فيه وداعته و ألفته، فهو على عكس سائر حيوانات الغابة من أسود و نمور و فهود، لايفترس كائنا، و لا يؤذي أحدا، و لا يأكل إلا الأعشاب والنباتات، مثل الأبقار و الجمال و سائر الحيوانات الأليفة.

و هل ركب كل الأولاد على ظهره؟

ليس كلهم، بل كثير منهم. لكن الأمور لم تستمر طويلا على هذا المنوال الهادئ، بل تبدلت الأحوال مع مرور الأيام، و تتابع جولات الفيل في المزارع و الأسواق، فقد انقلب الحال رأسا على عقب. و ما كان الناس يتغاضون عنه مما يطؤه الفيل بقوائمه الضخمة من مزروعات حقولهم، أو ما كان يعبث به فيبعثره بحركات خرطومه، من بسطات خضروات و فواكه، و معروضات تجارية أمام محلاتهم في أسواق المدينة. كل ذلك كانوا يغضون الطرف عنه أول الأمر بدافع فضولهم، و رغبتهم في ملاحظة الفيل عن قرب. لكن لما طال عليهم الأمد، و تفاقمت خسائرهم و أضرارهم بفعل حركات الفيل، و احتكاك جسده العملاق بما برز من دكاكينهم و معروضاتهم التجارية، ووطئه لممتلكاتهم و مزروعاتهم بقوائمه المدمرة. عند ذلك ضجت المدينة بالشكوى، مما لحقها من تلف و ضرر جراء نزهات الفيل، و جولاته في طول المدينة و عرضها.

و ماذا فعل أهل المدينة يا جدي؟ هل شكوا أمرهم إلى السلطان، و طالبوه بإعادة الفيل إلى حديقته، ليكف أذاه عنهم؟

كأنك كنت بينهم يا سعيد. فعلا، تهامس أهل المدينة فيما بينهم بالشكوى أول الأمر، و راحوا يبحثون عن حل يدفعون به هذه البلية التي استفحل خطرها، والتي جلبوها لأنفسهم بأيديهم، حين طلبوا من السلطان أن يطلق الفيل من حديقته، ليسرح و يمرح في أرجاء المدينة على هواه. ثم علا همسهم مع مرور الأيام، و توالي الخسائر والأضرار التي يلحقها الفيل بممتلكاتهم، لينقلب إلى تذمر علني يتناقله الناس على ألسنتهم، دون أن يجرؤ أي منهم على إيصاله إلى السلطان.

و لماذا يخافون يا جدي؟ و ماذا سيفعل السلطان بهم؟

يخافون أن يقال إن من لا يحب فيل السلطان لا يحب السلطان ذاته، و إن من يتبرم و يعترض على فيل السلطان، فكأنما يعترض على ذات السلطان و مشيئته، و ذلك أمر خطير، و عواقبه و خيمة.

و مع ذلك فقد تجرأ جماعة من أهل الرأي والحزم من وجهاء المدينة، فعقدوا اجتماعا حرصوا على أن يكون سريا، لتدارس الأمر والتفكير في وسيلة تخلصهم من هذه الورطة التي أوقعوا أنفسهم فيها . فاقترح بعضهم أن يشكلوا وفدا من بينهم ليقابل السلطان، و يعرض عليه الأمر، و يبين له الأضرار الجسيمة، التي يلحقها الفيل بأسواقهم و تجارتهم و مزروعاتهم في جولاته اليومية، و يلتمسوا من جلالته أن يعيد الفيل إلى حديقته مثلما كان حاله في الأيام الأولى. فرد عليهم آخرون:

كيف نطلب من جنابه أن يعاود حبس الفيل داخل حديقته، و هو الذي لم يطلقه منها إلا تلبية لرغباتنا، و نزولا عند التماسنا؟ و أضاف آخرون:

و ماذا لو قال لكم لقد اعتاد الفيل حياته الجديدة، التي عودتموه عليها، و هي التجوال على سجيته في الأسواق و البساتين طول النهار، فكيف نعاود حبسه من جديد بعد أن ذاق طعم الحرية؟

و من الذي يضمن لنا أنه سيرضى بذلك، ولا يلجأ إلى خلع الأبواب و تحطيم الأسوار، ليعاود الانطلاق على رسله مثلما عودتموه؟ أو أنه لن يمتنع عن تناول الطعام والشراب احتجاجا على حبسه، فيؤذي بذلك نفسه، و يعرضها للأخطار؟

و علامَ قرّ قرارهم يا جدي؟ ألح سعيد في السؤال.

بعد طول جدال و أخذٍ و ردٍ، بين مشجع لمقابلة السلطان و مثبطٍ لتلك الفكرة، انبرى أربعة نفر كانوا أشجع القوم المجتمعين، و تطوعوا أن يقابلوا السلطان، فيعرضوا عليه سوء الحال الذي آلت إليه المدينة نيابة عن جميع أهلها، و تعهدوا أمام الحاضرين أن يطلبوا من السلطان إعادة الفيل إلى حديقته، فيتوقف بذلك أذاه عن أهل المدينة جميعا.

والتزموا بأن يرفعوا للسلطان تظلم أهل المدينة بطريقة استعطاف مناسبة، لا تثير حفيظته، و لا تستثير غضبه عليهم، بل سيعملون على استدرار عطفه، و إثارة رأفته و شفقته على رعيته من أبناء مدينته.

و هل قابلوا السلطان ياجدي، و استجاب لطلبهم؟

نعم يا سعيد. لقد استأذن الوفد الرباعي للمثول بين يدي السلطان، لعرض مطلبهم عليه، وانتظار كلمة الفصل التي سينطق بها، و التي أملوا أن تخلص أهل المدينة من هذا الأذى الذي يجلبه لهم الفيل.

استقبل السلطان الوفد و هو لا يعلم شيئا عن حقيقة مطلبهم، فرحب بهم و أكرم و فادتهم، و سألهم عن المدينة و أحوال أهلها، و دعاهم لعرض مطالبهم، و وعدهم بتحقيق ما أمكن تحقيقه منها.

تبادل أعضاء الوفد النظرات فيما بينهم، واحتاروا أيهم يبدأ الكلام، و كلٌ منهم يحث الآخر على أن يكون البادئ، متظاهرا بتقديمه على نفسه، فلما أطالوا في ذلك أشار السلطان إلى أكبرهم سنا ليبدأ الحديث، فاستجمع كل ما واتاه من شجاعة و براعة و بدأ حديثه قائلا:
أطال الله عمر مولانا السلطان، و أدام عزه و بعد، فإن أهل المدينة قد أوكلوا إلينا مهمة إزجاء تحياتهم إلى جنابكم الكريم، و إبلاغ جلالتكم جزيل شكرهم، على ما تفضلتم به من إطلاق سراح فيل جلالتكم، ليسرح و يمرح بين ظهرانيهم في شوارع المدينة و أسواقها و بساتينها، ليكون قرة عين لأهلها، يداعب الصغير و يسلي الكبير، و تقر به عين المبصر و الضرير، فكل من في المدينة يكاد من فرحته بهذا الفيل أن يطير.

والتفت إلى يمينه مستعينا بجاره، ليكمل عنه بقية الحديث، و يكمل ما تبقى من طلبات أهل المدينة فقال:

أطال الله بقاء مولانا السلطان، وأعزه بنصر من عنده و بعد.

فليس عندي ما أضيفه إلى ما سبقني به أخي المتحدث قبلي، سوى أن أنقل إلى جنابكم مشاعر أهل المدينة رجالا و نساءً، شيبا و شبانا، التي تعايش هموم فيلكم العظيم، و تشعر بشعوره في وحدته في ذهابه و إيابه، و تتساءل كيف يقضي أيامه و لياليه دون مؤنس أو جليس؟ فإذا كان يسلي أهل المدينة، و يفرج عنهم كربهم، و ينسيهم همومهم، فإن من حق أهل المدينة عليه أن يردوا له جميله، فيؤنسوا وحدته، و يخففوا عنه عزلته. فسأله السلطان:

و كيف يكون ذلك؟

فالتقط خيط الحديث ثالث أعضاء الوفد، ليدلوَ بدلوه مثنيا على ما بدأ به زميله مكملا الحديث قائلا:

يقصد يا مولانا أن نبحث له عن فيلة تؤنس وحدته، و تخرجه من عزلته، فينعم الله عليهما بالذرية الصالحة من صغار الفيلة، التي تزيد مدينتنا بهجة و أنسا، و تصبح بلادنا من بلاد الفيلة، و ليست ذات فيل واحد.

ولم يجد رابعهم ما يضيفه على أقوال من سبقوه، سوى إبداء الاستعداد ليكونوا أربعتهم، الوفد الذي سيذهب إلى بلاد الهند، نيابة عن أهل المدينة لاختيار الفيلة المناسبة التي تليق بمقام فيل السلطان العظيم، إذا تكرم جلالته و وافق على طلبهم و بعثتهم.

ولم يخيب السلطان رجاءهم حين استجاب فورا لطلبهم، بأن أثنى على اقتراحهم، و حثهم على الإسراع في مهمتهم، والعودة بما تقر به عيون أهل المدينة، و بما يسر قلوبهم.

و فات سعيد أن يسأل جده إن كان الوفد قد وفق في مسعاه، الذي قام فيه بدور الخاطبة، فقد كان عندها يغط هانئا في نوم عميق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى