الأربعاء ١٨ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم بان ضياء حبيب الخيالي

في قاع النيجر

في أرض أفريقيا ألساحره على ضفاف النيجر القاتم الهادر حيث صفوف أشجار الزان والغرب تحف المجرى الوعر الشديد الانحدار.... قبل دخول النهر المقدس العاصمة نيامي قبعت مجاميع متناثرة من أكواخ الصيادين..........تشرأب بشموخ تحتضن بداخلها عوائل الصيادين الفقيرة التي خرجت من المدينة بحثاً عن الرزق فعاشت جنباً إلى جنب في أشبه ما يكون بقرية صغيره هادئة وادعه تنام بسكينة في أحضان الشاطئ المقدس

أما هي فكانت تقبع في غرفتها الصغيرة في أحدى هذه الأكواخ تفترش حشية من صوف ملون حولها تتناثر مجموعة فساتين وحلى نحاسيه وفي يدها مرآتها الصغيرة تتطلع إليها ملياً وتبتسم لما تراه من انعكاس صورتها التي تسجل جمالاً يتفجر كأنه تجسيد لروح أفريقيا بألقها وغموضها و....سحرها..

زنجية داكنة اللون يميزها صفاء بشرة الزنوج الذي لا يتهيأ لبشرة أفتح يتربع انفها الأفريقي في مساحة من وجهها العريض البني , خديها الممتلئتين صحة وعافية مرشوق بهما غمازتين تغو صان في حمرة ملتهبة غزت اللون البني عينيها اللامعتين تتألقان كنجمتين مؤطرتين بإطار من كحل أسود لم تصنعه يد إنسان تحفه رموش معقوفة مسنونة كأنها رماح قبائل همجية خصصت لتمزق الأفئدة أينما حلت وذاك الفم الممتلئ المكور يزهو بحمل أجمل شفتين أفريقيتين في

نيامي.

أشرقت شمس يومها كما لم تشرق يوماً منذ ولادتها تحمل إليها فرحاً دام كل صباحها الذي قضته في تجديل شعرها الأجعد الطويل صانعة منه عشرات الجدائل التي أحاطت كإطار صورة خرافية بوجهها الجميل مذّيلة إياها بخرزات ملونة صغيرة ابتاعتها من بائعة متجولة مرت أمس.... وأطرقت مستذكرة جلوس البائعة العجوز أمس أمام باب الكوخ مفترشة الأرض واضعة أمامها قفتها المصنوعة من الخيزران والممتلئة بالحلي والأساور والتمائم وجمهور فتيات الأكواخ ا للاتي تحلقن حولها فرحات بشراء القلائد والخواتم تذكرت وهي تتحسس النقوش الغريبة التي تزين قلادة بشكل تميمة اشترتها من العجوز أمس شرح العجوز لتلك النقوش السحرية الجالبة للحظ. لبست القلادة وهي تحس بالسحر يدور حولها يرفعها عن الأرض يرشقها في الغيوم.....وفكرت أن اليوم هو يوم سعدها تحيرت صاحبتنا كثيراً في انتقاء ثوب بلائم اليوم السعيد يليق بأول لقاء استعرضت كل فساتينها وفساتين أخواتها بل وحتى فساتين صديقاتها حتى وقع اختيارها أخيرا على ذاك الثوب المخرم الذي يحتوي كل ألوان الطيف الشمسي....كل الألوان أفضل فمشاعرها اليوم تضم كل الألوان..الفرح... الترقب......الخوف.كل شيء لبست تميمتها و أنسدل الثوب مرسلا هالة من الألق حول ألقها محيلا إياها لتحفة غالية....تمثال آلهة أفريقية....ربة النماء والخصب.....ربما....تبسمت راضية عن منظرها وانسحبت متلصصةً من غرفتها الصغيرة نحو فناء الكوخ ليفاجئها منظر والدتها المقرفصة حول إناء الطحن الأزلي الذي لايفا رق يديها رفعت الأم عيونها مبتسمة لمنظر غزالتها الجميلة متسائلة: ـ

ـ إلى أين؟

ـ سأذهب أنا ورفيقاتي بنزهة على ضفاف النهر

ـ لا تتأخري....

واقتفت عيون الأم صورة الصبية التي تخطو برشاقة وسرعة نحو الشباب بفخر وسعادة غرستها في ماض ٍ قديم سعيد كانت فيه نسخة مما تراه..... رمت النسخة الحديثة لتلك المبتسمة الدائمة الطحن بقبلة سريعة وركضت نحو النيجر حاملة أحلام طفولة مضت وضحكات شباب يتفجر قلبها كان يسبقها للقائه هناك على الضفة النائية.

كانت هي التي اختارت مكان اللقاء هو أول قصة في حياتها والأخيرة كما تعول واليوم هو أول لقاء... هي تمتلئ فرحاً ورعباً هو رفيق طفولتها..حلم صباها وشبابها اليوم أصبح الحلم حقيقة تفطن وهي تسترسل في الأفكار الجميلة إن الفرحة أفقدتها القدرة على المشي الصحيح تمشي كأنها تقفز تارة وتكاد تنكفئ على وجهها طورا ً وتعود لتمشي كأنها تطير وكأن

الأرض لا تمتلك ما يكفي من الجاذبية لمنعها من التحليق بفرح........

تباعد الناس تباعا ً تباعا ً وتشاغلت هي بقطف باقة ورد برية من أزهار نبتت في الجوار...مرت بسرب فتيات صغيرات يلعبن لمحت فيهن أختها الصغيرة التي ركضت إليها متسائلة: ـ

ـ إلى أين يا هانا...؟أذاهبة إلى المنحدر الصخري الخطر...؟ ألم تمنعك أمي من الذهاب إلى هناك...؟ ألا تجيبين حسنا ً سأقول لأمي ولنرى. هل ستلتزمين الصمت عندما تؤنبك........هانا........

وتبتعد هانا مبتسمة مرسلة قبلة للصغيرة الحانقة وهي تقول بدعة: ـ

ـ لا تقلقي لن أذهب إلى هناك...

وابتعدت هازئة في سرها من مخاوف والدتها وأختها... فقد كان المنحدر مكانها المفضل منذ الطفولة... معبدها....بيتها السري...هي تحفظ زواياه عن ظهر قلب ولأنه منعزل لا يؤمه أحد كان مكان خلوتها المفضل في سنوات الطفولة صحيح إنها انقطعت عنه في السنوات القليلة المنصرمة نزولا عند إلحاح والدتها لكنها قررت اليوم إن أجمل مكان يشهد ويبارك حبها الوليد هو معبد طفولتها وصباها.

خشخشت جناجل قدميها المخضبتين بالحناء وهي تدخل منطقة الصخور الملساء المحاطة بأشجار تغسل أوراقها المياه الهادرة في كل لحظة.................

النيجر يزأر يتلوى عند الصخور في تلك المنطقة منحدراً بقوة وسرعة لاطماً الصخور الصابرة ناحتاً إياها بأشكال حسب مزاجه في كل مرة ناثراً أشلائه كشذرات متطايرة في فضاء المكان رائحة شهية تملأ المكان رائحة أشجار مغسولة باللجين المنبعث من النهر.........رائحة طين ونباتات نهرية تملأ الجو بعبق سحري يلف المكان.جلست كعادتها متعبدة مأخوذة لكن حضوره في مخيلتها سحبها من جمال ما تراه لتتلفت مترقبة مجيئه ولم تكد الدقائق تمر حتى رأته من بعيد من بين أشجار الزان يخطر طويلاً أنيقاً قوياً كأنه إله الصيد الذي يقدم أباها له النذور قبل كل رحلة صيد. فكرت قليلاً تضاحكت في سرها وقررت أن تختبئ عن أنظاره بين الصخور لوهلة وكأن الطفولة تأبى أن تفارقها حتى في أول رحلة من رحلات الشباب.نزلت بقدميها العاريتين متشبثة بالصخور الناتئة الملساء كانت الصخور مغطاة بالطحالب اللزجة التي لطخت يديها مما جعل عملية النزول أكثر شيء مستحيل حاولت مرة أخرى التشبث والنزول متجنبة المناطق المكسوة بالطحالب لكن توازنها بدأ يختل رغم إنها لعبت في طفولتها بكل سهولة في ذاك المكان إلا إن جسمها الذي يبدو انه اكتسب وزناً في السنوات الأخيرة منعها من أن تسيطر على توازنها حاولت الرجوع لكن يديها المعروقتين انزلقتا وعبثا حاولت التشبث بالصخور المكسوة بالطحالب إلا إنها سرعان ما سقطت متدحرجة مرتطمة بالصخور الناتئة ومنها لمياه النهر القاتمة..صرخة الرعب والمفاجأة ضاعت في صخب المياه التي تلقفتها سريعاً كأنها قربان طال انتظاره ساحبة إياها نحو القاع حيث لا طفولة لا شباب لاحياه...وطفت على سطح الماء باقة ورد بريه لعبت بها دوامات الماء قليلا ثم أردفتها بصاحبتها.... جاء هو يتهادى مزهوا يحلم بلحظة اللقاء يعبث بيديه بباقة ورد جاء بها لها هي....أجمل فتاة في أفريقيا.جلس على الصخرة التي احتوت جسدها الرخص منذ قليل...هي حلم حياته أمنيته الغالية التي بدأت تتحقق.نظر إلى الشمس المزمجرة التي ترسل شواظاً يتكسر عند أطرافها أوراق الزان...يا له من مكان خرافي للقاء. اختيارها كان موفقاً قال محدثاً نفسه..... ولكنها تأخرت...وعبثت يده بباقة الورد قليلا ًوهو يعيد في نفسه ما يريد أن يقوله لها......مّر الوقت ثقيلا ً متباطئاً......وهو يلتمس لها الأعذار فربما هي لم تجد العذر المناسب للخروج.... ومضى به الخيال نحو شواطئ سعيدة رحلت به عن الواقع فتخيل حفلة عرسيهما وتخيل أولاد هما وهم يتراكضون في كوخ سعيد يظم أحلامهما وتخيل..و تخيل...حتى وصل إلى نقطة أصبح فيها هرما ً يتوكأ على عصاه ولم يسعفه الخيال في أن يراها هرمة مثله فأمسك عن الخيال مستسلماً ضاحكاً فهو لا يمكن أن يتصورها هرمة ولا حتى في الخيال...هي رمز الحب والشباب له.. ما بقي به من العمر.....

ومرت ساعة أخرى وبدأت حرارة الشمس تخفت والبق ذاك الكائن المزعج الدءوب بدأ يغزو المكان بجيوشه الجرارة معلنا ً لصاحبنا أن حصة البشر في المكان انتهت وبدأت حصة الحشرات فيه. وتعاون البق والدقائق التي غدت ممطوطة لا تتحرك في جعل تفكير صاحبنا يتجه نحو شواطئ أخرى لم يفكر بها قبلاً: ـ

لمّ لم تأتي.........؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

ربما كانت لا تأبه لمشاعره أصلاً..!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

وربما كانت تضحك منه الآن في مكان ما......ربما هي تقص حكايته لصديقاتها بعبث الطفولة الذي لم يفارقها يوماً.....بل ربما هنّ الآن ينظرن إليه ضاحكات من مكان ما... هو وباقة الورد التي نامت ذابلة على يديه وقميصه المبتل عرقا ً والتفت بانزعاج كأنه يرى أشباح فتيات تتضاحك مختفية بين الصخور التي تملأ المكان....وحل ّ الغضب محل الزهو والفرح الذي كان يتملكه منذ سويعات. فنهض محتداً مكفهر السحنة راميا باقة الورد بغضب نحو النهر المزمجر بجنون ومضى يدق الأرض كأنه يصب جام غضبه عليها..... وهناك عند القاع بين أمواج النيجر القاتمة الهادرة تعانقت باقتا ورد فوق تميمة حظ على جسد صبية كأنها آلهة جمال ترقد بدعة وسلام في قاع النيجر


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى