السبت ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

قبل الأوان

هي تدركُ أن هذا المجتمع ظالمٌ لمن لا يريد الظلم لنفسه ولا لغيره، بل وأكبر من ظالم.. ما كانَ لها أنْ تقبلَ بالأمرِ أبدًا.. وكانَ ينبغي لها أنْ ترفضَ الفكرة من أساسها جملةً وتفصيلا ومن غير جدال.. ولكنّ فوات الأوان قد آن وحان أوان الندم.. انطواؤها على نفسها صار أكثر وضوحًا من ذي قبل.. وأسئلتهم المتكررة لم تُجب عليها إجابات شافية.. وها هي الآن تحسّ بأنها ستختنق.. وثمّةَ شيء ثقيل يغدو جاثمًا على صدرها.. وزنه كوزن جبل أحد. وذهنها توقّف عن التفكير.
نارٌ تشتعل في النفس وفي أخاديدها. والجسد أصبح عبوسًا شاحبًا.. أعصابُها متوترة ولا تدري ماذا تفعل وكيف تتصرّف؟ انتابها شعورٌ بأن الكارثة ستحلُّ بهذه الأسرة المسكينة التي لا تعرف إلا السلم في جميع الأوقات بل وستحلُّ بهذا البيت الوادع وستحرقُ كلَّ من في داخله.. وستكون هي المسبِّبَةُ في تدميره.. أهذا البيت عاشت فيه معزّزة مكرّمة ومدلّلة مدّة عشرين عامًا؟!.. وشعرتْ بأن الذَّنبَ الذي اقترفتْهُ سيلاحقُها طَوالَ حياتِها. الشهوةُ الجامحةُ التي قادتْها لارتكابِ مثل هذه الجريمة وجلبتْ معها كل هذه المتاعب كانت أقوى من جميع الحواجز. والجريمة التي ارتكبتها لا يمكن أن تُغتفر، لا في عيون الأهل ولا في عيون الناس أجمعين.
جريمةٌ بشعةٌ نكراءُ!! وإخفاء مثل هذه الجرائم أمرٌ في غاية الصعوبة. كيف ستواجه أسرتها ومجتمعها وهي تحمل في بطنها جنينًا زُرع في غير أوانه منذ شهرين ونيّف؟ جنين صار كَوَرَمٍ سَرطانيٍّ ولا بُدَّ من استئصاله؛ لأنَّ أعراضَ الحملِ باتتْ من المستحيل إخفاؤها جميعًا. انتفاخ البطن أمرٌ قائمٌ لا محالة. انكشاف السرِّ سوف يسبب للأسرة إحراجًا وأي إحراج! مثلها لن تغمض لها عينان.. ولن تبسم لها شفتان.. ولن تستطيع أن تفوه بأي كلمةٍ لتدافع بها عن نفسها.. أنت إنسانٌ ضعيف يا غالب .. لماذا لا تواجههم وتكشف لهم الحقيقة؟ ماذا ستفعل وكيف ستتصرف؟؟ ليتكَ لم تفعلْ هذا يا غالبُ ! ليتكَ قاومتَ شهوتَكَ في ليلتذاكَ! ليتهم لم يخرجوا في ذلك اليوم المشؤوم ولم يُخلوا البيت! كان لا بدَّ من تأجيل الأمر حتى يتمّ الزواج. وإذا لم يكن في قلوب الناس رحمة على غيرها فكيف سترحمها ألسنتهم الصارمة إذا شمّروا وشمّوا رائحتها وهي تخرج من بيت والدها.
  كانت أمّها ترتّب غرفة الاستقبال حين سقطت مغشيًّا عليها؛ فسارعتْ ترشُّ الماء البارد على وجهها.. حين أدركتْ أنَّها عادت إلى وعيها مسحتْ لها جبينها بطرف ثوبها.. ثمّ راحتْ تهدّيء من روعِها وسألتْها في حُنوٍّ وبكل ما في قلب الأمِّ من حنان:
  ما بك يا مَها ؟ ما الَّذي أصابكِ وبماذا تشعرين؟
انفجرتْ باكية وردَّدتْ متمتمة في رجفة وهي تمسكُ بتلابيبِ أمّها:
 أنقذيني يا أماه! رعاكِ الله! أنقذيني! لا تتركيني لوحدي! أرجوكِ! سوف يقتلونني ويمزّقونني ويدفنونني حيّة..
  ماذا جرى لكِ يا ابنتي أخبريني؟ عمّن تتحدثين؟
  أنا حامل يا أماه.. أنا حامل.. حامل..
صعقةٌ من الألم فاجأتها.. استفزّتها أحاسيس الغضب مزجتها بتعابير ملحّةٍ من التأنيب والتوبيخ.. وانتابتها رغبة في الصراخ لكنها لم تقوَ على الصراخ، وظلّتْ تلطم خدّيها في غير وعيٍ حتّى أدركتْ أنّ القضيّة لا تحلّ بتأجيج نارها.
تعوّدت أمّ أحمد أن تحدّث زوجها أخبار يومها بأدقّ تفاصيلها.. لكنّها باتت اليوم أشبه ما تكون في غيبوبةٍ لا تصحو منها إلا في فترات متباعدةٍ. أخذت ترمقه وهو يغطُّ في نومه، بنظراتٍ غريبةٍ تنمُّ عن مشاعر الاستعطاف والرحمة، كادت تخرج عن طورها حين التقطت أنفاسها بعد أن غطّت وجهها موجاتٌ من التخيُّلات الذهنيّة تزامنت مع خوفها من المستقبل ومن مخبّآته. الحنين والشفقة على ابنتها يسيطران عليها.. وكوابيس في غاية البشاعة لاحقتها؛ فأرّقت نومها.. وإلحاحُ نفسها يقطع الشك باليقين بأن ردّة فعله العنيفة ستمتصُّها كلماتها المهذّبة الدافئة.. ولهذا فقد تحرّكت غريزتها بعد الفجر وقبل أن ينطلق إلى عمله، أخبرته بالمحظور الذي وقعت فيه ابنتهما وخطيبها..
  مصيبة.. ويا لها من مصيبة! كيف يجرؤون على فعل هذا قبل الزواج؟ أنتِ السبب في هذا يا أم أحمد .. أنت السبب. أنا لم أوافق عليه من أوّل يومٍ. كم مرّة أخبرتك أن هذا "الغالب" لا يملك بيتًا ولا شقّة.. وعنادك هو الذي جعلني أوافق على أن يخطب ابنتنا.. أساسًا هو أقلّ من مستوانا. لا هو ولا أهله أرضى بهم. الله أدعوه أن لا تأتي علينا العواقب الوخيمة. ماذا أقول للناس وللمجتمع الفاسد الذي لا يرحم.
  يجب أن تخبر والده يا أبا أحمد . ولا بدُّ من التصرُّف بعقلانيّة قبل أن تنتشرالفضيحة بين الناس. اذهب إليه وأخبره على أن يبقى الأمر سرًّا بينكما.
الاعتراف بالحقيقة لم يكن صعبًا على غالب فحسبُ، ولكنَّ كشفها من دون إنذار هو الأصعب. وأصعب ما في الوجود حين يوضع في الزاوية التي كثيرًا ما حاول طوال حياته أن يتفادى الوقوع فيها. عيناه المتذبذبتان لم يعد بمقدوره التَّحكم بهما . حركات لا إراديّة توحي أنه خارج لتوّه من مستنقع بلّل جسده وملابسه وذاته. صار موجودًا في الجامعة ولا وجود له. أحسّ بنظرات زملائه الطّلبة حين توجه إليه كأنها تتجسس عليه وعلى أسراره بل وتقرأ أفكاره من عيونه. أصابعهم وكأنّها تشير إلى القاذورات التي تغطّي وجهه. منذ شهر لم يعد يعتني بأناقة مظهره، ولم يقوَ على البلبلة التي باتت تقهره. المحاضرات التي يسمعها لا يفهم منها شيئًا. يكفي أهله ما هم فيه من ظروفٍ ماديّة صعبة. يكفيهم معاناة وتحمّل وصبر على الذي كُتب على الجبين. بات يدرك أن الأمر سينكشف لا محالة وأنه سيواجه الحقيقة بصعوبتها. ولكن كيف سيواجهها؟ وماذا في مقدوره أن يفعل؟ ماذا سيقول الناس عنه إذا ما انكشف أمره؟ المجتمع ظالم وبظلمه يرفع أقوامًا ويذلّ غيرهم. ثمّ إنه أضعف من بعوضة تقع على خدّ رجل نائمٍ يحسّ بلسعتها فيهرسها بيده دون أن يشعر بوجودها.
قال لهما الشيخ "هلال":
  الإجهاض حرامٌ حرامٌ شرعًا. هو قتل للنفس البريئة وللروح الطاهرة. يجب أن يتزوجا فورًا ومن دون أي تأخير. وأنا أقترح أن يبتعدا عن البلدة سنتين على أقلّ تقدير حتى يشعرا بالأمان ولا يشعر أحد بأمرهما. وأن يعمّم بين الناس خبرٌ أن غالب سافر مع زوجته من أجل إكمال دراسته في خارج البلاد.
  نِعم الرأي يا شيخُ.. وبارك الله فيك. هذا رأي. ورأيٌ صائب واللهِ يا أبا أحمد . يجب أن نسارع في الأمر وأن لا نتأخّر ساعة.
قال الشاب في نفسه: "ويلك يا غالب لماذا لم تتغلب على شهوتك؟ ماذا بإمكانك أن تفعل الآن؟ هذا أفضل خيارٍ وأهون سبيل. على كل حال التعليم في الجامعة ممكن إيقافه ومن الممكن متابعته بعد العودة إلى البلدة بعد سنتين. وإعالة الأسرة أمر محتّم وغير مفروغ منه ولا بد من البحث عن عملٍ يستر الحال مهما كان نوعه دون أي اعتراض".
حفلةُ زفافٍ عشوائيةٌ كانت؛ إذ إنَّ التخطيط المفاجيء لها قد أربك أفراد الأسرتين معًا وزاد من دهشتهم. وسقوط العروس يوم زفافها مغشيًا عليها أثار الشكوك عند بعضهنَّ، وصار حديث الساعة في مجالس نساء البلدة التي لو لم تجد خبر مقتل ثلاثة من أبناء عائلة "المحتسب" إثر حادث تصادم سيارتهم بشاحنة كبيرة، لظلّ خبر العروس يتصدّر نشرة أخبارهن إلى اليوم الذي يُبعثنَ فيه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى