الخميس ٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم بسام الطعان

في حوار مع الأديبة نارين عمر

الشّعر غذاء الرّوح، ومتنفس اليائس، وخليل الواجد، ونغمُ النفّس والقلب.

كاتبة وقاصة وشاعرة كردية سورية، من مواليد مدينة ديريك، محافظة الحسكة، حاصلة ليسانس آداب قسم اللغة العربية من جامعة دمشق، تعمل مدرسة لمادة اللغة العربية للمرحلة الثانوية، تهتم بقضايا المرأة والطفولة والأسرة، تكتب بالغتين العربية والكردية، لها مجموعتين شعريتين واحدة بالكردية والأخرى بالعربية، ومجموعة قصصية وكتاب عن المرأة الكردية عبر العصور.

  نارين عمر، من أنت، وكيف جئت إلى عالم الأدب، الشعر والقصة تحديداً؟
 باقة ودادٍ وتقدير معمّدةٍ في نبع التّمنياتِ القلبية بدوام العطاءِ والتّألق أقدّمها إليك أخي الأستاذ والكاتب العزيز بسّام الطّعان.
أنا فردٌ أنتمي إلى المنظومةِ البشريةِ التي تعومُ في بركاتِ المنظومةِ الإنسانيةِ الأمّ، أحاولُ ومنذ مرحلة وعيي الأوّل أن أؤسّسَ مع أخوتي البشر للعالم الذي نسعى معاً لتحقيقه والذي ما زال يغفو في ملكوتِ أحلامنا، ينتظرُ نور الخلق والولادة، حتى تحوّل وهو في لحظاتِ غفوته القبس الذي نهدهدُ على ضوئه كلّ آمالنا وآلامنا الآنية والمستقبلية.
أمّا بالنّسبةِ لكيفية مجيئي إلى عالم الكتابة والأدب فأستطيع أن أؤكد لك أنّ هذا العالمَ الملائكيّ المقدّسَ هو مَنْ شدّني إليه بودّ ومحبّةٍ منذ تجاوزي للسّنواتِ الأولى من عمري وانتسابي إلى المدرسةِ، بمجرّدِ أن تعلّمتُ الأبجدية العربية في المدرسة والكردية من أسرتي التي كانت تهتمّ بالّلغة اهتماماً كبيراً حتى تشكّلتْ بيني وبين هذا العالم أواصر ودّ وصداقة بعد أن منحني فيزا الدّخول وأنا في مرحلةِ شبابي الأوّل. فصارَ الشّعرُ بمثابةِ الوتين الذي يُعتَبر العصب الأساس للقلب إذا انقطع مات صاحبه الذي لا أستطيعُ الاستغناء عنه إلا بعد أن تستغني الحياة عن عمري والقصّة هي مَنْ جذبتني إليها من خلال الأحداث الغريبة والمثيرة والدّراماتيكية التي تحدث لأسرتي ولي شخصيّاً فلم أجد بدّاً من ترجمتها كتابياً.

 ما هي دوافع ومسارات تجربتك الأدبية؟
 الحياة بكلّ مباهجها وآلامها، بكلّ أفراحها وأتراحها، بتقلّباتها وتغيّراتها الإيجابية والسّلبيةِ هي مَنْ دفعتني في البدايةِ إلى الكتابةِ، حيثُ وجدتُ وأنا طفلة رغبة جامحة إلى الكتابة عن كلّ ما يجولُ في ذهني ونفسي، خاصة وقد أحسستُ بامتلاكي لملكة الكتابةِ والتّعبير وفيما بعد تحوّلتْ بالنّسبةِ إليّ إلى هواية لا أستطيع الاستغناء عنها، وما زلتُ أحتفظ ببعض دفاتري التي كنتُ أدوّن فيها مجرياتِ الأحداث التي كنتُ أعيشها مع أسرتي ومحيطي، وبعض هذه الدّفاتر يعودُ إلى الصّفّ السّادس الابتدائي، وكلّما كنتُ أكبرُ عاماً كانت هذه الرّغبة تنمو وتكبرُ معي، لأجدَ نفسي أخوض غمار الأدبِ بأجناسه وفنونه المختلفة من شعر وقصّة ومقالة وخاطرة، وخلال السّنواتِ العشر الأخيرة باتتْ قضية المرأة وما يتبعها من قضايا التّربيةِ والطّفولةِ المواضيع الأهمّ التي استحوذتْ على اهتمامي بالإضافةِ إلى الشّعرِ والقصّةِ.

  ماذا تفيد الكتابة في عالم تسيطر عليه الحروب والقتل والظلم؟
 مهمّة الكتابةِ منذ نشوئها الأوّل مهمّة إنسانيةِ، تحملُ أهدافاً نبيلة تسعى لتحقيقِ عالمٍ خالٍ من الحروبِ والقتلِ والظّلم، عالمٍ ينعمُ فيه البشر-كلّ البشر- بحدّ مناسبٍ ومقبولٍ من العيش الهانئ والتّعايش السّالم والآمن، لذلك أرى أنّ الكتّابة الحقة والسّامية تقفُ في وجه كلّ ما هو غير إنسانيّ وغير نافع، وهي التي تكشفُ عن مكامن الشّرّ والظّلم في العالم، وحتى إن لم تستطع إزالةِ كلّ هذه الأمور فإنّها تستطيعُ على الأقل رسم واقع نبيل لدى البشر يستطيعون من خلاله التّنزّه في فضاءاتٍ يحلمون بأن يلمحونها على أرض الواقع.

  قديما قالوا: الشعر قيد الكلام، وعقل الأدب، وسوار البلاغة، ومعدن البراعة، ومسرح البيان، والآن ماذا يجب أن يقال عن الشعر العربي المعاصر؟
 يجب أن يُقال فيه كلّ هذا الكلام الذي ذكرته أخي الأستاذ بسّام، مضافاً إليها هذه العبارات:

والشّعر غذاء الرّوح، ومتنفس اليائس، وخليل الواجد، ونغمُ النفّس والقلب.

  كيف تنظرين إلى دور اللغة كإحدى اللبنات في نصوصك؟
 الّلغة هي العصبُ الرّئيس في النّصّ الأدبيّ، وهو المنطلق الأوّل الذي يستطيعُ من خلاله الكاتب البدءِ ببناءِ نصّه الذي يسعى أن يكونَ متكاملاً ونافعاً ومقبولاً لدى المتلقي، وبالنّسبةِ لي فقد ساعدتني الّلغة كثيراً وما تزال في كلّ ما أكتب، وخاصة بعد حصولي على إجازةٍ في الّلغة العربيةِ من جامعةِ دمشق. وقد بدأت حكاية صداقتي معها حينما دخلتُ الصّفّ الثالث الابتدائي حين أرسلني أهلي لتعلّم القرآن الكريم، والمثير في الأمر أنّ السّيّدة فلك داوود التي كانت تعلّمني تلاوة القرآن فوجئت بمقدرتي الفائقة على التّلاوةِ وعلى نطق الحروفِ بشكلٍ سليم، فكنتُ وأنا في المرحلة الابتدائية أكتب الرّسائل إلى أهلي وأطالعُ الكتب التي كانت تزخرُ بها مكتبة أخي عادل الذي كان وقتئذ طالباً جامعياً في جامعةِ حلب/ قسم الّلغة العربيةِ/ وكان مثابراً على اقتناءِ مختلف الكتب والمجلاتِ والجرائد التي تصدرُ في حينها، ومن ثمّ بدأت رحلة تعليمي للأبجديةِ الكرديةِ من خلال أفرادِ أسرتي.

  هل تكتبين باللغة الكردية؟
 نعم أكتبُ بالكرديةِ أيضاً وقد أتقنتها كتابة ونطقاً منذ فترةِ صباي الأوّل (وأقصدُ الكردية الفصحى) وفيما بعد صرتُ أكتبُ بالعربيةِ إلى جانبِ الكرديةِ وما زلتُ حتى الآن، وقد أصدرتُ مجموعتين شعريتين معاً مجموعة بالكردية وأخرى بالعربية، كما أكتبُ بالكرديةِ القصّة والمقالة كذلك، لأنّ اللغة الكردية هي المتنفس الذي أعيش به، ويعيش به كل كردي يعتز بانتمائه للعشق الكردي، ولأن اللغة هي الهوية التي نحافظ من خلالها على ماهيتنا واستمرارنا في الحياة، واللغة الكردية وكونها ما تزال إحدى لغات العالم الحية فإنها تشكل الهوية الأبرز لكل كردي في العالم.

  كيف تنظرين إلى العلاقة بين الكتاب والشعراء العرب والأكراد في سوريا؟
 للأسف حتى الآن العلاقة بينهم لم تصل إلى الحدّ الذي يطمحُ إليه الكاتب والشّاعر الكرديّ، على الرّغم من حدوثِ انفتاحٍ ثقافيّ وحضاريّ واضحٍ بينهم، إلا أنّ المسألة ما زالتْ مقتصرة حتى الآن على الكتّاب والشّعراءِ الكرد الذين يعيشونَ في المدن السّوريةِ الكبرى كدمشق وحلب والسّاحل السّوريّ، الذين يستطيعونَ التّواصلَ المباشرَ مع الكتّابِ والشّعراءِ العرب ويتمكّنون من توطيدِ علاقاتٍ طيّبةٍ معهم، أمّا الذين يعيشون في المدن والمناطق الصّغيرة يجدونَ صعوبة في ذلك على الرّغم من وجودِ علاقاتٍ بينهم ولكن ضمن نطاقٍ ضيّقٍ نسبيّاً بالمقارنةِ مع الذين يعيشونَ في المدن الكبرى، هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى أظنّ أنّ هناك تباطؤاً ملحوظاً من قبل كتّابنا وشعرائنا العرب تجاه الكتّابِ والشّعراءِ الكرد، وهذه مناسبة متاحة لندعو فيها الأخوة من الكتّابِ والشّعراءِ والمثقفين العرب السّوريين وغير السّوريين لفتح آفاق فكرهم وقلبهم ونفسهم أمام أخوتهم الكرد الذين يشاركونهم في أمور عدّة مصيرية مشاركة تاريخيةٍ عريقة.

  ما هي وظيفة الشعر، هل هي تقديم المتعة المعرفة، لعب دور سياسي أو اجتماعي، أم ماذا؟
 وظيفة الشّعر كلّ ما ذكرته بالإضافة إلى الولوج إلى النّفس البشرية ومواساة مكامن قلقها ويأسها وشغبها وتحويلها إلى هدوءٍ وأمل وسكينة، ومشاركتها في فرحها ونشوتها وابتهاجها، فالشّعر إن لم يتمكّن من الولوجِ إلى النّفس والقلبِ والرّوح لايمكن أن يسمّى شعراً، ولا يمكن أن يستمرّ ويحيا، فحتى بعض أنواع النّباتاتِ والحيواناتِ أثبتَ العلم تأثرها بسماع الشّعر والموسيقا وانتشاءها بهما.

  هل القصيدة العربية المعاصرة تعيش حالة من الفوضى، أم هي في أجمل حالاتها؟
 أظنّ أنّها تعيشُ حالة جديدة، حديثة ومعاصرة، وتحاولُ من خلالها أن تحافظَ على رونقها وشبابها الذي ظلّتْ محافظة عليه لقرونٍ طويلة، ولكن حالة الفوضى ربّما تأتي من العدد المتزايد لهواةِ الشّعرِ الذين يظهرون على السّاحةِ الأدبيةِ ويحاولون أن يمهروا بصمتهم في جدار معبده، حتى يبدو الأمر وكأنّ الشّعرَ يعيش في فوضى وضجيج، ولكنّي أظنّ أنّ المسألة هي البحثُ عن الأفضل، وتقديم صورٍ وتعابير لم يألفها شعراء من قبلهم.

  الكثير من النقاد لا يعترفون أبدا بقصيدة النثر، لماذا برأيك؟
 أخي الأستاذ بسّام، أعتقدُ أنّ نجاحَ أيّةِ قطعةٍ شعريةٍ، منظومةٍ كانت أم منثورة يعتمدُ بالدّرجةِ الأولى على عاملي الكلمة الصّادقة والملائمة للنّصّ الشّعريّ وعلى المعنى المؤثّر الذي يهزّ المشاعر والأحاسيس من الأعماق، وينعشها بالنّشوةِ والأمل، وإذا استوفي الشّاعر هذين الشّرطين نستطيعُ أن نقول عنه إنّه أبدعَ، وقصيدة النّثر صارت اليومَ أمراً واقعاً، وحقيقة لا يمكن لنا تجاهلها، لأنّها وكما أشرتُ في مناسبةٍ سابقة بأنّها أضحتْ أحد متطلّباتِ العصر، وتجذبُ إليها العشّاق والمهتمين من كلّ حدبٍ وصوب.

وعلى كلّ حال لهؤلاء النّقاد آراؤهم التي علينا أن نحترمها ونقدّرها.

  النقاد يطلبون من القاص أو الشاعر أن يلتزم بقوانين معينة على الرغم من أن الأدب لا يمكن وضعه في قوالب جاهزة.. أنت ككاتبة وشاعرة هل تلتزمين بآراء النقاد؟
 في الحقيقة أحبّ كلّ أنواع الشّعر وأحترم كلّ المدارس النّقدية لأنّني أكتبُ القصيدة المنظومة والموزونة وأعشقها عشقاً كبيراً لأنّها تهزني من الأعماق وتطربُ فكري وروحي، ولأنّها تزركشُ الحسّ الشّعريّ بإيقاعٍ موسيقيّ منعش، وراحةٍ نفسيةٍ كبيرة، وتدعمه بشعورٍ صادق يلامسُ القلبَ والنّفسَ مباشرة من دون وسيط، ولكنّني لستُ ضدّ قصيدةِ النّثر، بل أكتبها، وقد أصدرتُ مجموعة شعرية بالكردية موزونة ومنظومة، ومجموعة بالعربية منثورة وحديثة، ربّما لأحقّقَ بعض التّوازن بينهما، وأشبعَ رغبتي الجامحة لكتابةِ الشّعر بنوعيه المنظوم والمنثور.

  الحركة النقدية في سورية كيف تقيمينها، هل هي حركة نزيهة، أم حركة نقد همها وأهمها المجاملة والمديح؟
 اسمح لي أخي الكريم أن أتوقفَ عند مفهوم النّقدِ وقواعده قبل البدءِ بالإجابة على سؤالك واسمح لي أن أستقيها من مقالةٍ لي كنتُ نشرتها سابقاً بعنوان (كيف نفهمُ الحرّية في مجالِ النّقد):

في التّعريف العام للنقد أنّه الوسيلة التي من خلالها نميّزُ حسن الشّيء من رديئه، إيجابيّه من
سلبيه. أمّا مجالاته فتتعدّدُ وتتشعّبُ لتشملَ كافة جوانب الحياة، وكافة شرائح المجتمع
وطبقاته. ومن خلاله نتمكنُ من الإحاطة والإلمام بأمور مختلفة كنّا نجهلها في الموضوع الذي بين يدينا، ونستطيعُ التوصّل إلى الغرض المراد منه. وبذلك يُعدّ النقد المرآة الصّادقة التي تعكسُ كلّ ما هو جيّدٌ وصحيح، وتطرحُ ما هو رديء وفاسد.

والنّقد وكونه يُعتبر علماً من العلوم، وجنساً فنياً لا يُستهان به فقد استند إلى قواعد وأصول لا بدّ لكلّ مَنْ يحاول ويرغبُ في الإبحار في خضمّه أن يكون ملمّاً بأكبر قدر منها إلى جانب ضوابطه التي ترقبُ مَنْ يتعامل معها وترصد تحرّكاته والتي تتلخّصُ في:
 أوّلاً: امتلاك الموهبة النقدية القادرة على تحمّل المسؤولية.
  ثانياً: التّمحيص والتدقيق في اختيار المواضيع المعنية بالنّقد والدّراسة.
 ثالثاً: الموضوعية وأعني بها العقلانية والتعقل في تناول الموضوع المراد انتقاده ولكن هذا
لا ينفي دور العاطفة ولا يهملها بل ما أقصده هو التوفيق بين الجانبين معاً: العقليّ أو العقلاني والرّوحيّ أو العاطفي فحينما نطالع مؤلفاً ما فإنّ عاطفتنا تشاركُ عقلنا في الحكم عليه سلباً كان أم إيجاباً. ومن خلال ذلك نستطيعُ أن نحقق الغرض المرجو منه ونتوصّلَ إلى أسمى أنواعه بكلّ معانيه وقيمه المسمّى بـ(النقد البنّاء والهادف) والنقد الذي لا يحققُ الهدف منه لا يُعتبَرُ نقداً، والذي لا يسعى لتحقيق أهدافٍ لا يُعتبر هدّافاً ولا بنّاءً والهدف منه يعني:

أوّلاً: تعريف المنقود أو المنتَقَد بمواطن الخطأ والصّواب في نصّه.

ثانياً: تنبيه القارئ أو المتلقي إلى جوانب لم يستطع ملامستها أو فهمها في متابعته للموضوع
المطروح وإحاطته بمعلوماتٍ أوّلية وهامّة تحفزه إلى قراءاته ومشاهدته.

ثالثاً: إثارة انتباه المنتقد للعثرات التي قد تعيقُ مسيرة تقدّمه وتطوّره.

والأمر المحزن حقاً هو محاولة البعض الغوص في يمّ النقد وهو شبه جاهل بأصوله وقواعده
المفترض الالتزام بها لذلك نجده إمّا قرأ مؤلفاً أو كتاباً أو تابع مشهداً تلفزيونياً أو مسرحياً
لا مسَ حسّه أم لم يلامسه، ودغدغ شعوره وفكره أو لم يدغدغ نجده يطلقُ العنان لقلمه الأخرس ومزاجه الخاص ليحكما على موضوعه، فإمّا أن يسهب في ذكر محاسنه ومزاياه لدرجة المبالغة أو يتفنّن في تعداد مساوئه بشكل يخالف المنطق والعقل متناسياً بذلك أموراً عدّة يجب اتباعها في نقده هذا ومن أبرزها:

سلامة الشّعور، وصوابُ التفكير، واستخدام العقل، والعاطفة التي تتجاوب مع هذا العقل وتسايره فلا يُعقل أن يعرض كتابٌ أو مؤلف أيّاً كان موضوعه وأيّاً كانت محاوره وركائزه من دون أن يحمل في طيّاته مفاهيمَ وفكر وقيم تهمّ الإنسان والمجتمع ككل.

وهذا لا يعني أن يكون أحدنا متخصّصاً في المجال النقدي الذي يتناوله فليس بالضّرورة أن ينتقد الشّعر مَنْ هو شاعر، والقصّة من هو قصصي والفلسفة من هو فيلسوف...إلخ ولكن من المتفق عليه ولعدم الوقوع في شرك التعصّب والنظرة الضّيّقة للأمور أن يكون ذوّاقة للمجال النقدي الذي يبحرُ فيه، وملمّاً بأصول وقواعد النقد العامّة.

من هنا نجدُ أنّ الناقد الحق الصّادق هو من يعرّف المنقود بمواطن الخطأ لديه بطريقة أدبية،مهذبة يراعي فيها مشاعره فلا يوقعه في قاع الإحباط والسّوداوية معتمداً على الأدلة المقنعة، ومرتكزاً على قواعدَ سليمة وآراء صحيحة، مستندة إلى اليقين ومنطلقة من الضّمير الحيّ اليقظ.

أمّا بالنّسبة للمشهدِ النّقدي في سوريا فأظنّ أنّه لايقلّ سوداوية عن عموم المشهدِ النّقدي في العالم العربيّ وفي العالم الكرديّ، وحتي في عموم الشّرق، لأنّنا لا نعيشُ أزمة كتّابٍ ولا أزمة شعراء ولا أزمة فنّانين إنّما نعيشُ أزمة نقاد، نحن بأمسّ الحاجةِ إلى الاتفاق على الصّيغةِ السّليمةِ للنّقدِ الذي ينطلقُ من بنيةِ الصّدق وعدم المحسوبية والمجاملة، نقدٍ حقيقيّ يلغي من قاموسه مفرداتٍ تحملُ في طيّاتها معاني التّجريح والإهانة والإساءة للآخر المنقود، ومسح الجوخ (كما تقول العرب)، وعلينا أن نعترفَ بأنّ النّاقدَ الحقيقيّ نادر الوجودِ في عالمنا، أمّا هؤلاءِ الذين يظهرون بين الحين والحين، ويشهرون أقلامهم التي يتآكلها الصّدأ من كلّ الجهات، يتهجّمون على هذا ويسبّون ذاك، ويتخبطون في دروبٍ لا صلة أخلاقية وأدبية تجمعهم بالنّقدِ والأدب، فهم وفي العرفِ العامّ للنّقد يعتبرون منتقدين، هزليين، لا ينتمون إلى فنّ النّقدِ الحقّ الذي يُعتَبَرُ من أسمى أنواع الفنون والأدبِ، بل إنّهم لا يخجلون من الإشهار بنسبِ المنقودِ أو شخصيته أو عائلته، والمصيبة الأكبر أنّهم يزدادون إيذاءً وإيلاماً كلّما وجدوا مَنْ يصفقُ لهم من ضعافِ النّفوس أمثالهم، فيصدّقون أنّهم فعلوا أمراً عظيماً، ولكن علينا ألا ننكرَ بعض النّقادِ الذين يحترمونَ أقلامهم ومقالاتهم النّقدية (على الرّغم من ندرتهم) لأنّهم في الأصل نقاد حقيقيون يمتلكون ملَكة النّقدِ والأدب، وهؤلاء نحترمهم ونقدّرهم ونتمنّى أن تكثرَ السّاحة الأدبية والنّقدية من أمثالهم.

  قصيدة النثر بدأت وبشكل واضح بالانحسار أمام شعر التفعيلة، لدى الكثير من الشعراء العرب، ماذا تقولين في ذلك؟
 أعتقدُ أنّ قصيدة النّثر لم تبدأ بالانحسار عند هؤلاء الشّعراء، وهم يثابرون على كتابتها ولكن ربّما ولامتلاكهم لملكةِ الشّعر بشكلٍ سليم وقويّ يتوجهون نحو شعر التّفعيلة لينظموه إلى جانب الشّعر النّثريّ وذلك إرضاءً لرغباتهم المندفعة نحو الشّعرِ بكلّ أنواعه، أو لاقتناعهم بأنّ الشّعرَ يظلّ شعراً منثوراً كان أم موزوناً، وهذا أمرٌ سليمٌ ومقبولٌ في اعتقادي ما دامَ الشّاعرُ يمتلك المقدرة الكافية على نظم الشّعر بأنواعه المختلفة، لأنّه يظهر بين الحين والحين من الشّعراءِ مَنْ يهاجم القصيدة المنظومة ويتهمها بفقدان الصّدق والعاطفة كونها مقيّدة بضوابط وقواعد تتحكّمُ بها وتفقدها عفوية الشّعر التي يجب أن تتوفرَ في كلّ قصيدةٍ، ولكنّ ربّما يكون هذا الشّاعر ومَنْ يدعمه عاجزاً على نظم الشّعرِ الموزون.

  هل صحيح أن قصيدة النثر لا تنتمي إلى الشعر لغويا وفكريا وإيقاعيا؟
 أرى أنّ هذه المقالة تتجنّبُ الصّحة والصّواب، لأنّ قصيدة النّثر أثبتت وجودها منذ زمنٍ بعيدٍ، وما زالتْ تنعمُ بهمساتِ عشّاقها الذي يرجون ودّها وغنجها، وعددهم في تزايدٍ مستمرّ، وكما أشرت قبل قليل، ليس مهمّاً أن نكتبَ شعراً موزوناً أم منثوراً، المهمّ في الأمرِ أن نحققَ التّوازن المفترضَ والمفروضَ بين عنصري الكلمة الصّادقة والنّبيلة والمعنى السّامي والرّفيع، العائمين أصلاً في دفءِ الحبّ والإحساس الصّادق.

  قال الشاعر اللبناني يوسف الخال: بالنسبة إليَّ شخصيا هناك شعر كثير يكتبه(شوقي أبي شقرا) لا افهمه، السؤال هنا: إذا كان احد الشعراء الرواد يعترف بان الشعر الحديث غير مفهوم وليس شعرا، فكيف بالقارئ العادي أن يفهمه؟
 على كلّ حال هذا رأيه الخاصّ الذي لابدّ لنا من احترامه وتقديره، ولكن كلاهما(يوسف الخال وشوقي أبي شقرا) كاتبان معروفان في أوساطِ الأدبِ العربيّ، ولكلّ منهما جمهوره الذي يعتزّ به وبما يكتبه.

أستاذ بسّام، أنتَ نقلتَ آراءَ المهاجمين لقصيدة النّثر، في الوقتِ الذي نجدُ فيه هجوماً عنيفاً على قصيدة التّفعيلة أو القصيدة الموزونة، وأرى أنّ هذه المعركة ليست وليدة اليوم بل ظهرت أولى بذورها (بالنّسبةِ للشّعرِ العربيّ) في العصر الأمويّ مع عمر بن أبي ربيعة الذي زعم مدرسة الشّعر الصّريح والفاضح،والتي وقفت بالضّدّ من مدرسةِ الشّعر العذريّ العفيف، ومع بداية العصر العبّاسيّ مع ظهور المتنبّي وأبي تمّام والبحتريّ وبشّار بن برد، وازدادتْ المعركة وطيساً مع أبي نواس الذي دعا علانية إلى استبدال المقدّمة الطّللية بمقدّمة خمرية (أيّ بدل الوقوف على الأطلال ووصفِ الظعائن، دعا إلى وصف مجالس الّلهو والطّربِ ووصفِ الخمرة، والبدء بالغزل ومفاتن المرأة)، ثمّ استمرّتْ هذه المعركة في العصور المتتالية حتى التي سميت بعصور الانحطاط العربيّ إلى أن وصلتْ إلى عصرنا الحاليّ، وأظنّ أنّها ستستمرّ ما دام روح الاستمرار مع الحياة والكون ينبضُ في فكر وقلبِ البشر.

  هل يستطيع الكاتب والشاعر أن يكون محايدا، ولا يلتزم بقضايا الجماهير؟
 الكاتب والشّاعر يكتبان أصلاً للجماهير ولقضايا الجماهير حتى وإن كانت كتابتهما ذاتية أو حتى تحكي قصّتهما الشّخصية لأنهما يعتبران جزءاً أساسياً من الجماهير، والفرق بينهما وبينها (أيّ الجماهير) أنّهما قادران على التّعبير عن مشاعرهما وأحاسيسهما ومشاعر وأحاسيس هذه الجماهير بمقدرةٍ ربّما لاتمتلكها هذه الجماهير.

  ما هي الأخلاقيات التي يجب على المرأة المبدعة أن تتحلى بها؟
 أعتقدُ أنّها الأخلاقيات ذاتها التي يجب على كلّ كاتبٍ وشاعر(رجلٍ) التّحلي بها لأنّ الأدبَ يظلّ أدباً سواء كُتِبَ بقلمِ رجلٍ أم بقلمِ امرأة، ولا يوجد فرقٌ بينهما، فالأحاسيس والمشاعرِ البشريةِ واحدة لدى كلا الجنسين (الأنثى والذكر) وكون الأديب مزيجٌ من الحسّ والشّعور بالإضافةِ إلى الفكر والعقل فإنّه يتطلّبُ أخلاقياتٍ يجب أن تتوفرَ في الجنسين معاً.

  كيف تقيمين النتاج الأدبي النسائي في الوطن العربي من شعر وقصة؟
 أعتقدُ أنّه نتاجٌ متميّزٌ وشفاف، من خلاله استطاعت المرأة أن تثبتَ ذاتها الأدبية وشخصيتها الفنيّة، وتساهمَ في تطوّرِ الأدبِ العربيّ وعلى تنوّعِ مواضيعه وقضاياه، بعد أن تمكّنتْ من رفع بعض القيود التي صنعتها قوانين العاداتِ والتّقاليدِ من حولها، حتى استطاعتْ أن تؤسّسَ النّواة السّليمة لأجيال من النّساءِ الّلواتي يرغبن في ولوجِ محرابِ الأدبِ والكتابةِ.

  ماذا ينقص المرأة لتبدع أكثر وأكثر؟
 ينقصها أوّلاً ثقة الآخرين بها ككائنٍ عاقل متمكّنٍ، قادرٍ على الخلق والإبداع في مختلفِ نواحي الحياةِ جنباً إلى جنبٍ مع نصفها الذي يكملها روحيّاً ووجدانيّاً وإنسانيّاً، وينقصها اعتراف المجتمعِ بها كفردٍ مالكٍ للرّوح السّامية المجبولةِ في نبع الودّ والعطاءِ اللامتناهي، والنّفس النّبيلة المعمّدة في يمّ الخيرِ والنّقاءِ، والعقلِ المدبّر القادرِ على تمييز خير الحياةِ من شرّها.

  ككاتبة وشاعرة، أي عالم تريدين أن تضعيه في أوراقك؟
 عالم البشرِ الذين يحلمونَ مثلي بعالمٍ يجدرُ بكلّ الكائناتِ وخاصة البشر أن يعيشوه، وينتشوا بنعمه وأفضاله.

  لو عاد بك الزمن إلى الوراء إلى بداياتك هل كنت تريدين أن تتحولي إلى شاعرة؟
 نعم، لأنّني ولدتُ شاعرة، وسأعيشُ شاعرة، وأتمنّى أن أموتَ وأنا شاعرة، لأنّ الشّعر خصوصاً والأدب والكتابة عموماً هم رفاقُ دربي الأوفياءِ الذين لم يتخلّوا عنّي للحظةٍ، وإليهم يعودُ فضل استمراري في الحياةِ من خلال الإرادة القوّية والتّحدّي اللذين منحاني إيّاهما، بوساطةِ القلم الذي أعتبره صديقي الصّدوق الذي لم يخذلني يوماً كلّما طلبتُ إليه العونَ والمساعدة.

الشّعر غذاء الرّوح، ومتنفس اليائس، وخليل الواجد، ونغمُ النفّس والقلب.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى