الأربعاء ٤ آب (أغسطس) ٢٠٠٤
بقلم نجمة خليل حبيب

في الملجا

قبل السادس من آب بقليل

معارك شرسة تدور على مداخل بيروت: غارات طيران. قصف دبابات. قذائف على هذا الحي وذاك. إذاعة المرابطين تصاب بقذيفة وتتوقف عن البث. إذاعة صوت الثورة تقول: لن يستطيعوا التقدم ولو خطوة واحدة ابعد من المتحف فقد أعلن المدافعون عن المدينة قرارهم: كله إلا عروس المدائن.

الصحف والاذاعات المحلية تموج بالاعلاميين فهذا الشامت وذاك المتعاطف. مندوب رائح وآخر غاد. تصريحات لهذا الوزير وتصريحات مضادة لذاك النائب.

قليلون اخجلتهم الحالةغير الطبيعية فأخرستهم. . . أبواق سيارات الاسعاف لا تنقطع , طلعات الطيران تزداد حدة يوما إثر يوم. حرب من نوع مختلف تشن على بيروت وناسها. حرب نفسية كما سماها المتحذلقون. . منشورات ترميها الطائرات فتتساقط فوق الشرفات وعلى الارصفة وقد تتطاول واحدتها على قيلولة نائم في غرفة نومه . منشورات تدعي النصيحة فتطلب من ناس بيروت إخلاء المدينة وتعدهم بالنجاة إن سلكوا هذه الطريق او تلك. منشورات تظهر التعاطف وتبطن التهديد والوعيد. . . بعضهم فعلت الحرب النفسية فعلها في قلوبهم وصدقوا ما قالته المنشورات. بعضهم استطاع الهرب من بيروت وبعضهم اصطادته حواجز المليشيات ولم يعرف مصيره الى الابد

الحصار يشتد. لا ماء ولا كهرباء. قصف شرس ضعف إزاءه بعض البيروتين فقامت بينهم بعض اصوات تستغيث واخرى تطلب من المقاومين الانسحاب فالنير الذي ترزح تحته المدينة لم ي! عد ليطاق وصمود الاهالي يهن يوما بعد يوم

تخلى عوض عن نظريته القائلة بان الشقة أكثر امانا من الملجأ وتظاهر أنه يفعل ذلك تحت إلحاح مريم, على الاقل في الملجأ يخف إحساسه بزخم القصف ويريح أذنيه من ازيز الطائرات الذي لا يهدا. كان ذلك اليوم من اقسى ايام! الحصار, سبع عشرة ساعة من القصف المتواصل. غص الملجأ بسكان البناية وبعض سكان البنايات المجاورة. تجمعوا على حلقات يقتلون الوقت بالثرثرة المجانية ولعب الورق والتنظير للمرحلة القادمة. . . وزّع أبو مطلق ما تبقى في علبة سكائره فقسمت السيكارة الواحدة نصفين وحتى النصف الواحد تناوب عليه أكثر من فم . مريم لا تملك إلا بقايا رغيف , وهي محظوظة, فمنذ ايام لحقت بسيارة عسكرية محملة خبزا للمقاتلين, رجتهم ان يعطوها بعض أرغفة, تمنعوا اولا, فالكمية جد محدودة لا تفي إلا بالحد الادنى الذي يحتاجه المقاتلون, ولكن واحدا منهم رمى لها بربطة متجاهلا اعتراضات الاخرين. إحتفظت بها لربيع كانت تخبئها عن أعين المتلهفين وما سمحت لابي ربيع ان يمد لها يدا

قهقهات تتصاعد عالية من إحدى زوايا الملجأ. زمرة من المراهقين تحلقت حول استاذ درويش الذي أخذ يقص عليهم بعض المواقف المضحكة التي مرت معه في حياته التعليمية وما يحوم حولها, على حد تعبيره. انفجروا بركانا من الضحك وهو يخبرهم كيف اسودّ وجه الاستاذ سعيد خجلا عندما استلم ذات يوم مجلة بلاي بوي مرسلة له بالبريد المضمون.
ـ فلقني أستاذ سعيد. طالع نازل ينتقدني. في كل مجالسه أكون أنا الملحد والكافر وأبو لهب ومخرب عقول الاولاد ولولا الحيا لقال انني المسؤول الوحيد عن ضياع فلسطين. . . رجوته أكثر من مرة . "إكفيني شرك يا رجل"، فما استمع. دخّلت أستاذ واصف واسطة بيني وبينه فاستأسد صاحبنا وظن نفسه جرير العرب. والله هذا كان أقل شيء يمكن أن افعله به

ـ وعرف انك انت صاحب المقلب؟
ـ الرجل كان خجلان يتحاشى الكلام عن الموضوع مع اي كان . انتم يا ابنائي تعرفون كيف تكبر الاشاعة الوسخة في مخيماتنا بين ليلة وضحاها يصير لها اولاد واحفاد وابناء عم وخؤولة ايضا(اعجبتكم كلمة خؤولة هذه؟ ). ثم لنفرض انه عرف ماذا يستطيع ان يفعل؟ يشكوني للمدير؟ طز! . فهو كمان قلبه مليان من استاذ سعيد.
وأخبرهم عن مقالب اقل بريقا كتلك التي كان يدبرها لمفتش المادة كلما جاء يزوره حتى تأدب وخفف من ثقل دمه.

ـ انا ما قلت شيء. هذا الازعر حامد همس في اذنه : استاذ درويش له صلة قرابة ب"أبو نضال" . . . استاذ درويش حية من تحت تبن . . . يعقص ويلبد. يا ويل من يضعه في قائمة انتقاماته. . .
ثم قص عليهم كيف مثّل دور الاخرس والاطرش على أكمل وجه عند حاجز بئر حسن الذي تجاوزه مسرعا في إحدى المرات التي كان بها متأخرا على طلابه. . . ولم ينس يوم تصدى لعمود الكهرباء فصدمه, إلا انه لم يكن اكثر صلابة من راسه. وببراءة يقول:

ـ أما إدعائي باني النقيب احمد الخطيب يوم خطف جارنا ابو جورج من بيته في الحارة فوالله أمر لم أقصده. جاء هكذا. الظروف دبرته. أنا اتصلت بمركز القيادة من منطلق واجب الجيرة, لأشهد ان جاري رجل طيب وانا اعرفه من عشرين سنة وليس له اي اتصالات مشبوهة مع الشرقية. سألوني مين حضرتك. قلت أعطيه اي اسم, فقلت احمد الخطيب. (أقسم بالله ان الخطيب المقصود ما جاء على بالي ساعتها) ارتبك الرجل وصار يقول عفوا سيدنا. بأمرك سيدنا.&n! bsp; دقيقة ويكون الريس معك. اخونا ظن انني احمد الخطيب ما غيرو وانا سقت فيها وافرج عن الرجل بالحال.

كوميديا متجولة هذا الرجل علق أبو مطلق

ـ عمي ابو مطلق أنت اقرب الى الباب إسال صاحبك "ديّان" ماذا يريد ليكف أذاه عنا! ! . قل له الاستاذ درويش وكل الاجيال التي مارس حذلقته التربوية عليها, مستعدين ان يعتنقوا الدين اليهودي. فقط كفّ اذاك عنا.
وتعالت القهقهات والتعليقات:
ـ يناسبك ان تكون يهودي ابو محمود. أنفك كبير مثلهم ولونك اسود مثل يهود الحبشة.
ـ وراسك مفلطح تليق عليه القلوسة. تلبسك لبس
ـ راسك يابس يحمل دق على حيط المبكى
ـ وتناديني لأشعل لك النور يوم السبت .
ـ وتاخذ ربا مثل شيلوك

ضحكات هستيرية تسمع من إحدى زوايا الملجأ إنها عايدة, الملقبة بالكونتيسة, تنفث دخان سيكارتها بحركة مسرحية وتسند رجلا الى الباب وتنفخ صدرها الى الامام يهمس عدنان الخبيث: والله انها تدعوني لاخذها

ـ استغفر الله يا ولد . . . حرام التعرض لاعر اض الناس
ـ كثيرات تثور شهوتهن عند الخوف. . . ست أميره, ما غيرها, ربة الصون والعفاف, نامت مع هذا النجس فتحي بس لانها كانت خايفة . خلوة خمس دقائق فقط اطفئ ظمأ هذه النمرة وأتركها قطة. أريحها من هذا الجنيز واحرر ما لا يستطيع حبسه

ـ عيب يا ولد تأدب! كلنا لنا بنات وامهات واخوات لا تنهش اعراض الناس

خجل وانضم الى مجموعة من الفتيان تراهن على الطرة والنقشة

آخرون يتهامسون متهكمين: شرفنا أستاذ رغيد. نزل من برجه العاجي. تواضع وعاشر هؤلاء الهمج رواد الملاجئ.

ـ كأننا رواد البارات
ـ غدا يشرب معنا الاركيلة
ـ ويشاركنا في دق ورق
ـ ويقبل ان نشاكسه إذا انتهى مغلوبا
ـ عيني عليك يا إسرائيل كم قللت من قدر الاكابر! .
في زاوية أخرى كانت ريما ذات الاربعة عشر ربيعا تحدج عامر بنظرات غاضبة وتهمس في اذن رفيقتها

ـ هذا المغرور رفض ان يأخذ مني دم. رحت لأتبرع وقفت بالطابور أكثر من ساعة ولمّا صار دوري، قال لا يا شاطرة بعدك صغيرة. أنا صغيرة ! ! . . . لا والله بل هو كبير اكثر من اللزوم. وتقرب فمها من اذن صديقتها: لكنني انتقمت منه. . . نفّست له دواليب سيارته الاربعة

وتروي ام مروان قصتها مع زيت البطاطا: محروق دينو أقوى من قنابل النابالم . كانت تقلي البطاطا لاولادها عندما سقطت قذيفة على شرفة منزلهم, شدتها ابنتها من الخلف فانصب الزيت فوق بدنها كله
ـ يخليه لامه عامر لولاه ! ! . . الله يسامحك يا عامر. كان الزيت أدى خدمة ل"ابو مروان"

أبو شبلي يلقي محاضرته اليومية عن فوائد العرق : يشفي من الصداع والارق. يفتح النفس على الاكل . يفيد في وجع الاضراس ويجعلك قادرا على القيام بواجبك الليلي مع شجرة الجميز (غامزا بطرف عينه الى ام شبلي)
مريم ترقب هذين المراهقين حسن واليسار فيمتلئ قلبها حبورا لمشهدهما يسترقان النظرة او كلمة الغزل وربما القبلة الخاطفة. . . الله يسلمهم ليتمتعوا بشبابهم

مشادة عنيفة تدور بين "ابو ربيع و"ابو مطلق" تدخل فيها عامر
ـ ليرحلوا عنا قبل ان يقضوا علينا
ـ عيب هذا الكلام يا عوض. ولو! . . . بلد حمانا وفتح لنا بيوته وقدم شبابه فدائيين يحاربون معنا نتخلى عنه بسهولة. . . . نهرب مثل قليلي الاصل؟!. .

ـ لا اثق بأحد فيهم. . . عندما يحق الحق سيتركوننا ويهربون. سيديرون ظهورهم لنا ويتركوننا نحن الشعب الاعزل نقلع شوكنا بايدينا

ـ لا يا عمي اسمح لي بهذه (قال عامر). الجماعة بشهادة العدو قبل الصديق يستأسدون في الدفاع عن المدينة . يواجهون جيش انهزمت قدامه كل جيوش العرب. هم يردون جميل بيروت التي فتحت ابوابها لهم وحضنتهم. ولو ان سلامتهم الشخصية وحدها هي الهدف لكانت القصة انتهت من أول ايام الاجتياح
ـ يقومون بواجبهم!. يحمون هذا الشعب! هه! ! . . . بل يحمون غرورهم وعنجهيتهم. غرورهم سيقتلنا جميعا
ـ زوّدتها عمّ عوض

ـ لا عمّي ما زوّدتها. همّ إللي زودوها. ماذا فعلوا لنا منذ بدأوا ثورتهم ؟ بسببهم تهجرنا من بيوتنا، خسرنا اولادنا ورزقنا! ! . . . لو بقينا لاجئين كان أسلم لنا وأشرف
ـ لو بقينا لاجئين كنا بقينا خونة وبائعي أرضنا لليهود وأصغر ابن حرام يتمرجل علينا. انت بنفسك اخبرتني عن الدعايات التي كان يروجها المكتب الثاني عن جبن الفلسطينيين. نسيت يوم روجوا دعاية ان خمسمئة شاب من عين الحلوة كتبوا كتابهم بليلة واحدة عندما انطلقت إشاعة ان المنظمة ستجند الشباب غير المتزوجين؟ ! . . انا كنت صغير يومها. انت حكيت هذه القصة الف مرة قدامي, وغيرها وغيرها كثير. هذا الصمود وهذه البطولة التي لا تعجبك هي الرد الحقيقي على كل المتجنين على الشعب الفلسطيني

ـ ألبطولة, الصمود, الشجاعة, الفداء. . . يضحكون عليكم بهذه الشعارات الطنانة . . . دائما تجربون وتخسرون, دائما تعيدون القصة من اولها بلا فائدة, جهود ضائعة! ! لماذا لا توجهون جهودكم لشيء اكثر فائدة؟ لو ان هذه الطاقة التي تبذلونها للبطولة بذلتموها في تحسين أنفسكم , في سبيل الانسانية أما كان أنفع؟! . . لماذا لا تكونون علماء وادباء ومخترعين بدل ان تكونوا أبطالا وشهداء . . . انظروا اين كان اليهود واين اصبحوا, كانوا قبلا العظماء في كل بلد: أنشتاين وماركس وبتهوفن و. . . و . . . عندما تلهوا بالسياسة, بالبطولة يعني, لم نعد نسمع عن عظيم بينهم

ـ . . .
ـ قل لي ماذا حققت لك الثورة؟ ! . قتلت أبوك شابا وحملتك مسؤولية عائلة ولدا . هجرتك من بيتك واضطرتك لقطع دراستك وبدل ان تكون طبيبا قد الدنيا أنت الان مجرد موظف بالدرجة السادسة. عدا عن ذلك، جعلت نصف اللبنانيين اعداءنا والنصف الثاني على طريق ان يمسي عدوا . ابوك لولا جنونه بالثورة كان حيا يرزق . ابوك كان مهووسا منذ ال48

ـ أبي ما كان مهووسا! ! . . . ابي كان بطلا

ـ ماذا جنى من بطولته ؟ ! ! . . . أي عاقل لا يعمل ما عمله أبوك في كمب النبي يوشع . خمسة مفاعيص ببواريد تلفانة هاجموا موقع فيه مئة مجند

ـ ومع ذلك احتل دبابة. . .
ـ صدفة. . . حّظ. . . أبوك كان متهور.

أبي وأمثاله يدفعون دينك ودين امثالك . . . كل عمرك قضيته بالخليج تجمع فلوس. هل عشت شبابك يوما؟ هل انضممت الى تنظيم ؟ هل هزك خطاب سياسي؟ هل تحمست لزعيم ؟ هل شاركت في مظاهرة؟ هل قبلت فتاة يوما؟ هل لطشت واحدة في الطريق. هل كتبت رسالة غرام لحبيبة؟ . الله العليم انك ما عرفت النسوان حتى تزوجت خالتي
ـ إخرس يا وقح

وخرس وترك الملجأ ليستأجر غرفة في فندق لم تقبله إدارته زبونا إلا بعد كفالة واحدة من زميلاته الاجنبيات. وكانت الغرفة التي انضمت اليه فيما بعد امه واختاه يعادل إيجارها ضعفي راتبه.

. . . . . . .

غريب أمر ست الدنيا هذه ! ! . . . تمنح حنانها ودفئها بلا حساب . . . تنفعل شوارعها ومقاهيها بالحدث اليوم لتعود وتنفعل بضده غدا . . . تتبنى كل الملتجئين اليها , تؤاسي غربة الغريب وتؤنس وحشة المتوحد كما انها تجاري فجور المترفين بالحرير والخمور . . . حتى بحرها يعتريه هدوء حزين ايام الانكسار والحزن , وغضب ساخط عند الشدائد. . . تتبنى كل عريق واصيل وبديع , ولا تتنكر لصعلوك او لقيط .

محيّر أمر هؤلاء البيروتيون الذين في الظروف العادية لا يلقي واحدهم تحية الصباح على جاره كيف خلعوا فردانيتهم ووحدانيتهم وتعاون غنيهم وفقيرهم, عالمهم وجاهلهم, متحذلقهم وبسيطهم على التصدي لتحديات الحدث! ! . . . قطعت عنهم المياه والكهرباء فقصدوا جوف المدينة يستسقون من آبارها الارتوازية واحتالوا على العتمة بموّلدات تشترك اكثر من عائلة في شرائه وتأمين الوقود له. حتى التجار بدلوا من انواع تجارتهم. قامت البسطات الشعبية مكان الواجهات الانيقة. بسطات تؤمن للمحاصرين حاجاتهم الاساسية من بطاريات وشموع وقناديل كاز وفوانيس ومعلبات. بسطات تستخف خطر القصف وطلعات الطيران والعبوات الناسفة وتفترش الارصفة ومداخل البنايات :

من اين تعلم هؤلاء الصغار المكابرة وامتصاص الخوف وتحويله الى شجاعة ومواجهة؟ ! . كنا نحن الكبار نترع في يأسنا وكانوا هم يلاحقون المناشير المحذرة التي ترميها الطائرات المعادية يقرأونها متهكمين ساخرين. جوني يشير بواحدتها صوب مؤخرته وإيهاب يعقب ضاحكا مشيرا بالوسطى صوب السماء : خذوا . . .

ترى ما الذي يحمله الغد لهؤلاء الشجعان الصغار؟ هل سياتي يوم يخجلون فيه من شجاعتهم هذه؟! . . . هل سيندم واحدهم على ما يفعله اليوم ويرى فيه عنتريات فارغة؟!. . .

صوت متوتر ينبعث من إحدى الاذاعات المحلية

ـ لا استطيع, مستمعي الكرام, أن أصف لكم ما أشعر به وأنا أرى هذا الازدحام الغريب على المعابر، فبعد يوم امس المجنون من القصف ها هي الاف السيارات تعود الى بيروت المحاصرة. الناس يدخلون طواعية الى الحصار: بعد يوم الطيران الفظيع أقسى ايام الحصار، وصل عدد السيارات التي دخلت بيروت خمسة الاف سيارة في يوم واحد. . .
صرخ من الداخل : إقفلي هذا الراديو . . . هذا الخرا الذي يتمرجل من تحت سابع أرض يقزز النفس. هو في أمان ويتمرجل على الناس الذين تحت الخطر. . . العرصات بدهم يصمدوا باولاد غيرهم. إن كان شجاع يحمل إذاعته ويروح يبث من المواقع مش يتخفى باوكار الارانب.

درْا لشره خفضت صوت الراديو

مذيعة ذات لكنة جنوبية تحذر من المخبرين المتعاملين مع العدو :
ـ إنهم مندسون مثل السوس بفول الاعاشة. يحصون على المدينة وناسها انفاسهم . . . عند كل منعطف , في زاوية اي مقهى , على حدود كل رصيف وفوق كل مزبلة ينفثون سمومهم. يتلونون كالحربايات، يتسترون باثواب المقاومة وينفثون نتنا وحقارة وفحيحا دنيئا ؟ ! ! . . . يدعون وطنية مبالغا فيها وعند ساعة الصفر يخلعون براقعهم فتظهر من تحتها وجوههم الصفراء الخسيسة ؟ ! ! . . . كلنا نعرف ابو الريش . . .

شهقت مريم . أبو الريش, هو ذاته! ! . . . كم مرة توقفت وانقدته حسنة

وتكمل المذيعة:

ـ ابو الريش الذي عرفه سكان شارع الحمراء ورواد مقهى "الهورس شو" على وجه الخصوص , رجل كث الشعر واللحية , رث الثياب , قذر الهيئة , يكلم نفسه بصوت عال , يتفكه اهل الحي ورواد المقهى معه كواحد من صعاليك الشارع وينادونه متهكمين أبو الريش ابو الريش . . . أبو الريش هذا لم يكن إلا سوسة تنخر قلب بيروت وشارعها ومقاهيها

عجبا كيف تدور الدوائر كمثل لمح البصر ؟ ! ! . . . لقد شهدت بيروت صورا اوجع من الحصار وقسوته واعمق ذلا من الهزيمة ومرارتها . ولشد ما آلامها رؤية الناس يعوفون بيوتهم ويركضون مهرولين إذا ما وصل الى علمهم ان "ابو فلان" زار هذه البناية أو البناية المجاورة . . . ولطالما شوهد كبار الاباء وحتى الاب الاكبرمكوما على نفسه في المقعد الخلفي لسيارة ما, في مرآب مهجور من مرائب شارع الحمراء ! ! . . .

وسيلة الاعلام الوحيدة المتبقية هي الترانسستور , وقد احتال احدهم على بطارية سيارته فاسترق منها بعض كهرباء لتشغيل جهاز التلفزيون . . . تعطلت محطة إلارسال المرئي شبه الرسمية, فامست مصادر البيروتيين مقتصرة على تلفزيون الطرف الاخر.

صور المجتاحين المعتدين وهم يسبحون على هذا الشاطئ وذاك. . . باقات الزهور وحفنات الرز التي ترشق بها دبابابتهم. كلمات الذم والقدح، خطابات التهديد والوعيد للفلسطينين والمتعاونين معهم. رئيس ميليشياوي يسلخ عن بيروت وناسها كل صفة إنسانية فيقول: "انا لا أعتقد أن في بيروت مدنيين ابرياء"

أحست مريم خدرا كالموت يدب دبيب النمل في كل خليلة من خلايا جسدها صحت منه على ما هو أوجع مما شاهدته على شاشة التلفزيون. . . أكثر زعماء ميليشيات الطرف الاخر تطرفا يترشح لرئاسة الجمهورية. صفعة أحستها اقوى من الحصار ووجعه والقصف وضحاياه . . . تألمت مريم وتمنت الاّ يعلو الامر عن مجرد المناورة العابثة وخفف من ألمها إستنكار بيروت واستهجانها لهذا الترشيح

ـ هذا تحد واستفزاز لكل اللبنانيين. كيف يصير رئيس جمهورية لكل لبنان من شرب الشمبانيا فوق جثث بعض اهله
ـ عمي ابو مطلق جهز "بقجتك" . . . لجأة جديدة عن قريب بإذنه تعالى

ـ فشر ما يشوفها . . . ترشيحه مناورة فقط
ـ لا عمي ابو مطلق الرجل يأخذ أجره
ـ فشر . . . ماتت الرجال حتى يحكم البلاد "ولد" متل هذا! ! . . .
ـ عمي ابو مطلق حضر حالك. إما البحر وإما القبر
ـ أعوذ بالله يا رجل ! ! . . إستغفر ربك ابو محمود
وملأت الضحكة العريضة والعينان اللمعتان ببريق النصر، شاشة التلفزيون على وسعها، وراح الرجل يخطب ويتوعد. يتوعد الفلسطيني الذي باع بلاده وجاء يأخذ لبنان بديلا . . . اللبناني الذي استقوى بالغريب. . . مليشياويّ كان فيما مضى "فتى العروبة الاغر" يطالب بالحسم العسكري"

ـ عجبك ابو مطلق "شمعوننا" متطرف أكثر من "شمعونهم"
وكانت إجابة ابو مطلق مذهلة للجميع . . . فردة حذائه المكسور الكعب تلطم وجه الشاشة وتخرسها . نظرنا صوب الرجل كانت عيناه قد جحظتا حتى كادتا تخرجان من ماقيهما, وتفاحة رقبته تطقطق صعودا وهبوطا . . جميع الانظار اتجهت صوب الرجل بانذهال , ناديناه فما نبس ببنت شفة. امسك درويش بذراعه, هزه برفق اولا, ولما لم يستجب هزه بعنف واقبل كل من كان حاضرا يعرض شطارته. كان ابو مطلق قد تسمر قطعة خشب يابسة. حملوه الى قسم الطوارئ , غادره بعد ساعات وقد فقد قسما كبيرا من ذاكرته وقدرته على الكلام السوي.

الحصار يزداد شراسة ونساء بناية عكر جعلن من ممراتها مكانا لخبز المرقوق والثرثرة وتناقل الروايات، ما صدق منها وما كان من تأليف الخيال النشط. شهد ملجأها ازدحاما غير عادي فقد بدأ يقصده الكثير من سكان البنايات المجاورة, وقد يستضيف بين الحين والاخر مقاومين جاؤوا للاستراحة وأخذ بعض قيلولة. لم يكن سكان بناية عكر يهجرون بنايتهم عندما يقصدها المقاتلون . . ترى! ! . . أ لمثل هذا الامر العادي والبسيط، أصابهم ما أصابهم

ظهيرة ذلك السادس من آب؟

السادس من آب

بدأ الحصار شهره الثالث وبيروت لا تزال تمشي درب جلجلتها وحيدة ما مسحت مجدلية جبينها المنهك ولا وآساها سمعان بصمت . . .

والسادس من آب تميز تلك السنة بشمس كئيبة وسماء مغبّرة غير ما نعهده في آب من شموس مكتنزة وسماوات ضاحكة . . . وهواؤه محمل برطوبة لزجة تزيد من ثقل الهموم على اعصاب المحاصرين المنتظرين، بما يشبه اليأس، قولة حق وانصاف بمدينتهم .

والسادس من آب يوم هادئ إذا ما قيس بغيره من الايام المجنونة التي سبقته . يوم كاد يخلو من أزيز الطائرات الناعبة . . . يوم انتهزها البيروتيون فرصة للخلود الى شيء من السكينة وإلتقاط الانفاس . . . ترك بعض الناس ملاجئهم لتفقد شوارع مدينتهم , وبعض قصدوا أقارب وجيران للاطمئنان على احوالهم , وبعض بدأ يستعد ليهيء نفسه وعائلته لليلة قاسية متوقعه كما هي الحال بعد كل هدوء.

عند الساعة الثانية وبضع دقائق ، سمع أهالي بيروت عموما وسكان منطقة الصنائع خصوصا طلعة جديدة للطيران

ـ حومت طائرتان حربيتان في محيط حديقة الصنائع ( أعلنت الإذاعة)
لم تكمل المذيعة كلامها حتى سمع دوي مكتوم لقذيفتين متتاليتين.
شعرت كوكب وكأن هزة ارضية ضربت المكان . . . تضعضعت الصحون والفناجين من على رفوف المطبخ، وتأرجح السرير تحت جسد عامر الذي كان يغتصب قيلولة قلقة . . . وأصابت رجفة غريبة اطراف عزّة اللتي كانت تقلب صفحات مجلة شبابية. . . وقبل أن يستفيق الثلاثة من ذهولهم جاء صوت المذيعة ليعلن أن الطيران الحربي الاسرائيلي قصف محيط حديقة الصنايع . . .

لا . . . لم يكن قصفا . . . كانت قذيفة واحدة يتيمة . . . ولم يكن على حديقة الصنايع . . . كانت شيئا جديدا لم يعرف له مثيل من قبل اخترق قلب تلك البناية التي لجأ اليها منذ سنوات قليلة بعض الذين قذفتهم المنطقة الاخرى لا لذنب جنوه , بل لان بعض امراء الحرب ضاق بلهجتهم المميزة . . . وصححت الاذاعة معلوماتها , وسميت البناية المقصوفة بالاسم , فهرعت كوكب وابنها وابنتها الى البناية يطمئنون على مريم وعائلتها. قبل وصولهم المكان بلحظات سمعوا صوت انفجار آخر

ـ هي قذيفة أخرى انتبه يما (قالت كوكب(
ـ هذا صوت إنفجار (قالت عزة(
ـ إنها سيارة مفخخة (صرخ عامر(
كادت عزة تصاب بالاغماء وهي ترى أشلاء مصاب مقذوفة على الرصيف، هرع عامر بغير ما تفكير فشدته امه من الخلف:
ـ يا مجنون يمكن يكون في واحدة تانيه.
. . .
إلتفت عامر الى أمه مذهولا:

لم يكن هنالك بناية ما . . . لم يكن هنالك شظايا موزعة هنا وهناك . . . لم تكن البنايات المحيطة القديمة مصابة بأي أذى . . . وكان المستشفى ما زال يربض في مكانه . . . كان وكأن صندوقا كرتونيا فارغا سحق تحت قدمين قويتين فاطبقت جوانبه بعضها فوق بعض
. . .
علّق أحد الاعلاميين:

مئة وسبعون قدريا كانوا يسترقون بعض هدؤ . . . ربما كان بعضهم يرتشف فنجان قهوة . . . او يسترق كبوة قلقة . . . او منشغلا في مشادة كلامية تافهة مع زوجته . . .مئة وسبعون شخصا بينهم ام تحتضن طفلا في حوالي الثامنة من العمر وقد تمّ التعرف من خلال بقايا حلق في أذن الام على أنهم ربيع وأمه وابوه وجدته

قبل السادس من آب بقليل

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى