الجمعة ٢٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم عمر يوسف سليمان

في الشعر الجديد: أزمة شعر أم أزمة...

عندما يسألني صديقي: كم عدد الشعراء الجدد في سوريا، وأجيبه: بالمئات، فيقول: إنني لا أعرفهم، ومن أقتني له ديواناً أو أقرأ نصاً في صحيفةٍ لا أفهم مما أقرأ شيئاً، أشعر بالخجل متسائلاً عن سبب هذا البعد بين الشعر والجمهور!

انتشرت مقولة أن الأزمةَ ليست في الشعر الجديد، بل في الثقافة، إنها أزمة أمةٍ تعاني من مصادرة الحريات على مختلف المستويات، إلى أزمة الإعلام، إلى أزمة المتلقي الذي لا يقرأ، والأهم من كل هذا ما وصل إليه الشعر من إبهامٍ ورتابةٍ وتكرارٍ لأسلوبٍ يكاد يكون واحداً سيما في قصيدة التفعيلة، وماوصل إليه كان نتيجةَ ماتعانيه الأمة من الأزمات السابقة كنتيجةٍ لها.

أقول بالرغم من المقولة السابقة، الشعراء ملومون، وما نقرأه من غموض النصوص الجديدةِ أصبحَ أمراً ممجوجاً، والقصيدة التي لاتقرأ لا ينبغي أن تُكتب، وهناك فرقٌ كبيرٌ بين الغموضِ الشفاف الذي يشابه بحيرةً هادئةً نستطيع تبين قاعها بالتأمل، والغموض الذي يشبه أخرى مكدرة بالطمي!، والقصيدة قصدٌ ومعنى، فماذا نرتجي منها إذا خلت منهما؟.
كيف نحكم على القصيدة الجميلة بأنها كذلك؟وكيف نحكم على ما كُتِب في العقود الأخيرة مما صار يسمح لنا بعملية (الفرق) بعد مرور سنواتٍ طويلةٍ من (الجمع)-كما يقول الشاعر عبد القادر الحصني-؟.

أنا لا أشير بكلامي إلى أحد، فهناك شعرٌ جميل، ولكن يقع على عاتقنا جميعاً ما وصل إليه الشعر الجديد من الرتابة والتقليد، ولكن أين المختلف؟
قرأت مرةً لأحدهم قوله إن الأذن التي أصبحت تستسيغ شعر أدونيس وشوقي بزيع ومحمود درويش لا تستطيع أن تجد لذةً في شعر نزار قباني، أي أن من يستلذ بالشعر النخبوي يفقد متعةَ الشعر البسيط الذي يدنو من أذن العامة!، فهل هذا يعني أننا أصبحنا أمام لغتين في الشعر الجديد تمثل كلٌ منهما طريقاً مختلفاً لا بد من السير في أحدهما؟، هذا غير صحيح على الإطلاق، وبساطة اللغة لا يعني أن متذوقها لن يتذوق الشعر النخبوي أو العكس، وإنما يكمن المقياس الحقيقي في الشعر الحقيقي سواء كانت لغته صعبةً أو سهلة، غامضةً أو واضحة.

أن يكون الشاعر غامضاً بشكلٍ عفوي، أو مؤسساً للغموض شيء، وأن نتتبع هذا الشاعر ونتنابنا حالته فنقلد ما يكتب لتختلف نصوصنا عن أعماقنا وصوتنا الذاتي شيءٌ آخر، ولو فرضنا أن كل ما يُكتب من الغموض جميلاً، فهل يحدد الجمال في قالبٍ واحد؟

نحتاج للعودة إلى العاطفة والصوتِ الصادق النابع من أعماق الشاعر، وإلى البعدِ عن التأثر بصوت شعري ومدرسة شعرية (كما كانت تسمى)تأثر بها بعض الشعراء عرب بعد إنشائها في أوروبا، مدرسة الفن للفن، وأعلم أن هناك من سيرميني بالسطحية والسذاجة، ولكن لا أجدني خجِلاً من تكرار هذه العبارات في ظل نصوصٍ أصبحت أقرب للصنعة الكاذبة، باردةً وجامدة يلمُّ أصحابها موادها الخام من شعراء كبار آخرين، فغدت القصيدة بلا بناءٍ متماسكٍ أو معنى أو فكرة واضحة، وبلا عاطفةٍ، بل أصبحت نتيجةَ التقليد قريبةً جداً من ناحيةِ الأسلوب، خصوصاً نصوص التفعيلة التي قدمها أصحابها للخروج من الرتابة في نصوص الشطرين، فأصبحت اليوم ذات رتابةٍ أوسع، مقتربةً من الذهنية، مبتعدةً عن الحس والخيال، إنها جافةٌ وبليدةٌ وبلا حركة، ولا يبقى في ذهن المتلقي منها سوى صورةٍ أو صورتين يعتمد الشاعر فيهما على جذب المتلقي، مستنجداً من خواءِ نصهِ مما يثير أو يُعجب، وهؤلاء إما أنهم لايقرؤون، أو لم يكونوا رؤيتهم الخاصة تجاه الشعر والحياة، لكي يحعلوا منهما دائرةً واحدةً في فلكٍ واحد، فكان شعرهم عبارةً عن تأثرات عابرة، ونتفٍ من عبارات خالية من الشاعرية.

وهناكَ طريقانِ آخرانِ وضعهما بعض من يكتبون الشعر ، أحدهما يتمثل بالبلاغة في القصيدة، والآخرُ في اللغةِ اليومية المستخدمة في النصوص النثرية، فالبلاغة تعني عندهم فخامة اللغة وعدم تلاؤمها مع العصر، واتباع القديم، واليومي هو الشكل الأفضل لكتابة الشعر خاصةً في النصر النثري.
البلاغةُ ليست مما يعيب النص الجديد، ونستطيع أن نمزج بينها وبين اليومي، وهذا ما نجح فيه العديد من الشعراء، وهي ليست جزءاً من القديم، بل هي جزءٌ من اللغة، والشاعر الشاعر لا يتوكأ على البلاغة لتسهيل كتابته ولإبهار السامع، بل يستعملها بشكلٍ عفويٍ لتصبح جزءاً متماسكاً تنبثق من خلاله التراكيب والصور الجديدة، كما أنها ليست محصورةً في النص ذي الشطرين أو التفعيلة، بل في أي نصٍ يكتب، وسواءٌ من ناحية البلاغةِ أو غيرها، علينا أن نحطم هذه الحواجز بين الأشكالِ الشعرية، لا يوجد شكلٌ شعري له خصائصه اللغوية التي يُحرم على غيره استخدامها، أن نُدخِلَ ما يُستخدم الآنَ في النصوص النثرية من تفاصيل الحياة اليومية في نص الشطرين أو التفعيلة، فما المانع؟، طالما أن الإبداع بحد ذاته عملية عقوقٍ خارجةٍ عن قيودِ اللغة، ملبسةً إياها ثوياً جديداً لم تلبسْهُ من قبل، فلماذا نوجدُ قوانين لا أصلَ لها قاصدين أن نخرج بشيءٍ جديد ولو كان لا أصلَ له ولا وجود!

هل الشعر في طريقه إلى الزوال؟

الشعر الذي يعيد توازن العالم عبر ما يقارب من مظاهره في صوره المختلفة وفي تراكيبه، هل أصبح أمراً ثانوياً جداً، وباهتاً جداً، في مرحلةٍ يكاد العالمُ يتوازن فيها!، نعم، العالمُ الذي أصبحَ قريةً صغيرةً بعد ثورة الاتصالات، وسهلَ المعيشة بعد ثورة التكنولوجيا، والخالي من المرض بعد تطور الطب والاكتشاف العلمي الذي يقدم كل جديد، هل سيختفي الشعر جراء كل ما سبق؟

أرى أن الأكثرَ قدرةً على البقاء هو الشعر الرومانسي في هذه الفترة التي نمر بها، إنه الأكثر تأثيراً، ولا أعني به ذلك الشعر المليء بالحزن، فالحزن عندي ليس مقياساً للرومانسية، بل أدعو إلى رومانسيةٍ جديدة، مستمدةٍ من الطبيعة الإنسانية، كما لا أجدني خجِلاً إذا دعوتُ إلى لغةٍ مفهومة يتجسد من خلالها هذا الشعر، واللغة المفهومة لا يعني أنها سهلة، بل على العكس لأن ما تراكم لدينا من الشعر الحديث، والذي لا بد للشاعر أن يقرأه مليءٌ بالغموض والإبهام، ولكي يستمد الشاعر هذه اللغة المفهومة على الأقل تجاه الجمهور المثقف فعليه أن يبحث عن لغةٍ جديدةٍ حتماً، إذا كان يود تكوين صوته الخاص.

الشعر الرومانسي كان الأكثر سيرورةً على مر العصور، ومن منا ينسى قصائد فيكتور هيجو ولامارتين وغيرهما من شعراء القرن التاسع عشر، وللشعر الرومانسي اليوم مكانه في عالمٍ متوحشٍ وفي فترةٍ مخيفةٍ من الخواءِ العاطفي وتلبد المشاعر الإنسانية، التي يضطر الإنسان لممارستها في مدنيةٍ تعجُّ ببرودة الأحاسيس، تجد هذا الإنسان متعطشٌ للرومانسية والحُب، الذين لا يجدهما في واقعه.

الرومانسي هو الأكثر نجاحاً الآن، والرومانسية على طريقتي ليست مقيدةً بالحزن، إنها الرومانسية التي تحتفل بالحياة، والتي تنتشر في القصيدة كجداول الماء العذب، صادرةً من أعماقِ الشاعر، لتصبح القصيدة أشبه بالسحر الذي ينتاب المتلقي.

متلقي اليوم بحاجةٍ إلى ما هو رومانسيٌ، ليس في الشعر فقط، بل في كافة أشكال الإبداع، لذلك نجده يردد هذا الشعر أينما ذهب، وتبقى عباراته في الأذهان، ونجد المسلسل الرومانسي-على سخافة فكرته أحياناً-ينتشر انتشاراً عجيباً بين الجماهير، وأنا لا أدعو إلى سخافة الشعر في سبيل الرومانسية، وأصلاً لا يوجد شعرٌ سخيف، وكيف يكون وهو الذي يحيل أيةَ فكرةٍ في عالمهِ إلى شيءٍ مستساغ وجميل، كما لا أدعو إلى المدرسة الرومانسية، ولكنه محض رأي، لأنه برأيي يخرج الشعر الرومانسي عن العالم المتوازن...إلى عالمٍ يصنعه بنفسه.

والشعر أو الأدب عموماً غير مطالبٍ بالتحدث عن المناسبات والالتصاقِ بالأحداثِ التي تنتاب الشعب، ونحن لا نطالب بالالتزام، وإن كان تأثر الشعر بهذه الأحداث مما لا شك فيه، وإذا كان هناك تغيير ما فإنه على صعيد اللغة، بالتالي تحدث انقلاباً في العقل اللاواعي للمتلقي مما يعيد ترتيب ردود أفعاله تجاه الواقع والتعامل معه، وهنا مربط الخيل، لغة الشعر الذي يكتب...
هناك توجهٌ الآن نحو تطوير اللغة العربية من خلال المعاجم الجديدة التي تُضخ من خلالها المفردات والمجازات الجديدة، التي أصبحت مستخدمةً على نطاقٍ واسعٍ في وسائل الإعلام دونَ معرفة أصحابها أو انتباههم، نتيجة الاحتكاك الواسع مع اللغات الأخرى، وانتشار اللهجات المختلفة، فممن يطرح فكرة، وضع معجم التلفاز لتستخدم في الكتابة الدرامية لغة توحد بين العامي والفصيح، أما الشاعر فليس بحاجةٍ لمن يضع له مثل هذا المعجم، إنه المعجم الذي يحافظ على حيوية اللغة وخصوبتها.

فالمطلوب من الشعراء الجدد أن يكونوا أكثر خروجاً في شعرهم عن الغموضِ وتراكم الصور والبعد عن اللغةِ المتداولة، والاقتراب من اليومي وتجديد اللغة، اللغة الفصحى كأي لغةٍ أخرى لا بد أن تتغير وأن تدخل فيها المصطلحات الجديدة والمجاز والعامي بعد تحويره، ولا يكون هذا إلا بقصد التقارب بين العامي والفصيح حتى تنشأ لغةٌ موحدة بين المحكي والمكتوب، وهذا لا يضعف الفصحى أو يقلل من قيمتها، بل على العكس، يزيدها رونقاً وبهاءً، وأرى أن الشاعر هو المخول الأول لهذه العملية، لأن اللغة لا تجد نفسها نقيةً يانعةً إلا بين أصابع الشاعر، فهو الذي يستنبط منها التراكيب والانحيازات الجديدة، كما يقومُ بضخ المجازات والمصطلحات المتداولة بين الناس.

لماذا لا نحتفل بالمواضيع الجديدة، ولماذا أصبح شعرنا مليئاً بأفكارٍ مكرورة، وأسلوبٍ رتيب، إنني أعجب العجب كله من شعراء يُعجبونَ بالكبار من شعراء العربية ثم يقلدونهم!، فالإعجاب يقتضي البحث عن الجديد المختلف، هل ما كتبه محمود درويش كان غامضاً؟، فلماذا نكتُبُ ما لايُفهم ثم نُعجبُ به، إنها أزمةُ الفكر حقاً!، الجدد، وشعر الكبار كذلك...
هذا ليسَ رثاء، فهناك شعراء حقيقيون، ولكنهم مطالبون بالثورة، ومن الخطأ أن ينتظر الشاعر الجديد المستقبلَ حتى يتغير ويصبح شاعراً كبيراً، فالمستقبل يبدأ من الآن، ولا يكون الجديد بكتابة ما يشبه الأحاجي وبالركض وراء نحت صورٍ مبهمة، بل بالاستجابة إلى الإحساس والتعامل مع فكرة النص بعفوية وذاتيةٍ كبيرين.

أما اللغة الصعبة التي يكتنفها الإبهام، والبعيدة عن الحس والعاطفة والخيال، والتي لا هم للشاعر منها إلا صناعة الصور فالأفضل لصاحبها أن يرسم...بدلاً من كتابة الشعر!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى