الأربعاء ١٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم فلاح جاسم

قتلُ الآبــــاء

كان موسى هو الصديق الملازم لي منذ أيام حياتنا الجامعية معاً، وحتى هذه اللحظة عند بلوغنا الستين من العمر، وكثيراً ما كان يتمنى أن نكون كذلك عند بلوغ المائتين.

نجلس على المقعد الخشبي الذي فقد لونه، ربما بسبب العوامل الطبيعة وعوامل أخرى، الله وحده يعلمها، مقعدنا يقع في الزاوية الجنوبية الشرقية في ركن قصي، بعيد عن باب الحديقة، حيث الجلبة والإزعاج، نتيجة تجمهر الناس حول بائع عرانيس الذرة الطازجة، ذات الرائحة الشهية والبخار يتصاعد منها عندما يفتح البائع "سطل" الذرة متعمداً، لجعل أفواه المارة رطبة. فجأة قفزت إلى ذهني فكرة اللعاب والأفواه الرطبة، فتذكرت (ديانا) في سنوات دراستنا الجامعية، وكيف كانت تتعمد ترك اثنين من أزارير قميصها العلوية مفتوحة، ليظهر خط النار بين نهدين، تخالهما ينفجران على الرغم من توقعي أنهما لا تمتلآن بشيء سوى الرغبة للمسة أو شمّة من رجل، ربما بمثل مستواها المادي والاجتماعي، فيجعل ذلك الشعور أسوار الأمل في نفسي تنهار، أتلفع بعباءة اليأس والإصرار في آن معاً، اليأس من الاقتران بــ (ديانا)، والإصرار على النجاح في حياتي على الصعيدين المادي والعلمي.

تحقق على الأقل الجزء الأكبر من أحلامنا أنا و موسى بعد اغترابنا لمدة ثلاثين سنة ونيّف، ضاعت خلالها أجمل سني العمر، على أمل أن يستريح المحارب يوماً ما و يتمتع بإنجازاته غير آبه بتعاقب الأيام، التي هي في الواقع كذرات الرمل في الجزء الأعلى من الساعة الرملية، بالنسبة لأعمارنا.

الرمل!!! هل الرمل أنقى أم التراب؟؟؟ هل خُلق الإنسان من التراب لأن ذرات الرمل غير قادرة على التماسك؟؟ ـــ استغفر الله ـــ الله قادر على كل شيء، لكن أفكار الإنسان تقوده إلى مناطق لا يريد التفكير فيها، جالت في ذهني كل تلك الأفكار وأنا أجلس على المقعد الخشبي انتظر موسى، الذي لم يتأخر في القدوم يوماً كهذا اليوم. تذكرت كلامه بالأمس وحبه للتفلسف، وولعه بمطالعة كتب علم النفس منذ كنا صغاراً، حتى أنه يعيد قراءة بعض الأفكار عشرات المرات لأنها تكون عصيّة على الفهم بالنسبة له.

حدثني أمس عن العداء التاريخي والأبدي بين الأبناء والآباء، وكيف يكنّ الأبناء كرهاً دفيناً لآبائهم، ويودون قتلهم، وتراودهم تلك الأفكار على شكل أحلام، يقول لي:

ألم تسمع عن عقدة أوديب!! ذلك الاكتشاف العظيم، من قبل عالم النفس الشهير "فرويد"!؟!

قلت:

بلى، لكن يا موسى؛ أنا أختلف مع " فرويد " في نظريته تلك، ولا تنطبق على واقعنا.
ردّ موسى:

ومن أنت يا عزيزي !! حتى تختلف مع ذلك العالِم !!!؟؟؟
ألم تقرأ مسرحية هاملت لــ شكسبير!؟ هل نسيتها، تتذكر عندما كان هاملت يودّ الانتقام من عمّه لقتله أبيه الملك، وسلب ملكيته وزوجته ؟؟

قلت :

بالتأكيد، لكن لست مجبراً على التسليم جدلاً بما قاله شكسبير أو فرويد، إذا أمرنا الله بالتفكر في خلق السموات والأرض وكتبه أيضاً، لماذا أضع مخي في الثلاجة، وأعتبر أن كل ما قيل صحيحاً؟؟؟

أردف قائلاً:

الجنين في رحم أمه محاط بظلام من جميع الجهات، يكمن وحيداً، ينتظر من يزعجه بشكل شبه يومي، حسب نشاط الرجل، يبصق عليه، يقتحم عليه خصوصيته، ثم يكتشف عندما يكبر أن من كان يفعل ذلك هو والده .. ألا تعتقد بأن ذلك كافياً لجعله يفكر في قتل أبيه؟؟؟

قلت:

لو صدقت نظريتك ، لقتل ثلاثة أرباع العالم من الأبناء أباءهم ، لماذا لم يفعلوا ذلك؟؟

ردّ قائلاً:

يتركونهم، يقتل الفقر بعضهم، والقهر يقتل البعض الآخر.

تفكرّت في كلام موسى بالأمس ... إذا صدقت نظريته تلك، أيعقل أن نكون نحن في يوم ما أباء للأمريكيين والبريطانيين؟؟ حتى يقتلونا بكل ذلك الصلف وتلك الوحشية، بدون أدنى شعور أو اعتبار لإنسانيتنا، أيكون ذلك نوعاً من الثأر أو الانتقام لأعمال ارتكبناها بحقهم في الماضي، فجاء وقت تصفية الحساب؟؟!!

لم أدرك أنه حان وقت صلاة المغرب، إلا مع انطلاق الآذان من مكبر الصوت للمسجد المجاور للحديقة، تأخر صديقي، ليس من عادته أبداً، قمت من مقعدي غير الوثير، غير متثاقل، أحثّ خطواتي إلى بيت موسى، هالني تجمهر ذلك الجمع من الرجال أمام البيت بوجوه متجهمة أو تصطنع ذلك، لا وقت لدي الآن للتأكد من ذلك.

استفسرت من أحد الواقفين عن سبب ذلك التجمهر، فأخبرني بأن موسى قد وافاه الأجل المحتوم قبل ساعة، فشعرت بما يشبه الدوار، وأردفت قائلا: لكن صحته على ما يرام!! فقال: الأعمار بيد الله. قلت: ونعم بالله، ثم قلت للواقف أمامي: هل قتله ابنه!!؟؟ فردّ عليّ باستغراب: استغفر الله يا رجل، لم يمت مقتولاً، فأصبحت أبحث عن أسباب وفاته بين تلك التي ذكرها لي أمس في جلستنا معا ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى