السبت ٢ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
جدلية الحلم والواقع
بقلم إبراهيم سعد الدين

في زمن القهر والجوع والموت غير المبرر

قراءة نقدية في مجموعة (كرْنفال المدينة المَنْسِيَّة) للقاص الجزائري عمار بولِحْبال

في كلمته الموجزة التي يُصَدِّرُ بها مجموعته القصصية يقولُ الكاتب: "كرنفال المدينة المنسية، هو كرنفالٌ لرجلٍ أحَبّ غُصْنَ الزَّيتون حتى الثمالة ورفعه شعاراً لحياته، والمدينة المَنْسِيّة هي مدينة أسطورية أحببتُها وأنا أرضعُ من ثديِ أمّي، وحين كَبُرْتُ بَحَثْتُ عنها فلم أجِدْها.....".

ما أقسى أن يفقدَ الإنسانُ حُلْمَه الّذي سَكنَ مُخيّلته جَنيناً، وكَبُرَ في وجدانه منذ البواكير..!! أيُّ فراغٍ موحشٍ مُرَوّعٍ يُحيقُ بنا، وأيُّ تيهٍ تضيعُ فيه خطانا بحثاً عن حُلْمنا الضائع أو المُضَيّع..؟!.

عَبْرَ رِحْلةٍ إبداعيّة تستغرقُ اثْنَتَيْ عشْرَةَ قصّة قصيرة يمضي بنا عَمّار بولِحْبال مُتََجِوّلاً في شوارعِ مدينته الحُلم وأزقّتها ودورها المُغلقة على جوعها وانكسارِها وحُزنها العميق، مُبْحراً بنا في غياهِبِ التاريخِ، مازجاً بين الحُلمِ والواقع، والحاضرِ والماضي، والحدث التاريخيّ والأسطورة، وتفاصيل الحياة اليوميةِ وسِحْرِ الحكاياتِ القَديمة. كُلُّ هذا ينصهرُ في مَزيجٍ قصصيٍّ مُحْكَمِ البناءِ جَليّ الصّياغة، ينسجُ القاصُّ أحداثه بمهارةٍ واقتدار، ويَسْرِدُ الوقائعَ بصِدْقٍ وتَجَرُّدٍٍ ومعايشةٍ حميمةٍ ووعْي تاريخيٍّ يصلُ الحاضِرَ بالماضي، ويطرحُ الأسئلة المُعَلّقةَ في الضمائر بجسارةِ شاهِدِ عيانٍ وبصيرةِ عَرّافٍ يسْتقرئُ الطّالعَ ويرى نُذُرَ الغدِ الآتي في إرهاصاتِ اللحظة الرّاهنة.

في أولى قصص المجموعة (يوميّات رجل مجنون) تصحو المدينةُ ـ الغارقة في غياهبِ صَمْتِها ـ على دقّاتِ طبولٍ ونداءِ صَوْتٍ جهوريّ لغريبٍ يَعْرضُ أولاداً للبيع يوماً، ثُمّ يعرضُ امرأةً للبيع في يومٍ ثانٍ، ويعرضُ أرضاً للبيع في اليومِ الثالث، وفي النهاية يعرض الجميع للبيع: الأولاد والمرأة والأرض. هذا المجنون مجهول الكُنيةِ والهويّة يكسرُ قشرة السكون الهَشّة التي تحيطُ بالمدينة، ويخترقُ حاجز الصّمتِ الوهميّ الذي يتوارى خلفه الناس، ليُطلقَ علاماتِ استفهامٍ وتَعَجّبٍ ينشغلُ بها أهل المدينة هرباً من مواجهة الفساد الذي ينخرُ كالسُّوسِ في أجسادهم وأرواحهم. ويختفي المجنون ـ مثلما ظهر ـ فجأة، مُخلّفاً وراءه طائفةً أخرى من الأسئلة المُعَلّقة عن مصيره.

وفي قصة (آخر الحكايا) يَقَعُ في هوى عِشْتار ـ فتاة المدينة رائعة الحُسْن التي عشقت المدينة حتى النُّخاع ورفضت أن تدخل قصر هارون الرشيد، مؤثرةً أن تعيش حُلماً في خيالِ أهلِ المدينة ـ ثلاثةُ عُشّاقٍ فِرْسان، لكُلٍّ منهم حكايةٌ موجعة، لكنها تعتذرُ لهم وتسْتثيرُ فيهم نخوةَ الفرسان لإنقاذِ المدينة من قبضةِ الفسادِ والطُّغيان ففي مداواة جُرْحِ المدينة شفاءٌ لجراحهم وأوجاعهم. وتقفُ على هضبة المدينة تودّعهم على أمل لقاءٍ في زمنٍ آخر، في الوقت الذي يُصدرُ هارون الرشيد أمراً بإلقاء القبض على عشتار ومن معها.

وفي قصة (انتحار فوقَ أسوار المدينة) يظلُّ العَمّ عبد اللّه هو ورفيقة عمره ينتظران عودة ابنهما الطبيب الغائب الذي يطول غيابه ويطول انتظارهما حتى تمرض الأمّ ويعجز الأطباء عن تشخيص عِلّتها، ويعود الطبيب من غُربته ليجد أمه قد فارقت الحياة وحبيبته قد هجرته وتنكرت لعهدها معه، فلا يحتملُ الطبيب مواجهة واقعه ويموتُ انتحاراً تاركاً لأبيه مرارةَ الحُزن وثقلِ الوحدة والفجيعة.

وفي قصة(كرنفال المدينة المنسيّة) تدقُّ أجراسُ المدينة، وأصواتُ المارّة وحركة المَدّاحين وبائعي الكلمات تخترقُ عنان السّماء، فشاعرُ الفقراءِ والتُّعساءِ يُحاكمُ بتهمة اغتيالِ هارون الرّشيدِ بكلماتِ أشعاره العاصفة. ويُحْكمُ على الشاعر بالموتِ وتعليقِ رأسه على بوابة المدينة، وإقامة الأفراحِ في كرنفالٍ عظيم تتحَدَّثُ عنه شهرزاد في حكايات ألف ليلة وليلة.

وفي قصة (سفينة الضّياعْ) تتوهُ خُطى الشّابّ ـ الذي وصلَ إلى أعلى مَراحلِ التعليمِ ونالَ أرفعَ الشهادات ـ في مُدُنِ الغُربةِ التي هاجرَ إليها بعد أن عجزَ وطنه عن تأمينِ فرصةِ عملٍ وِكِسْرَةِ خُبْز له.

هكذا تتفاوتُ مصائرُ الأبطالُ في هذه القصص ما بين الجنونِ، والحَبْسِ في غياهبِ السجون، والانتحارِ على أسوارِ المدينة، والموتِ على أيدي جلاوزة الحُكَّامِ والفاسدين، والاغترابِ الأبديّ عن الأهلِ والوطن. فنحن في مدينة فَجّ الأخيارْ؛ مدينةِ الحُلْمِ الذي ذوى، والقَلْبِ الذي انسحَقَ وتفتّتَ بين رَحَى الزمنِ ـ زَمَنِ القَهْرِ والجوعِ والمَوْتِ غَيْرِ المُبَرّرْ. مَدِينة لا تُنْبِتُ غيرَ الحَصْرمِ والصّبَّار، ولا تُثْمِرُ سوى المرارةِ واليأسِ والانكسارْ. نهاياتٌ فاجعةٌ وأليمة لمُقَدّماتٍ بائسة وتعيسة، فالشّوْكُ حصادُ الشّوْكِ والدَّمعةُ بِنْتُ الأحزانْ. حتى أفراحُ هذه المدينةِ زائفةٌ ومُصطنعةٌ وخاويةٌ من كُلّ معنى إنسانيٍّ، لأنها كرنفالاتٌ قَوَامُها مباذِلُ الخاصّةِ وتَهَتُّكُ المَحظيّاتِ والجواري في قصورٍ مُغلقةٍ على فسادها ومظالمها ودسائسها وخَدَرِ حكاياتها الغريبة. بينما عامّةُ النّاسِ خارج ـ القصْرِ ـ عرايا وجائعون تنقضي حياتهم في رَكْضٍ يائسٍ خلفَ لُقمةِ عَيْشٍ لا تَسُدُّ رمقاً أو تُشْبِعُ جوعاً.

هكذا يرسِمُ لنا عَمّار بو لِحْبال ملامحَ هذه المدينة المَنْسيّة، ويَنسِجُ من جدَِليَّةِ الحُلْمِ والواقعِ خيوطَ المأساةِ في حكاياته التي تجيءُ مَزْجاً فريداً من شفافية الحُلْمِ وجفاءِ الواقعِ المُعَاشِ وخشونته، ونسيجاً يتداخلُ فيه التاريخُ بشخوصه ووقائعه ورموزه مع أحداثِ الحاضرِ ومشاهد الحياة اليوميّةِ وهمومها وأحزانها الجاثمة على الصّدور. وللرَّمْزِ في هذه المجموعة القصصية مكانة مرموقة، ليسَ فقط من حيث شيوعه في مُعظمِ القصصِ أو جميعها بغَيْرِ اسْتِثْناء، وإنّما أيضاً لمقدرة الكاتب المُدهشة في توظيفه على المستوى الفَنّي والمعْرفي والجمالي. والسِّمَةُ اللاَّفتةُ للنَّظرِ ـ هنا ـ هي أن الرَّمز الواحد يتشَكَّلُ ـ أحياناً ـ بأكثرِ من وجهٍ وأكثرِ من دلالة مع اختلافِ سياقِ القَصّ. فمدينة فَجّ الأخيار هي أنموذَجٌ حَيٌّ ومُعاصر لكُلِّ فِجاجِ الوطنِ وبقاعه، بل هي رَمزٌ لكُلِّ مدينةٍ عربيّةٍ مُسْتباحةٍ بالجورِ والعَسَفِ والتَّجاهُلِ والنِّسيانْ. والشاعرُ ـ في قصة (كرنفالِ المدينة المَنسِيّة)ـ هو لِسَانُ الفقراءِ وصوْتهم الناطقُ بما يَحْتَبسُ في صدورهم. وفي قصة (آخر الحكايا) تتبدَّى لنا عشتار رَمْزاً للخِصْبِ والجمالِ والشفافيةِ والعذوبة في عالمٍ خلا ـ كما يقول شاعرنا الرّاحل صلاح عبد الصبور ـ من الوَسَامة، وطبعَ القلوبَ والنفوسَ والوجوهَ بالتعتيمِ والجهامة. هي رَمزٌ أقربُ في دلالته إلى المَدينة ـ الحُلم التي تُشعلُ جذوة الخيالِ وتُلْهِمُ الشُّعَراءَ وتشْحذُ هِمَمَ الفرسانِ وتغرسُ معاني البطولةِ والفِداءِ والتضحيةِ في نفوس العامّة. في حين تَرمُزُ شهرزاد إلى وساوسِ الشَّرّ والنميمة. وتعودُ ـ شهرزاد ـ لتطالعنا في قصة "كرنفال المدينة المَنْسِيّة" كرَمْزٍ للجمالِ الزّائفِ والحُلمِ الكاذبِ والفَرَحِ المُخَدِّرْ. ثُمّ تتشكّلُ مرةً ثالثةً في صورةِ الفَنِّ الذي يكشفُ الحقيقة ويَحْمِلُ الرسالة في (حكاية رجُلٍ يبحثُ عن غُصن الزّيتون).

غيرَ أنّ عَمّار بولِحْبال ـ شأنه شأن كُلّ المواهبِ الإبداعية الأصيلة ـ لا تَسْتَوْقفه اللّحظةُ الرَّاهنة، ولا تَسْتغرقه أحداثُها الفاجعةُ وأشباحُ يأسها المُخَيِّمة على النفوس، وإنما تهديه بصيرته النّافذة وحسّه الإنسانيّ ووعْيه بحركة التاريخ إلى إبصارِ بصيصِ الضّوءِ في آخرِ النّفقِ المُظلم، والتماسِ خيوطِ الأملِ وبوارقه خلف حُجُبِ الغَيْمِ الكثيفة، ذلك أنَّ الأشياء ـ كما يقول برتولد بِريخْت ـ على ما هي عليه، فإنها لن تبقى على ما هي عليه. كذلك من قلبِ هذه العَتْمةِ، ومن عذاباتِ البسطاءِ وتضحياتهم وجراحاتهم النازفة ـ دَماً وألماً وجوعاً واغتراباً ـ تكمنُ شرارةُ الخَلْقِ الجديد وتتشكّلُ ملامحه في غَدٍ مُشْرقٍ بشَمسِ العَدْلِ والكرامةِ والأمْنِ والإشْباعِ والطُّمَأنينة. ونحنُ نتلمّسُ هذه الإرهاصاتِ في ثنايا حكاياته من خلالِ ملاحمِ الصّمود الأسطوريِّ وإرادة التّحدِّي والإصرارِ على التَّشَبُّثِ بالأملِ رغم كُلّ مظاهرِ التيئيسِ والإحباطْ، ونتَحَسَّسُها في خواتيم القصص نجوماً مُتناثرةً تومضُ على اسْتِحْياءٍ في سماءٍ بلا قَمرْ. فصَوْتُ الرَّاوي يتردَّدُ بين الشَّكِّ واليقين ـ بالأسئلة المُعَلّقةِ في ضمائر الكُلّ: زَمنُ الفَرَحِ الغائب بين مخالبِ الجوعِ والعُرْيِ يتَهَيَّأ لاجتياحِ مساحةِ القلوب. غداً سيكون زمنٌ آخر، يُضيعُ كرنفالَ السعادةِ بإعدامِ شاعِرِ التُّعساءِ أمامَ أعْيُنِ مولانا، فهل سيأتي هذا الغد..؟! (قصة كرنفال المدينة المنْسِيّة). والرجل القادمُ من أقاصي المُدن يبحثُ عن حَبّةِ بُرتقالٍ وغُصْنِ زيتون يقولُ في النهاية: سأعودُ أدراجي إلى أقاصي أخرى أبحثُ عن غُصْن الزّيتون في رحلةٍ قَمَرِيَّةٍ مرسومةٍ على أجنحةِ الزَّمَنِ العادل. (حكاية الرجل الذي يبحثُ عن غُصنِ الزَّيتون). والعجوزُ التي غزا الشّيْبُ رأسها وتكاثرتْ عليها المِحَنُ والخطوب تقول في خاتمة القصة: زوجي سقطَ شهيداً في ساحة الوغى، رفاقُه تنكَّروا له، وابني فَلْذة كبدي تنكَّر لي.. وحين انطلقَتْ الحافلة به من هنا قُلتُ له: سأبقى أنتظرُ عَوْدتك. وتمضي الأيّامُ مُتثاقلةً وأنا أعيشُ الانكسار.. الانهيارَ.. الضّياعْ.. ولن أبْرَحَ هذا المكان حتى يعود. سأبقى حتىّ يقتُلني الانتظارْ. (قصة الانتظار).

هكذا يسوقُ إلينا عَمّار بو لِحْبال نبوءته تصريحاً حيناً ورََمزاً وتلميحاً حيناً آخر: لا تَهِنوا ولا تَحْزَنوا.. فحُزن اليَوْم عَشاءٌ سَيِّء لإفطارٍ طَيِّّبْ. وغَدُ الفقراءِ والبسطاءِ والمُنكسرينَ آتٍ لا رَيْبَ فيه مهما تسَرْبلَ الحاضِرُ بأرديةِ اليأسِ أو تقنَّعَ بكرنفالات الفرحِ الزّائفْ. وهو يَزُفُّ إلينا نبوءته بصوتٍ مُتَميّز النَّبْرة، ولُغةٍ تعبيريّةٍ رائقةٍ ومُصَفّاة، وخيالٍ خِصْبٍ خَلاّق، وأسْلوبٍ للقَصِّ يَعتمدُ التَّقريرَ والمُباشرة لكنه مليءٌ بالمَعنى، متوهّجٌ ومضيءٌ بالرمزِ والدّلالة، يسْتدعي إلى الذاكرة أصوات الرّواةِ الذين كان في حكاياتهم القديمة ذلك التشويق والإمتاع والمؤانسة، وفي عوالمها وشخوصها ذاكَ الدّفء الآسر والسِّحْر الأخّاذ، رغمَ أجوائها المُشَبَّعة بالحُزنِ والوَجَعِ والتّشَتّتِ والاغتراب، ورغمَ ما يُحيقُ بأبطالها من مصائر مجهولةٍ ومُفْجعة، فمن بوتقةِ الألم والمعاناة تنبثقُ ينابيعُ الفَنِّ الصّادق والإبداعِ الأصيلْ.

قراءة نقدية في مجموعة (كرْنفال المدينة المَنْسِيَّة) للقاص الجزائري عمار بولِحْبال

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى