الاثنين ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٤
الذاكرة والبحر والصراع الوجودي والبقائي
بقلم يوسف الخطيب

قراءة في شعر الشاعرة ليليان بشارة - منصور

ا
تكثر في الاونة الاخيرة الاصدارات الشعرية فيما يسمى الادب والشعر المحلي , مع العلم انه ليس محليا بقدر ما هو فلسطيني واضح للغاية . ولفت نظري عند عدد من الشعراء تراجع في طرح مواضيع مركزية من وظيفتها بناء علاقة بين القارىء وبين محيطه وتاريخه وحضارته وذاكرته وانتمائه الى وطنه . وبالرغم من الوفرة في هذه الاصدارات إلا انني من خلال ترصدي ومتابعاتي للأدب الفلسطيني بكافة اشكاله(النثري والشعري) وجدت امورا وجوانب مميزة تستحق العناية والدراسة الجادة في شعر كثيرين من الشعراء والشاعرات الفلسطينيين والفلسطينيات . ورغم ان عددا منهم(منهن) مقل في النشر والاصدار لاسباب مختلفة ليست من باب اهتمامنا الان ،الا انني عثرت في مكتبتي على ديوانين للشاعرة ليليان بشارة – منصور ولفتا نظري بعد ان تصفحتهما بدقة. واود هنا ان استعرض مميزات وطروحات هذه الشاعرة المغمورة لما في شعرها من حس مرهف وواقعية ولغة رفيعة المستوى.

عالجت الشاعرة ليليان في ديوانيها " كلمات على حافة الدائرة الذهبية " ( 1994 ) و " الندى والتين " (2002) مواضيع تخص الذاكرة الفلسطينية والانسانية من خلال تطرقها الى عدد من الجوانب المتعلقة بحياة الفلسطيني وما مر عليه من مآسي ونكبات من الغرباء ومن ذوي القربى .
وفي سعيها الى تبيان نوعية الذاكرة كثفت الشاعرة من رؤيتها لنوعية الجوانب التي يجب على الفلسطيني ان يعرفها . فالذاكرة التاريخية والمكانية تلعبان دورا مركزيا في قصائد كثيرة في ديوانيها , وعلى وجه الخصوص في ديوانها الثاني " الندى والتين " .

واخترت من بين هذه الجوانب ما له علاقة بالماء والبحر والمحيط والساحل والشاطىء والرمل والموانىء , ويبدو بكل وضوح تأثرها العميق من بحر حيفا كما ورد في احدى قصائدها الرائعة. ولا يتوقف تأثرها بالمنظر الخلاب للبحر قبالة حيفا بل يصل الى عمقه من خلال سباحتها في رحلة تاريخية تتعمق وتتجذر في صلب التاريخ الفلسطيني المتميز بأنه ليس تاريخا عادياً او هامشيا , بل هو تاريخ مركزي في المنطقة وله دور في صقل الفكر الانساني –الثقافي والمستقبلي.

عند التحدث عن البحر تتوارد افكار كثيرة في مخيلة الانسان , فالخوف من البحر مسيطر على كثيرين لكونه متقلب ومتخبط وهمه الابتلاع بشهية كل ما يلقى في باطنه , ولكن البحر في قصائد ليليان بشارة – منصور يلعب دوراً مختلفاً فهو محطة استراحة عند ساحله قبل ولوجه :"

غطاء سريري بلون ازرق
استلقي عليه ,
وفي سماء سريري اسبح .
انتقل من كوكب الى ساحل
من غيمة الى زنبقة ...
هذا الانتقال مرده السعي الى الراحة , والساحل هو بداية الراحة وبداية الرحلة التاريخية والانسانية التي تميز الفلسطيني .ومن خلال السعي الى التوازن تتطرق الشاعرة في قصيدة لها بعنوان " توازن " في ديوانها الاول :

رحالة
كان هو ,
تلفح به رياح
الشرق والغرب ,
ويخطو على الماء ,
يعانق الغرباء ,
يحزم عناوين الليل , يأتي ,
يغادر ,
بين شوارع رطبة
وبيادر .

والسير على الماء استعارة جيدة من قصة السيد المسيح عليه السلام كما اوردها كتبة الاناجيل . وهي تعبر عن محاولات الانسان الفلسطيني العبور من اللامعروف نحو المعروف , من المجهول والمغلف الى الواضح .

ويبدو بوضوح ان سير الشاعرة بآتجاه بناء منهجية ورؤية مستقبلية لتاريخ هذا الشعب المناضل والصامد تأخذ منحى واضحا وشفافاً اكثر من خلال القصائد في ديوانها الثاني . فديوان شعرها الثاني " الندى والتين " تتعمق انطلاقتها من قصيدتها الافتتاحية " ذاكرة الموانىء "

تسبيحة العشاق
في قاع الماء
تعبر الموانىء.
فتات اصوات
وحواس
مستلقية في مرافىء
والجسر طويل
والجسر بعيد
واجساد في انتظار .
ذاكرة
لتسبيحة الموانىء.

هؤلاء العشاق هم ابناء حيفا الذين هُجروا من مدينتهم وحملهم البحر الى
قاعه ولكنهم ينتظرون عبور جسر العودة اليها لتعود وتحتضنهم كأُم رؤوم وعطوف . زما زالت ذاكرة هؤلاء عالقة في الميناء الذن لفظهم ولكنه ينتظرهم ليعودوا عبره الى البيت الذي يجب ان يكونوا فيه.
وتحاول الشاعرة سلوك المحاسبة التاريخية الذاتية من خلال قيامها بترميم للذاكرة الفلسطينية التي عبث بها الزمان وغيرتها بعض الاعاصير والرياح , فتكتب في قصيدة " ترميم الذاكرة " في ديوانها الثاني :

في فضاء
ما بعد السماء ...
دونا اللقاء .
نُزيل اثواباً
جديدة ،
عن اجساد مغسولة
بمطر الاحتفال
رؤوسنا من بركان .
وجاءتنا الساحرة
كما حلمنا
لنتمنى ... وتغيرنا .
هل نستطيع ان نلمس الشمس حين تخمد النار ؟
نطوف في حلم الفضاء ...
نقول كلمات من شتى اللغات
ونبحث عن نور .
هل تعرفين التاريخ ؟
تساءلنا ...
والساحرة تصنع المعجزات
وبركان ما في رؤوسنا
شظايا وبقايا
هل نرمم ما بقي ؟
ام الساحرة تبدع لنا جديداً؟
وانتهت ساعتنا الرملية .

ويبدو بوضوح مسيرة البحث عن التاريخ واعادة بنائه دون انتظار من يأتي الى انقاذ ما تبقى من هذا التاريخ الصعب والمركب والمعقد.
وكما ذكرت سابقا فإن لحيفا دورا بارزا في عدد من قصائدها , اليست حيفا عروس البحر والكرمل وبوابة فلسطين ؟! اليست هذه المدينة أمل الفلسطينين الذي انقطع في ليل دامس ؟ كان الفلسطينيون يأملون في ان تكون حيفا اختا حقيقية لبيروت وللاسكندرية ولكن الزمن الغدار رفض هذه الاخوة وغرقت حيفا في سبات الى ان يأتي الزمن الذي تتجد فيه حيفا وتجدد فيه ميثاقها مع ابنائها . وقصيدتها " هل تعرفون بحر حيفا ؟ " في ديوان " الندى والتين " مليئة بالحنين الى الماضي الذي يعيشه الانسان الفلسطيني بفكره وبواطنه ومشاعره وعقله ودمه :

" قصص تغوص في ذاكرة
موجة ,
وتستنجد الخارجين
والداخلين ,
والراقدين والخالدين,
فيختنق صوتك , وتسمعه ,
فيربكك صداه في
جبل الكرمل
تفتح عينيك
وتسمع نبضات شجر
يلوح
صوت حفيف الماء
حنين خفي .

ويهاتفها صوت الذاكرة من بعيد ليعيد اليها قوة الوجود والصمود . هذا الصوت الذي لايفارق الفلسطيني اينما ذهب واينما حل . وبالرغم من ان الاكرة قوية في الذين عاصروا النكبة واحداثها القريبة والمباشرة الا ان هذه الذاكرة لا تقل قوة عند اجيال ما بعد النكبة ويتجلى هذا في قصيدة " ذاكرتنا الانتقائية " :

صوت من الذاكرة
يشد يدينا ,
يُحطب شفتينا
وحلمنا ينبت
من الكأس ,
ينبعث
يحاور حاضرنا
ينفض اليابس
عن اعيننا
وهمس
يغيب ... من جسمنا
مبخراً في روحنا . ...

وبلغت الشاعرة الى قمة في استخدام الحجارة الفلسطينية لتؤكد ان في الحجارة وما تحت الحجارة تتمركز قوة من الذاكرة الفلسطينية والوجودية والبقائية فتقدم وصفا لهذه الحجارة بأنها صلب الحياة والآمل في السمتقبل

نقلب حجراً
ونرى ..
كائنات تحت
حجارة ...
تحيا
تتنفس
تتزود بالاكل
تتحرك من جهة
الى اخرى
بنشاط على مسرحها
بحرية تتحرك .
ولا يموت كائن
تحت حجارة
ولا يموت تاريخ
تحت حجارة
ويحيا فكر
كان يوما
تحت فتات , ...

وتسير الشاعرة في مسيرة البحث القوية والعميقة عن الذاكرة , ويبدو انها رحلة شاقة وعسرة ولكنها مدبجة بوابل من الامل والرؤيا نحو افق منير فتناشد

" تقدموا
الى الساحل الاخر
ربما نرى خيال الريح
في صدفة مهجورة
في تغريدة عصفورة
تحت ورقة خريف .
شراع السفينة
يلوح لنا
تقدموا ...

انه نفس الشراع الذي كان في عام النكبة وحملت سفينته ابناء فلسطين وبالذات ابناء حيفا , هي نفسها سفينة العودة التي وان مالت في الخريف الا انها بعتقها وخشبها البالي تريد العودة الى موطنها لتستريح فيه .
واما الاجداد لذين ذاقوا الامرين عبر هذا التاريخ النازف في جرح لم يندمل بعد , فإنهم في قصيدة " وصية الاجداد "

" يموتون

وفي قلوبهم حسرة التشرد

اجدادنا !!

ذاكرتهم قبل السياج

جرة مملوءة بالكلام

وجرة مملوءة بالكلام ...

وجرة للاحلام .

لا ارض ... لا مال

صورهم

دُفنت هناك

بلدهم مجرد اسماء

في خارطة منسية ...

ولاجدادنا

في قبورهم الدافئة ..

ذاكرة محنطة

يعيشون في حلم العودة ..

لا يعرفون للزمن حدوداً

احلام لسنابل

احلام الزيتون .

وهذا هو الامل الذي يلف قصيدته بالرغم مما عاناه الاجداد من متاعب واهانة واذلال الا ان حلم العودة ما زال عالقا في ذاكرتهم كالسنابل الباسقة التي تعطي دون بخل وكالزيتون منغرسين في ذاكرتهم المخصصة في معظمها لفلسطين .
ولا تتوقف مسيرة الذاكرة عند شاعرتنا عند محطة التاريخ بل تنجح في دمج التراث الفلسطيني القديم والمتجذر في رحلة الحياة الفلسطينية ففي قصيدة " طاحونة الذاكرة " تقول

من جنى الزبد الاخير ؟

من حرك العصار الاخير ؟

من ...؟

وكانت السنابل

ترقص رقصة الحرية

على سطح الارض ...

وطحنتها الايدي ..

واكلتها الافواه الجائعة

وجلست الناي برفقة الذاكرة

في ظل الطاحونة

يعزفون ..

يعزفون ...

هذا التعايش بين الذاكرة المؤلمة والتي فيها نفحات من الموسيقى التراثية الوجودية تلعب في مشاعر الانسان لتؤكد ان ما تنتجه الطاحونة هو خبز للبقاء والامل والبناء , وكذلك فالعزف هو للبقاء في ترنيمة متناغمة ما بين القمح المطحون وما بين الموسيقى الخارقة للألم الفلسطيني .

الوطن – الصراع الوجودي – البقائي

وفي هذا الميدان لمسة من الشاعرة ليليان بشارة – منصور , فكانت في ديوانها الاول واضحة بإنتمائها الى وطنها فكتبت قصيدة بعنوان : انا فلسطينية

اعرِّفك ...

أنا امرأة فلسطينية

لا تخف من صمودي وعنفواني

ففي القلب حب من سنين

لن تخيفك ثورتي

ففي ثورة المرأة احياناً

انوثة ... وخشوع .

حب المرأة الفلسطينية

لا يتغير

ولا يتبدل ..

المرأة الفلسطينية يا سيدي

إن احبت ... لا تخاف

فمن احب بلاده ثلاثين سنة

هل يعجز عن حب انسان ؟

فواقع الامر ان هذا التمازج بين الحب والانتماء هو لفلسطين ولكل فلسطيني شغوف وعاشق بحب وطنه , فلا فرق بين ان تحب انسانا وان تحب وطنك . لم تُدخل نفسها في عملية اختيار محيرة , فالحب سيان وموحد للإنسان الذي تحب وللوطن الذي تحب .
وتعود الشاعرة في ديوانها الثاني " الندى والتين " وفيه بلوغ شعري متميز , الى موضوع الوطن من خلال قصيد " بيت جدتي " :

تستيقظين
لتعطري بيتك
برائحة الخبز
ويكون فطورنا
غذاء روحياً
غذاءً فلسطينيا ,
ونكبر سوياً .

هذه الميزة في النمو ما بين الشاعرة الشابة وما بين جدتها تشير الى عبق الحياة المنبعث من شباب الفلسطينيين الذين لا يريدون مفارقة شبابهم , حتى لا يفقدوا الامل التاريخي بإعادة اكتشاف فلسطين الحب والحضارة والتضحية واالعطاء .

هذا غيض من فيض اكتشفته في قراءة متأنية لعدد كبير من قصائد الشاعرة ليليان بشارة – منصور . فالشفافية واضحة للغاية وقريبة من الواقع الحياتي والوجودي الذي يريد كل فلسطيني ان يستوضح امره ويكون عارفا بكل وضوح ما جرى في التاريخ .
اضافة الى ان لشاعرة عرفت كيف تستفيد من واقع الالم الفلسطيني والامل الفلسطيني , فالذاكرة التي استحوذت حيزا لا بأس به من ديوانها الثاني قد لفت نظري وشد انتباهي , من حيث ارتباطه بالبحر والماء مصدرا الحياة للأنسان ولكائنات البخرية التي تعيش بحرية واستقلالية وتواجه خطر الموت والانقراض لوحدها براحتها وذاتيتها . والواقع ان الشاعرة قد كشفت جانبا مهما في رحلة الفلسطيني الذي هجر من وطنه ولكنه يريد العودة الى وطنه بنفس الطريق التي سلكها ليمحو فقرة من تاريخه تؤلمه وتوجعه في اعماق قلبه .

هذا التوجه في الشعر الفلسطيني جدير بمزيد من الانتباه والبحث , وخاصة تلك الاعمال المتميزة بالجدية في الكتابة والبنية المنطقية ذات الافكار والطروحات الموضوعية والعملية .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى