الاثنين ١٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٦

قراءة في ديوان «تراتيل على رصيف الصمت»

رشيد أمديون

"لا يصبح النص حقيقة إلا إذا قرئ" (2)

كل نص شعري يَسمع من خلاله القارئُ صوت الشاعر وتراجيعه، يرى فيه كيف قطف اللغة من فرعها.. والقراءة إستماع واستمتاع، تنبني أساسا على قدرة المتلقي في إدراك المعنى أو الاقتراب منه عبر احتكاكه بالنصوص، أو عبر تبنيه عملية التأويل حين تُصبح الدلالة ظنية لا تستبيح ذاتها بسهولة ويسر. وعملية التأويل تحتاج إلى استغوار دلالات الألفاظ ومعانيها الحقيقية والمجازية.. كل هذا حتى يفهم القارئُ الشاعرَ ويعي عوالمه التي يدعوه إليها مشيرا أو غير مشير، فيكفي أن يقول الشاعر قصيدته حتى نفهم أنه يدعونا إلى فن القول، ونحن كقراء أو مستمعين علينا أن نلجأ إلى فن الإصغاء ليبلغنا القصدُ، وعلينا أن نسلك درب الكلمة كي نقترب من الشاعر فهو ينبئ ويُخبر، وينادي ويناجي، وينطق باسم الأشخاص والأشياء (نيابة عنهم)..، ليس شرطا أن نتكلم جميعا، لكن الشرط كيف نتكلمُ، كيف نقول ما يُحسِّه الآخرون، ما ينسجونه من مشاعرَ في عمق ذاواتهم، دون أن يملكوا آليات البوح، وكيف يحبون.. بل كيف يتألمون.. وكيف ينسجون أحلامهم التي أقصاها تَختزل الحياة في لقمة عيش، أو دمعة منسابة في خلوة، أو رؤية طموحة... (كيف يتبناهم الوجود، ثم يهملهم حينا)، وإني أزعمُ أن فن القولِ يحتاجُ إلى الشعراء، هم من يبنون المعنى بالمعنى وهم من يُولِّدون من المعنى المعنى، حاجة المجتمع إليهم كحاجتنا إلى المِرآة كي نتفقد من خلالها عيوب وجوهنا وملامحنا.. ولعلَّ هذا ما دفع بأفلاطون إلى طرد الشعراء من جمهوريته، لأنه يعرف جيدًا مدى تأثيرهم على الجمهور، وبالتالي فهْمُهُم لما يدور حولهم(3). والشاعر هو من يُسمعنا عيوب الصمت إن صمت الكل. فمن يكشف "سوءات الضمائر" إن غاب الشاعرُ، أو أهملنا رؤيته وتركناه يموت فيه المَقولُ... أنت أيها القارئ تسمع صوت ذاتك من تردد ترانيم الكلمات من فم شاعر، فلا تستكبر، ولا تستكثر على الشعراء قوة العداء للصمت الذي يقتلُ الحياة برتابة مملة. فالشاعر لم يَخدع أحدا، كما خدعتِ الكثيرينَ السياسةُ، وما وعد أحدا وأخلفَ، فإنْ وعد، فوعودُه تُحَسُّ وما تكونُ إلا ليؤنّس بها غُربة المُغتربين، ووحدة المحرومين، ويعيد بها الثقةَ لمن فقدوا الأمل.

نعم، الصمتُ عدو الشاعر الأول، لأن مسؤوليته الحقيقية هي "التعبير عن هذا الواقع وكشفه وتعريته وتوضيحه، أي التعبير عن علاقات الإنسان الإجتماعية وظروفه الإقتصادية والسياسية، وكذا مشاكله الحيوية والمحسوسة والملموسة.."، وها قد أعلنت شاعرتنا زينب الطهيري عبر إضمامتها أنها ترتل كلماتها على رصيف الصمت، ترتيلا تُفضي إلى داخل الذات. تطرح ما تأملته أو تتأمله في العالم والكون بشكل شبه فلسفي حينا، كسؤال الحياة في قصيدة: رسائلي إلى نيكولاس.. ، وسؤال الموت في قصيدة: صولة الموت، وسؤال القيم والجمال والأخلاق في القصائد: مهاوي/ والرحلة الأصعب/ وحروف ثلاث، أو تطرحها بشكل اجتماعي وإنساني كما في قصيدة: كن إنسانا، وحيث تنشد للإنسان ومع الإنسان الحرية كما في قصيدة: أطل الأسير، والكرامة والعزة المفقودة مثل قصيدتي: أحلام مؤجلة/ وعبور... إنَّ هذه الأشياء والقضايا كلها من شواغل الذات الشاعرة، يتداخل بعضها ببعض حتى أنه لا يمكن فصلها من شدة التداخل، هي تمثل بنية موحدة، تعلنها الشاعرة عبر تراتيلها..

والتراتيل كما نعلم هو انتاج الصوت وإرساؤه وإرساله، وبتنغيم وانسياب، فإن كان للصمت (مجازا) رصيف داخل الحقل الدلالي للعنوان، فبداهة له طريق، وهذا يعني (تأويلا) أن التراتيل تتابع ممشاها في مدن الصامتين، وفي طرقاتها، تحملها شاعرة كنبي يُخبر وينبئ، رسالته هي: كسروا الصمت الأليم...

الشاعرة زينب الطهيري، تُطلق تراتيلها وقد أسمعت من كان حيا.

تراتيلُها محملة باحساس البسطاء من الناس.. ممن "ينشدون الكفاف على أبواب موصدة"، يؤلمهم قلق السؤال:

"يصارعون أمواج العوز

يركبون هول السؤال" (ص:6)

إنهم أؤلئك الذين يُجابههم الواقع بصمت قبيح يُربك قدرة تشكيل الأجوبة ويؤسس عوالمَ ومدنٍ يلفها غيم الغموض، وضباب المجهول. قالت:

ضباب كثيف

يلف المدينة.." (ص:91)

ويبقى الجواب أسير غيبٍ، فلا مجيب.. ولا من يُهدئ حيرة الحيارى، بينما هم ينشدون أجوبة في ساحاتٍ للغو.. مستسلمين رغما عنهم لخيبة الشظف، في متاهات تؤجل أحلامهم إلى ما لا يُدركُ موعدُه...

هكذا، تفتح الشاعرةُ بوابة قصائد ديوانها مستندة على عبارةٍ وامضة: "كم يلزمنا من مقابر لنواري سوءات الضمائر". إنها ومضة خاطفة كانت المبتدأ، وترخي ما أنتجته من ضياءٍ على نصوص الإضمامة، بدايةً بالنص الأول المعنون بـ "أحلام مؤجلة" الذي يَستنطقُ الواقع الصامت، فيُسائله عن الفئات المستضعفة بين مدن الضياع، وعن الكادحين من أجل لقمة عيش، التائهين في دوامة الحياة، أولئك الذين أُجِّلت أحلامهم إلى إشعار آخر:

"يصارعون أمواج العَوَز
يركبون هَولَ السؤال
ينشدون الكفاف
على أبواب موصدة
أياديهم باردة
من فرط المهانة.." (ص:6)

إنَّ تجربةَ هذا الديوان تجعل من الشعر صوت الآخرين على لسان الشاعرة، فهو - كما أشرتُ في فيما سبق - صوت الطامحين إلى رغد العيش، صوتُ الذين أسكتهم قهرا صمت الصامتين، فلم يعد للشكوى محل وقد امتلأت فراغات الحياة بالجمود والقسوة، فكان العزاء "صبرا مريرا". قالت:

"يؤثثون الحيطان أمنيات" (ص:7)
(...)
"وعلى الضفة الأخرى
أناس
كان قدرُهم ومازال
طبخُ حصى الأمنيات
على نار الغياب
يُتبلونَ وجباتهم بالعطاء
يحفظونها
بجرعات صَبر
جرعاتٌ تكَلست
في رتابة الصمت (ص:12)

بين حصار هذا الواقع الأليم العابس في وجوه أرهقها عبوسُه، يَخشى الإنسانُ من المصير فيعيش حالة من قلق نفسي، ويؤلمه حملُ هم الغد المقبل من بعيد كغولٍ لا أحدَ يدرك ماذا سيفترس من جسد هذا الوطن العربي، قالت:

"ترعبهم مصائرهم
يصنعون للمُنى
وجوها فارغة
يلتحفون المهانة
بأيدٍ
أنهكها العوز
يؤثثون الفراغ
حسرات
حسرات..
ويُكفكون خلسة
دمع المدينة"(ص:84)

وللحياة في هذه المدن المظلمة جانبا يُبرز الخبث والمكر، فيتأزم الواقع، لهذا نجد الشاعرة تخاطبها فتقول:

"ثم في خبث
تضغطينَ على الجُرح
وترقصين
على مذبح حُريتي" (ص:69)

إنها عواصف الحياة الصعبة المخادعة:

"تراوغين
في الحل والترحال
وتصنعين للآلام
أعيادا" (ص:69)

لماذا أعياد؟ ألأنها تعود بشكل دوري؟ فيتألم القلب من قبح الأوضاع التي آل إليها الواقع، فتحمل الشاعرة هما يثقل كيانها:

"الفؤاد يلبس الخيبة" (83)

وكأن المستقبل كما قلنا مخيف لا ينبئ عن أمل صريح، بسبب ما عمّه من آفات تُقلق مضاجع النيام، وتترك الحليم حيران، لهذا فإنها في قصيدة "الرحلة الأصعب" تأخذنا في رحلة خطاب موجه لغائب لا يُدركُ كُنهَ الأشياء، قد يُخدع لكثرة سذاجته، أو لجهله، فيسهل على الاستغلاليين الذين يريدن لهذه الأوطان أن تستحيل بقع دم أو قطع نار ملتهبة، يسهل عليهم اقتناصه، فيعدونه بأحلام، وبالفردوس، تقول:

"يتزاوجُ
الجهل بالكراهية
ويغدو المولودُ دمارا
(....)
ترتِّبُ الأحقاد
على جثث الأبرياء
وحيدا في العراء.."(ص:29)

إنها رحلة من أجل تشكيل الوعي، ومن أجل ترسيخه، وتحسين الرؤية وأبعادها، وتكريس قيم الجمال التي يحتاجها الغائب والحاضر، الرائي والمُغيّب عن الرؤية، ويكفي ما قالته في نفس القصيدة لتبيِّن التحول الكبير الذي حدث في البنية الفكرية لهذا العالم، تلك التحولات التي جعلت المخاطَب في النص يتخلى عن القيم العميقة التي لعله ما زال يحمل منها شيئا ويوليها ظهره، تقول:

"تولي ضهرك
لدفء التنور
لحكايا الجدة
لأغنيات
تحكي محنة الغدير
يثني عبثا
قلوب الصبايا
عن المسير"(ص:29)

أليست هذه الصورة الشعرية نابعة من عمق فطرة صافية نقية نقاء ماء الغدير، إنها فطرة الإنسان التي تروم الأجمل.. إن الشاعرة تخاطب في هذا الغائب فطرته الطاهرة كي يعيي قبيح الفعل ويميزه من حَسنه، فلم يكن قتل الأبرياء يوما فعلا حسنا...

إنها تضعنا أمام هم ثقيل لا يزيله الصراخ في وجه الجامدين، لهذا فهي تشرك القارئ في حقيقة هذا الهم، حين تصرّح أن القيم الجمالية والأخلاقية صارت في الحضيض، حين صار كل شيء يُباع، وحتى الفضيلة. تقول:

"في عيون مدينتي
تتهاوى القيم
تنتحرُ
تحت أقدام النخاس
تصلب الكرامة.." (ص:83)

هذا الإغتراب (المكاني والزمني) يجعل الناظر يرى أن القيم الفاضلة فقدت كيانها الوجودي، فأنتج الوضعُ محلَ أناس أوفياء اخرون بلا قلوب، يابسةٌ مشاعرهم، يعيشون بالزيف وخداع بعض أمة ترضى بالخنوع والذلة:

"يلتحفون الازدراء
ويستنشقون
رتابة الكيد
على أنين الضحايا"(ص:86)

إنهم آدميون يعتبرون أنفسهم مدار الكون، فـ: "يصنعون للقسوة نواميسا" (ص:86)
يخرجهم استكبارهم من مدار الإنسانية. ويسمّمُون عنب الحب والأمل ويأخذون كل شيء، حتى البسمة يئدونها، ويزيفون الحقيقة ليعلنوا للعالم أنهم أبطال ورجال:

"يأخذون كل شيء
يسلبون البسمة
يقدمونها قربانا
في معابد الرجولة..."(ص:87)

هكذا ترى الشاعرة معنى الرجولة، إذ ليست سلطة وقوة، وليست استعراض العضلات.. الرجولة لا تؤثر فيها الصدمات.. ففي ومضة مفصلية بين القصائد ولعلها الومضة السابعة، تقول: "الرجولة الحقة معدنُ غاليوم لا تكسره الصدمات بقدر ما يذيبه الدفء" هذا على اعتبار أن الرجولة مكسب انساني محض، فهي ليست بالادعاء ولا اظهار القوة بل بالمواقف الإنسانية التي تنتج بالفعل لا بالقول، لهذا فهي في قصيدة "رسائلي إلى نيكولاس جيمس فيوتيتَش" تخاطب هذا الشخص الذي يخال الناظر إليه أول مرة أنه كتلة أدمية عبارة عن جسد ليس له يدان ولا ساقان، عرّفت الشاعرة به - في الهامش - على أنه تحدى إعاقته واستطاع أن يجعل من عجزه قوة تؤثر في الذين حوله، تخاطبه خطاب الحاضر في القصيدة لا خطاب الغائب كأنها بهذا تؤكد للقارئ الضمني أنه شخص يجدر أن يحيا في كل فاقد أمل، فهو عنصر تستمد منه قوة الإصرار والتحدي، تقول:

"تعانق الحياة
بهمم الرجال
خذ بيدي
إلى حيثُ روحك
تعتلي
صمت القبور
وترتقي
أخبرني
كيف تكد
كيف تنحتُ الصخر.."(ص:22)

تقول له:

"علمني كيف
أنسج المحال
دروب زهرٍ؟"(ص:24)

إن الذين يزرعون الأمل ويذيبون المستحيل والعقبات ويؤثرون في الآخرين إيجابيا هم الرجال حقيقة، هم من استخرجوا من معنى الضياع معنى الوجود والحياة. والشاعرة إذ هي تخاطب هذا الشخص فهي تريد أن تبلِّغ رسالة مفادها هذا هو معنى التحدي، ومن رزق النعم فوجب عليه الحمد.

وإن ما ترمي إليه في هذه القصيدة هو أن الإعاقة لم تمنع هذا الإنسان من أن يكون رجلا بالمعنى الصحيح والصريح، فما أكثر الرجال بالمقال، وما أقلهم بالحال، وقد تفتح عينك على كثير لكن لا ترى إلا القليل...

وبهذا فإن الرجولة مكسب إنساني ولا علاقة لها بالقسوة والتجبر والقوة التي لا تنفع في محل الخير، إذ أن الجانب الإنساني والأخلاقي لابد أن يكون مرتكز الرجولة بل وسارية بنائها، ومن هذا المنطلق تدعو الشاعرة إلى الإنسانية الحقيقية دون زيف ولا خداع، فهي عبر نص معنون بـ "كن إنسانا" تشير إلى أن من مقتضيات الإنسانية التخلق بخلق الأعالي:

"افتح قلبك نوافذ
وارحم كثيرا
إن شئت أن ترحم.."(ص:14)

كما تؤكد على ضرورة الحذر من كل الخطوات والأفعال، فالشجاعة ليست هي المجازفة، الشجاعة قوة في عمقها حكمة:

"أنظر بعين الفحص مواطنا
تبغي ارتيادها
فبعض البسيطة قَفْرٌ
لاتدري
أن يكون مُلغما"(ص:15)

وتحرص الشاعرة على الإشارة إلى الترفع عن تافه القول وسفاسف الكلام، لأن القول السديد والحكيم هو المفيد:

"ذرْ فُتاة القول
وارتشف
من المنابع حكمة
فماء النبع
كان أنقى
ومازال أطهرَ"(ص:16)

ثم من أخلاق المرء المتصف بالإنسانية الحقيقية أن يحذر شر اللسان، وأن يراعي بنية المقول قبل الكلام، فإن كان الصمت عدو الشعر والشاعرة فالمقول لابد أن يحسن المرء اختياره والتدقيق في تفاصيله، فتقول:

"احذر بذاءة اللفظ
وإن تَكُ غاضبا
فإن البحار مهما
لفظت من بخار
يرتد إليها
ماءً منهمرا"(ص:17)

واللسان اللين والكلام الحلو تفتح له القلوب أبوابها، ويؤثر عليها ويأسرها:

"فعذب اللسان
فاتح
لمملكة القلوب
صار سيدا"(ص:18)

ومن مقتضيات الإنسانية أن لا يتخلى المرء عن التفكير العقلي، وأن لا يُخدع حتى لا يَستغل أحد سذاجته وحسن نيته - في غالب الأحيان- فيمرر أفكاره أو ما يبطنه في نفسه من نزوع إلى التخريب والدمار، فتقول:

"أَعْمِل العقل
في كل نازلة
استفت قلبك
واحذر
أن تُستبلد
فبعض الفتاوى
ألهبت الدنيا
وأجدر ألاَّ تُصدق"(ص:17)

ولعل ما ينقص في هذا العالم أيضا أو يكاد يصبح عملة نادرة هو الصدق، لهذا لم تتجاهل الشاعرة في احدى قصائدها أن تبوح أن الصدق "ما غمر كثيرا صفحات القلوب"، وبهذا شكل نص "حروف ثلاث"، نوعا من تحطيم مسافة الجفاء ما بين الإنسان والصدق، لأنه على حد قولها: "نور يجمل قبح البسيطة".(ص:66)

إن الشاعرة تذكر بالقيم الأخلاقية الجميلة التي تفكَكَ الارتباط بها في زحمة الحياة المعاصرة فهي مصرة على أن تؤسس بعض نصوصها (هنا) على هذا المبدأ كما تحاول أن تصحح مفاهيم قادتها الأعراف إلى عالمنا الحديث بشكل متوارث تغدو فيه "الأحكام جاهزة والتهم معلبة"، وهذا عبر خطاب موجه إلى المرأة تحاول من خلاله تحديد محطات من تاريخ عربي كالإشارة إلى حكايا شهرزاد لشهريار، التي كانت تحاول تأجيل ميقات القتل بلذة الحكي والسرد، هذا الاستحضار تبغي من ورائه طرح إشكالية المرأة في المجتمع العربي القديم:

"حكايا تنسلُ
تباعا
لعلها
تربك شهريار.."(ص:52)

ثم تذكر نموذجا من تاريخ المرأة المغربية فتشير تعريضا لا تصريحا إلى اسم زينب النفزاوية التي كان لها دور عظيم في دولة المرابطين بحيث وصلت لمكانة عالية في المجتمع المغربي وقتها، يُحسب لشخصيتها ألف حساب، بما عرفت به من رجاحة العقل والحكمة (يفقدها كثير من رجال اليوم):

"بين واحات أغمات
صبية
سليلة علم
نبيهة قوم
تساقين سبية
لأنك
تحرجين الكبار
وعلى مشارف الربيع
على رصيف السذاجة
تطرحين مفارش الرجاء
تدق لك الطبول
تفرحين بالهتاف.."(ص:52)

إنها نموذج المرأة كما يجب أن تكون في نظر الشاعرة، المرأة التي لا تقل دورا عن الرجل في تأثيث الحياة بالجميل والمفيد، وتساهم في بناء المجتمع خلافا لما استقر في الذهنية العربية التقليدية، أن المرأة من بيت والدها أو من بيت زوجها إلى القبر، كأن دورها في الحياة محاصر، فهل في مجتمع الألفية الثالثة يمكن أن نجد من يفكر بعقلية العصر الجاهلي، التي تفكر في المرأة كجالبة للعار، فقط، يمارس في حقها الوأد من قبل حتى أن تحيا وترى وجه الحياة، تقول الشاعرة في قصيدة "الجريمة أنثى":

موءودةٌ في المهد
تنفضين الغبار
عن لحية
عزيز القوم.."(ص:51)

وإن نظرنا إلى تاريخ كتابة القصيدة فهو الثامن من مارس، الذي يوافق اليوم العالمي للمرأة، فالشاعرة تحتفي بالمرأة ككيان له وجود، وكإنسان له دور في المجتمع والحياة وبناء الغد، وتكَسر الصمت هنا – أيضا - لتحمِل مهمة الكلام والبوح باسم الأنثى/ المرأة، حتى تُطَأطأ لها الهامات وتعيد للنساء اللواتي ركنَّ إلى الهامش الثقة بالحياة وقيمتهن في الوجود، تقول:

"أميرة أنت
في حدائق الورد
والكون لك
مفارش سعد"(ص:53)

إنها ترفع قيمتها قصد أن تجدد الوعي بوضعها قديما وحديثا. ثم تقول:

"تطأطأ لك الهامات
مزهرة أنت
في يوم بهي
لسيد الأعياد..."(ص:54)

وبناء عليه، فالشاعرة استطاعت أن تنصت للعالم بسمع مرهف من زوايا مختلفة، حتى أدركت مراكز الاختلال في جسد هذا الواقع الجديد للعالم العربي، ثم أعادت ما أنصتت إليه في قالب شعري دافق دافء، له أبعاد رؤيوية. إنها تجهر "بكل ما هو مجهض ملغى من قيم الحق والخير والجمال"(4).. فاعتمدت الشاعرة في اضمامتها على تيمات معينة تستمد من ثلاثيٍ حق الحضور: الإنسانية – القيم الأخلاقية – المرأة.

ثم بالنظر إلى تواريخ كتابة نصوص الإضمامة نستخلص أنها كتبت بين سنتين (2014 و2015) في هذا الامتداد الزمني القصير الذي هو ظرف تاريخي ساخن، تغلي مراجله، ولا ريب أن رؤية الشاعرة تأثرت بأحداث ومجريات العالم، فهي إذ تجهر وتخاطب، لا تنطلق أبدا من خيال جامح لم يجد ما ينتجه، بل إنها كما قلنا تعيد صياغة الواقع من زاويا رؤيتها للعالم اليوم، وهذا يجعلنا كقراء نوظف أنفسنا في عملية إنتاج رؤيتها أيضا من خلال ما نشترك فيه معها من انتماء وحضور في نفس العالم، فهي لا تغرد خارج السرب، بل هي دعوة إلى طرح رداء الصمت البالي، والتمسك بالإجهار الذي من مهمته أن يرفع الغطاء عن معاناة الكثيرين، فعصرنا لم يعد عصر طمس القضايا المسكوت عنها بل صارت الأولوية تعطى لتلك القضايا المسكوت عنها قرونا، والخلل دائما يكمن فيما سُكت عنه، لأن الكل يحاول أن لا يبوح به أو يقوله رغم أن الجميع يدركه بداءة وبداهة، لهذا فليس لأحدٍ أن يدعي أنَّ ما يقوله الشعرُ اليوم معروف، لأن الشعر أو الشاعر لن يقول إلا المعروف، والمتعارف عليه، لكن الجديد هو كيف قاله؟ وكيف أنتجه؟ وكيف أخرجه من الصمت/السر إلى الجهر.. أوليس فن القول شجاعة أيضا، نعم، أليس هو تكسير لحاجز الصمت، حتى يتقوى الوعي بالأشياء، ويتعاضض الفعل مع الأفعال... إذن قوموا مع الشعر وأعلنوا تراتيلكم على رصيف الصمت.

وبعدُ، هذه قراءة تحليلية من زاوية تلقٍ أُحادية لهذا لا يمكنني أن أدعي أنها أحاطت كل ما لنصوص الإضمامة من أبعاد وزوايا، مادام الديوان مازال يمتلك صوته المتعدد كلما قاربه قارئ بقراءة من شأنها خلق معنى جديد.

الهوامش

تراتيل على رصيف الصمت، ديوان شعر للشاعرة زينب الطيري من مدينة قلعة السراغنة، صدر سنة 2015، طبع بمطبعة القرويين بالبيضاء، أنجز غلافه م.لعروصي.
فولفغانغ إيزر
فيصل الأحمر، كتاب معجم السيمياء ص: 171. منشورات الاختلاف
د.الطني عبد الله – تقديم لديوان "ابتهالات غائمة" لمحمد ضرفاوي

رشيد أمديون

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى