الخميس ٧ نيسان (أبريل) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

في فضاءِ الفكْر - الكِبْرُ والتّواضعُ

الكِبْرُ لغةً: العَظَمَةُ والتَّجَبُّرُ، كالكِبْرِياءِ، وقد تَكَبَّرَ واسْتَكْبَرَ وَتَكابَرَ، والتَّكَبُّرُ والاسْتِكْبارُ: التَّعَظُّمُ، والكِبْرُ بالكسرِ: اسمٌ من التّكُّبرِ.

والكِبْرُ اصطلاحاً: جاءَ تعريفُ الكبْرِ في حديثِ النّبيّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ إذْ قالَ: ((الكِبْرُ بطرُ الحقِّ، وغمْطُ النّاسِ)).

وقالَ الزَّبيدي: (الكِبْرُ: حالةٌ يتخصَّصُ بها الإنسانُ من إعجابِه بنفسِه، وأن يَرى نفسَه أَكْبَرَ من غيرِه)
وقيلَ الكِبْرُ هو: (استِعْظامُ الإنسانِ نفسَه، واستحسانُ ما فيهِ من الفضائلِ، والاستِهانةُ بالنّاسِ، واستِصغارُهم، والتَّرفُّعُ على مَن يَجبُ التّواضعُ له).

أمّا التَّواضُع لغةً: فهوَ التّذلُّلُ، يُقَالُ: وضَعَ فُلانٌ نَفْسَهُ وضْعاً، ووُضُوعاً بالضَّمّ، وَضَعَةً، بالفَتْحِ: أي أذلَّها. وتَوَاضَعَ الرَّجُلُ: إذا تَذَلَّلَ، وقيلَ: ذَلَّ وتَخاشَعَ.

والتَّواضُع اصطِلاحاً: هو (تركُ التَّرؤّسِ، وإظهارُ الخمولِ، وكراهيةُ التَّعظيمِ، والزِّيادةُ في الإكرامِ، وأن يتجنَّبَ الإنسانُ المباهاةَ بما فيهِ مِن الفضائلِ، والمفاخرةُ بالجاهِ والمالِ، وأن يتحرَّزَ مِن الإعجابِ والكِبْرِ).

أيُّها الكِبرُ..

هل أنت تاجٌ على رؤوسِ المتكبِّرينَ تنتشِي حينَما يَشمخُون برؤوسِهم نحوَ السَّماءِ؟

هل تشعرُ بالفخارِ حينَما يتَباهَى المتباهُون بكلماتِهم، وكأنَّهم من عالمٍ آخرَ، وهم يُلْوون شفاهَهم ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشِّمالِ، وكأنّ الكلماتِ تنسابُ من أنوفِهم لا من أفواهِهم؟!

هل أنتَ شيمةٌ من شيمِ الكبارِ الّذين نفخَتْهم النِّعمُ كالطُّبولِ، فباتُوا فارغينَ لا يحملُون شيمةً من شيمِ البشريَّةِ؟!
أيُّها الكبرُ: إنّك تُغوي الفارغينَ وترفعُهم من حقيقتِهم الوضيعةِ؛ ليسترُوا عوراتِ انحطاطِهم!

إنّك ترفعُ الرُّؤوسَ الخاويةَ من أيِّ فكرٍ إنسانيٍّ إلى السَّماءِ؛ لأنَّها لا تملكُ حقيقةَ انتمائِها إلى الأرضِ!

إنّكَ تأسرُ ألبابَ النُّفوسِ الآسنةِ الّتي لا تَرى أشعَّةَ الشَّمسِ إلّا من قممِ الجبالِ، وتتَعامَى عن رؤيةِ شعاعٍ من النُّورِ تبثُّه الأرواحُ النَّقيّةُ من البشرِ!

فيردُّ التَّواضعُ في هدوءٍ:

دعْهم أيُّها الأديبُ يَهيمُون في ضلالِهم، فكلَّما شمخَتْ شجرةُ الحورِ برأسِها نحوَ الغيومِ، كانتْ عُرضةً للعواصفِ كي تمحقَها من الجذورِ!

كلّما اشرأبَّتِ السَّنابلُ الفارغةُ برؤوسِها فوق سنابلِ الحقولِ، كانتْ أسرعَ للهلاكِ؛ حينَما تكسرُ أعناقَها الرِّياحُ!

كلّما حلّقَ طيرٌ مغرورٌ في أعالي الفضاءِ، هزمتْهُ هوَّةُ الشّموخِ، وسقطَ وهو يلفظُ أنفاسَهُ الهوجاءَ!

مهْما ثارتْ أمواجُ البحرِ وهاجَتْ في عنفوانِ ثورتِها، سرعانَ ما تنهزمُ أمامَ سكونِ الطّبيعةِ ورقادِ الرِّياحِ!

لا تقلَقْ يا صديقِي! فيراعُكَ رغمَ صمتِه أقْوى من أزيزِ الرَّصاصِ، وقصبتُكَ رغمَ لينِها وهشاشتِها، أحكمُ من سيوفِ حقدِهم على البشريَّةِ.

وإذا كانَ للكِبرِ جولةٌ، فللتَّواضعِ صولاتٌ وجولاتٌ، وإذا كانَ للكبرِ منبرٌ، فلِصمْتِ التّواضعِ صوامعُ وجوامعُ، وإن كانَ للكبرِ لمعانُ الذَّهبِ، فللتَّواضعِ جواهرُ أعظمُ من أنْ تُقدَّرَ بثمنٍ أو تُسامَ بمالٍ!

لا تقلقْ يا صديقِي! فصفحَاتُ التّاريخِ حُبْلى بالشَّواهدِ والأوابدِ! قد يكونُ التّواضعُ ضعيفاً، وقد يكونُ الكبرُ جبلاً شامخاً، لكنّ حكمةَ اللهِ تقضِي بهزيمةِ القويِّ أمامَ ريشةِ الضّعيفِ، فقدْ تحطّمَ كبرُ وغرورُ فرعونَ أمامَ صمتِ وصبرِ مُوسى عليه السّلامُ.. ولقدْ سطعَ نجمُ يوسفَ عليهِ السّلامُ في الفضاءِ ذكاءً وحكمةً وجمالاً، وتحطّمت أساطيرُ فرعونَ، فأصبحَ يوسفُ عزيزَ مصرَ حينَما خاطبَ فرعونَ قائلاً: "لكي أنظمَ الزّرعَ والتّخزينَ، اجعلْني على خزائنِ الأرضِ، فأنا أستطيعُ حفظَها وعليمٌ بكيفيَّةِ تدبيرِها"، فأصدرَ فرعونُ قراراً بتعيينِ يوسفَ الصّدّيقِ عزيزاً لمصرَ، وبهذا جعلَ اللهُ محنةَ امرأةِ العزيزِ وما نتجَ عنها من سنواتِ السّجنِ سبباً لتمكينِ يوسفَ في الأرضِ..
وتقهقرَ كبرُ وغطرسةُ الرُّومانِ أمامَ حكمةِ وشجاعةِ وبطولةِ زنُّوبيا ملكةِ تدمرَ، فاندثرَ جبروتُ الرُّومانِ، وظلّتْ زنُّوبيا ملكةَ الحقِّ تتغنَّى ببطولاتِها الحناجرُ..

الكبرُ عواقبُه وخيمةٌ، والتَّواضعُ ثمارُه كنجومِ الثُّريّا، لا تُطفئُ لألأتَها عواصفُ المُتكبّرينَ مهما تطاولتْ أنوفُها إلى أعنانِ السَّماءِ! إنّ رعونتَهم في التَّطاولِ ليستْ إلّا رعونةَ ذلكَ الجبلِ الشّامخِ الّذي وصفَه ابنُ خفاجةَ:

وَأَرعَنَ طَمّاحِ الذُؤابَةِ باذِخٍ
يُطاوِلُ أَعنانَ السَماءِ بِغارِبِ

فلا تيأسْ أيُّها المفكّرُ، مهما أظلمَتِ اللّيالي، وطغَى الكبرُ على التَّواضعِ، لا تيأسْ حتّى وإن استطاعَ الكبرُ انتزاعَ رغيفِ الخبزِ من أحشائِكَ، فسوفَ يتقيّؤونَ رغيفَك بسمومِ غطرستِهم وتعاليْهِم على فقراءِ الأرضِ، ولا يَغرنَّهم تطاولُهم، ولو بلغُوا ذؤاباتِ الجوزاءِ، فسوفَ تتحطَّمُ كلُّ الأبراجِ العاجيَّةِ المزخرفةِ بالرّياءِ والخداعِ أمامَ صمتِ قصبتِكَ، وانصُتْ جيّداً إلى ما أبدعتْه قصباتُ المفكّرينَ في وصفِ الكبرِ والتّواضعِ:

عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم، قال: ((لا يدخلُ الجنَّةَ مَن كان في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من كبرٍ! فقالَ رجلٌ: إنَّ الرَّجلَ يحبُّ أن يكونَ ثوبُه حسناً، ونعلُه حسنةً؟ قالَ: إنَّ اللَهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ، الكِبرُ: بطرُ الحقِّ وغمْطُ النَّاسِ)).

الكبرُ يُورثُ البغضَ. فولتير

الكبرُ والإعجابُ يسلبانِ الفضائلِ و يُكسبانِ الرّذائلَ. بايرون
ما وجدَ أحدٌ فى نفسِه كبْراً إلّا من مهانةٍ يجِدُها فى نفسِه. عمر بن الخطّاب
أشدُّ العلماءِ تواضعاً أكثرُهم علماً، كمَا أنّ المكانَ المُنخفضَ أكثرُ البقاعِ ماءً. ابنُ المعتزّ
ندْنُو من العظمةِ بقدْرِ ما ندنُو منَ التّواضعِ. طاغور
لا يتكبّرُ إلّا كلُّ وضيعٍ، و لا يتواضعُ إلّا كلُّ رفيعٍ. مثل عربيّ
يمكنُ للإنسانِ أن يَصعدَ أعلى القِممِ، لكنْ لا يُمكِنُه البقاءُ فيها طويلاً. برناردشُو
إذا احتاجَ اللّئيمُ تواضعَ وتقرّبَ، وإذا استَغْنى تجبَّرَ وتكبَّرَ. سقراط
كيْ تُصبحَ سيّداً، ينبغِي أن تعملَ خادِماً. مثل لاتينيّ
مَن لم يتَّضِعْ عندَ نفسِه، لم يرتفِعْ عندَ غيرِه. مثل فليبينيّ
يختبئُ الغرورُ الشّديدُ أحياناً تحتَ لباسِ التّواضعِ الفائقِ. آنا براونيل جيمسُون
نعمْ! صدقتَ أيُّها التَّواضعُ بما رويتَه من حكَمِ الحكماءِ في علوِّ التّواضعِ وهلاكِ الكبرِ في أوحالِ الغرورِ والتّعالي المُزْري، فجعلْتَني أنطقُ بشيءٍ من الحكمةِ؛ لأقولَ:
الكِبرُ أكبرُ دليلٍ على الفراغِ الرُّوحيِّ.
الكِبرُ مرضٌ نفسيٌّ لا يخفِّفُ من حدّتِه إلّا كيُّ المَصائبِ والمِحنِ.

عجِبتُ لمَن يتباهَى بنفسِه كالطَّاووسِ، وينْسى أنّه لا يملكُ بعضاً من خصائصِ الطّاووسِ.

بينَ الكبرِ والتَّواضعِ تظهرُ معادنُ النّاسِ على حقيقتِها أمامَ فسحةٍ من النّجاحِ أو برهةٍ من الانكسارِ.

يمكنُكَ خداعُ البشرِ بكبريائِك المُصطنعِ، لكنّكَ لن تنجحَ في خداعِ أنوارِ الحقيقةِ.

قد يكونُ للكبرِ بريقٌ من ذهبٍ، لكنّهُ سرعانَ ما يَخْتفي في ظلالِ الحقائقِ.

الأمّةُ الّتي تتباهَى بأنّها أمّةُ الأممِ في السَّماءِ، عليْها أن تخفِضَ رأسَها لتَرى مواطئَ أقدامِها الحقيقيَّةَ على الأرضِ.

وختاماً: تحيَّتي للصّامتينَ الّذين يرسمُون معالمَ الإنسانيّةِ بيراعاتِهم المتواضعةِ الّتي سوفَ تتحطَّمُ على صخورِ حقيقتِها كلُّ أساطيرِ التَّجبُّرِ والتَّكبُّرِ، وتتَهاوى عليْها كلُّ الأبراجِ المَشيدةِ من أنينِ البؤساءِ ودماءِ الفقراءِ وأنّاتِ الثّكالى وغيبوبةِ عقولِ العبقريّةِ البشريَّةِ!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى