الأحد ٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم محمد محقق

قراءة في عنوان ولوحة كتاب«عطر.. معطف.. ودم..»

 

إن الرؤية لعنوان الكتاب الذي هو موضوع دراستنا يشكل المدخل الأساسي لمعرفة خبايــا وأسرار عالم القصص المكونة له، والذي نجده مثيرا وغنيا بالإيحاءات التي تقبل التعدد في التأويـل، حيث نجده يتكون من ثلاثة أسماء نكرة بينها قرابة التداخل والتمازج لارتباطهــا بالعنصر البشري كما أن بعضها يكمل البعض لرسم لوحة تعبيرية على ما آل إليه الوضع الحياتي في زمن الترهل والضياع واللامسؤولية...، فلفظة عطر توحي من خلال استنشاق ريحه إلى جماليـة الكون الزاخر بالمظاهر الجميلة الخلابة، وإلى الحب والعشق لكل ما هو مثير وجذاب ومؤثر وهو في قصتنـا ’’1عطر’’هاتـــه يأخذ مدلولا آخر حيث يعكس إشارة إلى الهوى والدعوة إلى الفتنـة المتجسدة في المرأة الجميلــة التي سلبت عقول الرجـال وجعلتهم ينتظرون الساعــات الطوال قصد التلذذ بالنظر إليها وهي تتمايــل في مشيـة الشيطــان الذي تتمنى مساعدتــه قصد لفت نظرهم عن عدم كشف قنــاع الزيف الذي تتوارى خلفه حتى لا تنكشف شخصيتها الحقيقية المنطويــة تحت سقف رائحـــة الكره والبغض ومقت النفس السابحة في سماء الفسق الإبليسي حيث إقبالها وإدبارها في صورة هذا العدو الأزلي، والذي نفهمــه نحــن من هذا المغزى هو معالجــة هذه المشكلــة التي ليست بالهينــة والتي لا يأتي من ورائهــا إلا الإهمــال للأسر وتمزيق أركانهــا، الناتــج عن تسهيل الفساد والانحلال الأخلاقي، ولهذا نــرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بعناية المرأة هذا الكائن البشري ذي الجسـم الناعــم المجسد في الأم رمز الحنان والأخت السند الطيب، والزوجة اللباس الشرعي، والابنة زينـة الحياة وهذا ما يريد الكاتب عبد الحميد إيصاله للمتلقي عبر كتابه الذي جل قصصه تتمحور حول هذه الشخصية / الأنثى، لما لها مـن دور فعــال في المجتمــع لأنها شقيقـــة الرجـــل في كل شيء، ثم يعرج بنا إلى لفظــة ’’2معطف’’ هــذا الرمــز الثــاني الذي يتضمن دلالــة خاصة به، ألا وهو الدفء الروحي والجسدي والاحتماء به مما هو مجهول، إضافة إلى أنه رمز الزينـة والأبهـــة، كما يعبر عن وصف حالـــة اجتماعيـة، أو وضع اقتصادي، أو حالــة طقس... واختيــار الكاتب للمعطف كمقتطف ثان لعنــوان قصته يدخل من باب الانتقاد الساخر للحياة والواقع والآفــات الاجتماعية، حيث التهميش والتبعيــة والجري وراء حاجات الغرب، متقمصا دور غيره من أجل مسايرتــه ومواجهــة التحديــات الكبيرة المطروحة قصد ضمان حقوق الذات الحالمة بالعيش تحت سماء أوروبا أو أمريكا أو..، همه الوحيــد العيش تحت النموذج الغربي وهي إشارة إلى قضيــة الإنسان المطحون تحت إلحــاح القهــر اليومي والمجاني والذي تترجمه قصة الكاسكادور بامتياز حيث الشباب يتيه في الكد في سبيل اللقمة الصعبة وتحقيق حلمه البسيط بعدما أعياه قانون البحث عن وظيفة تليق بمستواه التعليمي، ومباشرة يقفز بنـا الكاتب إلى لفظـة ’’3دم’’ يختم بهــا عنوان الكتــاب، هذا الدم المنساب في العروق نارا وعشقــا، ثأرا وقرابة، حيــاة وتقتيلا، وقد جعلــه الله تعالى أول المحرمــات وفي إراقته بغير حق شتــات الأمــة وضياعهــا كالذي نجده في قصص ’’كيف اندلعــت الحرب’’ و’’ الذئب’’ و’’دم’’ و’’ الكاسكــادور’’حيث القسوة والبؤس والمعاناة والذل والهوان والضياع والتقتيل المتمثـل في بشاعــة الحصــار والحروب والدمار، كما أنه إشارة واضحة وجلية إلى اغتيال الفكر والوطن والبراءة العربيــة عامـة والقضيــة الفلسطينية والعراقية خاصة وهو ما تتضح رؤاه في تساؤل الطفل حول ماهيـة الذئب /صهيـون هذا الوحش الذي يتربص بالأغنام/ العرب، و المعروف بشراسته، في إشارة واضحة نلمسها من إجابة الأب لفلذة كبده محذرا إيــاه عبر تفسير المثل القائــل ’’ الصراع من أجل البقـاء ’’ المؤسس في النفس والعقل قيــم القسوة والشراســة والبطش المفضي إلى الغـزو والسلــب والنهــب والتقتيــل لضمــان الاستمرارية في الحياة.

و الكتاب "عطر..معطف.. ودم.." لكاتبه المتميز عبد الحميد الغرباوي، هو مجموعة قصصية تتضمن بين طياتها اثنتي عشرة قصة مع ملحق يحتوى على رسائل عنكبوتية، والذي نستخلصه من مختلف هذه العناصر والمكونات الدلالية لها أنها تؤدي دورا مهما في نمو النص واكتمــال أداوتــه السياقيــة وتنويع تشكيلاته وضمائره التي تحوله إلى بنية دلالية ذات أبعاد تشكيليــة حواريــة متعددة القراءات والتأويلات...

كمــا أن لوحــة الغلاف تنسجم مع واقع الحــال المشخص من طرف الكــاتب والتي هي عبــارة عن شخص دون ملامح يتطلع للمستقبـل ويتشوق إلى معرفــة ما يكون فيــه، يجلس على صخرة الأمــل يتوكأ على عكاز رمز الوقار والهيبة والجمال وكأنه يذكر الأمة العربية بماضيهــا العريق الذي بــات الآن يحتاج إلى طلب العون و السند من هذا العجز والضعف والتأخر يرشدها أن خلاصها يحمله في يده اليمنى ’’الشمعدان ذي العينين الجاحظتين وفم يعرف كيفية الحوار المتمدن’’ رمز النـور والأمــل من حمأة الجهـل والظلمــات والتحرر من الاختباء وراء قبعة يميــل لونهــا إلى الاصفرار، كدليــل للانصياع والطاعــة العميــاء للاستبداد والقمع والذبــول، ويأبى الكاتب إلا أن يبحر بنــا في سفينته مصرا على فضح وتعرية الواقع حيث المتمنيـات بالسكن اللائق في ظروف الغلاء (مفتاح) والعيش الرفيـع والأبهــة (كـأس وغيلون) والتحرر من التبعيــة والاستقــلال الــذاتي (طائر)، كل هــذا على جدار صلب لا يمكن اختراقه نتيجة الخوف والهلع من المجهــول، ورمزيــة الجدار ترتبط بماهيــة وظيفية تنطوي على الانفصال والانعزالية، وهو هنا يشير إلى فعل الإبصار تجاه الداخل أو ما يسمى بالهوماينزم الداخلي للفرد، والذي يترجم الصراع الحاد بين الوجود والعدم، بين البناء والهدم، بين اليأس والرجاء، و.. مع تحذيرنــا من خطر آخر يتمثــل في الزحف العمراني والهجرة القرويــة، حيث المساحة الخضراء تتقلص مما يحدث خللا طبيعيا ينجم عليه ضرر في شتى المجالات، معلنا ذلك في اختياره للون الأسود لون الظلام والتستر ومخادعة الذات مجسدا ذلك في السروال والحذاء والرمــوز التي على الجــدار، المعبــر على وحدة مخيفــة، مغلقــة على القلــق والخوف والتشــاؤم والإحساس بالفقدان نتيجة هذا المـزاج السوداوي الجريح الذي يعمــق الإحساس بالفظيعة وخيبــة الأمــل والعجز والقنــوط والمرارة، ثم يخرجنــا من هذه الكـــآبة بدعوته لنـــا إلى التغلب على هذه العنـاصر السابقــة والانتصار على الحيــاة بالتشبث بها، تترجمهــا هذه السحب البيضاء وهذا النهر الذي يخترق السهل في إشارة منه إلى أن أبواب الأمل ستظل مفتوحة إلى الأبد.

في كتابــه هذا يجسد الكاتب الفذ عبد الحميد الغربــاوي بشكل ضمني موقفــه من الأمــة ومأساتهــا وعذابها وجراحها، حاملا هموم الإنسان المعاصر بروح شفافـة، تنبض بالحب والإيمــان والحزن والقلق في التزامه بقضايا الوطـن والإنسانيــة معتمدا في ذلك لغة سهلــة مكنتــه من تكوين لوحــات إبداعية لم تغفل عن ترجمة شخصية الأمة السابحة في الضياع و البلبلـة والاضطراب مستوعبا بشكــل عام القضايا المجتمعية الجديدة في ظل التطورات التي يمر بها المجتمع.

 

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى