قراءة في رواية «حارس خشب السكة» لغادة المعايطة
من الأمور التي لفتت انتباهي عند قراءة المذكرات الشخصية للأجانب، جرأتهم في تناول أمور حساسة جدا مروا بها في سابق زمانهم، تعجبت أحيانا من "فضائح" - على الأقل بالنسبة لنا كشرقيين- يتناولونها بأريحية تامة بلا خجل أو وجل أو حتى من تسليط الضوء على ذكرياتهم الحميمية او أمور خاصة تخصهم ومن حولهم، بعد الدهشة التي تصيبني أبحث بعمق وـحاول التأكد بداية من أن الأديب نفسه هو من كتب ما هو بين يديّ، أم أن جهة أخرى هي التي تتطوعت لمشاركتنا "حياته" بعد مماته، كما حصل مع مذكرات غادة السمان التي نشرت رسائل غسان بعد مماته.
و كنت دوما ألوم نفسي ومحيطي بسبب عدم التدوين ليوميات حياتنا كفعل مقدس لغاية حفظ ذكرياتنا وكوسيلة لتفريغ ما في الصدر و"خط" لتقدير حياتنا بالطريقة الكريمة المثلى التي تستحق الإشادة بالجميل من أحداث والإشارة إلى "الصعب" من الأمور التي واجهتنا.
تلقيت قبل انتهاء اجازتي في عمان رواية لم تنشر من الأستاذة غادة المعايطة، هذه الروح الممتلئة طاقة وحيوية، التي تتحفنا بجميل ما تكتب في فضاء الفيس بوك الافتراضي بشكل شبه يومي، فتُلهم من لديه الاستعداد للإقتداء بنهجها، وتقوم بنفس الوقت بمهمة استكشافية عبر "رادار" محنك بالبحث عن "مشاريع" كَتَبة تأخذ بيدهم وتشحذ من عزيمتهم بعد أن توسمت في العقل وسعة الأفق ما يفي بذلك.
وما أن أقلعت طائرة العودة إلى البحرين حتى فتحت الرواية التي تحمل اسم "حارس خشب السكة" وانسابت بين يديّ انسياب الماء الزلال في الجوف، هبطت الطائرة وإذ بي قد التهمت نصفها بسهولة ويسر، فأتممتها في صباح اليوم الثاني بعد أن استسلمت لإغوائها ولم أستطع تأجيلها، حزنت لانتهاء ارتباطي بها بعد أن تنعمت بنسائم "جوها" العليل، و"لطيف" إشاراتها التي تُشعرك للحظات أنها تتكلم باسمك، أو تُمسك بقلمك وتكتب بكثير من الأفكار التي يضج بها عقلك.
و بعد أن وضعتها جانبا، تنفست الصعداء وأنا مأخوذ بــ"جرأة" غير اعتيادية لسيدة "شرقية" لتناول جزء من سيرتها الذاتية وتاريخ عائلتها بتلك الأريحية والإنسيابية، وبتفاصيل قد يُحجم البعض عن مشاركة مضمونها للقراء، فأدركت أن "العفوية" لديها أقوى من "مثبطات" او "تخوفات" قد تودي بـ"النص" لأن تظل حبيسة "النفس" أو حتى "مذكرات" محفوظة بعيدا عن أعين القراء.
كانت الأستاذة غادة بمثابة "الحكواتية" التي تغنى بهم "تاريخنا"، فألقت على مسامعنا حكايات "عميقة" و"لطيفة"، التقاطات ذكية من هنا وهناك، وتوثيق خفيف الظل لأحداث سياسية عربية وعالمية، فضفضات للنفس ومشاركة تجربة بأسلوب مبهر بعيدا عن السرد الممل، تسلبك لحظات من طريق الحكاية لتقحمك في حكاية أخرى او فكرة عميقة من غير أن تشتتك عن الحكاية الأولى، تحدثك حديث العفوية وكأنك تستمع لحديث الجدة تارة وحديث الأم تارة أخرى، وتتنقل بأسلوبها لتصل إلى حديث الأخت تارة ثالثة، فتدهشك بمخزونها اللغوي، وبرشاقة قلمها وبالتحكم بسر "السرد" التي تتلاعب به بمهارة ليصبح محسوسا ومتخيلا، يمس شغاف قلب المتلقي ويُشعره بمضمون أبعد من مجرد كلام مصفوف أو أفكار منثورة.
أبكتني بعض القصص والإشارات وأضحكتني بعضها الآخر، فتحت عيوني دهشة من أحداث ووضعت يدي على رأسي غير مصدق من تفاصيل أخرى، هززت رأسي طربا من "موسيقى" منسابة من بين السطور، و"ثملت" روحي من "إشارات" وجدٍ نثرتها هنا وهناك، تعجبت من "الأريحية" التي كانت "تجري" فيها و"تُثبت" مواقفها الفكرية.
غادة ذلك الخليط الوطني والقومي، الأردنية الأصل عربية الهوى التي تقدس الإنسانية وكل الأديان والمعتقدات، التي يفوح من داخلها أردنيتها وشركسيتها وفلسطينيتها وشاميتها بلا أي تمييز تتحدث عنهم جميعا بفخر وتتلمس عمق الاعتزاز بكل تلك الاطياف، أهدتني وجبة فكرية وثقافية وحكايات رفعت من منسوب "نظرتي" لقلمها الفريد وقدم لي درسا مجانيا في "الكيفية" التي تُكتب بها الخواطر، وأصوات "السرد" الواجب زرعه، والكيفية التي يتم فيها "تخليق" صور الشخصيات بحيث تراها أمامك رأي العين كما رأيت ولا زلت الى الآن "قبة خانوم".
وأختم بإعادة النص الآتي الذي ورد في روايتها والذي هزني بشدة وأنا في الطائرة على ارتفاع يزيد عن الثلاثين ألف قدم عن سطح الأرض، وأجزم أن حساسية "الروح" هناك كانت أعلى بكثير من لو كانت على سطح الأرض.
"بحرة أرض الديار ربما أصبحت خرابا، وهجرتها السنونوات، وذبلت الياسمينات المتعربشة على السلم، والنارنج ما قطفه سكان الزقاق الضيق، والايوان سقطت قنطرته، وركوة القهوة تبحث عن شاربيها في صباحات ومساءات كانت رائقة، وقطة تموء بانتظار لقمة من الداية، ولوحة زينت حجرا من أحجار زاوية دمشق القبلية الغربية، وجدت في أساسها (ادخل إرم يا غريب تقيم، واترك التعدي تسلم، لا تشمخ فتندم)".