الأحد ٢٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
قمر الصمت وعربات الرؤية
بقلم محمد دلة

قراءة في مجموعة الشاعر الأردني وليد السويركي "أجنحة بيضاء لليأس"

ما أهون أن تجالد العاصفة! وكم نحتاج من حكمة الماء كي نعبر شرنقة الصمت لنمسك عليقة الكلمات تجهش بالقبس الأخير؟ وعلي الآن أن أخفض جناح الروح وأغرز في ذاكرتي ما نشز من فتنة الأسئلة لأجوس وصايا بيسان التي اختارتها الآلهة لتكون محرابا للصمت دون المدائن، أتعلم أن لن يصغي لصرختها أحد؟ أو يعلم ذلك الوثني أن في الصمت جمرة الكلام؟ وما الذي أقوله في حضره الفتى البيساني وقد تعمدت قدماه بلزوجة الطين وطنين الصفيح الرمادي كشظف المنفى؟ ماذا أقول لاصطباره ولكبرياء النمل في خطاه، ولترف النحل في امتداده؟

لا بأس، فكل قراءة ظل، وكل ظل رؤيا، وكل رؤيا"أجنحة بيضاء" وكما يريد وليد السويركي فهي"لليأس"تمدد ريشها في 85 صفحة من القطع المتوسط وعبر 42 قصيدة تتزاحم شكل القصيدة النبضة الومضة وكأننا أمام هايكو يابانية.، وما شذ عن تسلسل النبضات من قصائد أوى إليها إذ اتخذ شكل مقاطع صغيرة تنسجم مع الشكل العام للمجموعة.

قصائد الشاعر تشكل الصرخة الأولى له في مواجهة الأشياء فترى معظم استجاباته يظللها الانشداه والمفاجأة وعدم التوقع الصادر عن تحسس لنتوءات الوجع وعن نزف باتجاه القلب مخافة أن يُخدش جدار الأشياء.

وجدتها!

وجدتها!

لكنها

في زحام الموت والجنون

أضاعتني

فهو لا يفلسف الاستجابة بل يواجهها كما هي دون تعقيد مائلا إلى رومانسية الرؤية وغنائية القصيدة، فهل استطاع الشاعر عبر ما اختاره من شكل ومن مضمون أن يؤثث قصيدته نحو ما أراد.

لقد اختار الشاعر قصيدة النثر لتحمله، وقصيدة النثر أصعب القصائد، فلا شكل ولا موروث نتكئ عليه، وإنما توتير لغوي وصعقات متوالية تصدم المتلقي وتشحذ خياله

لاستكناه اللغة والميثولوجيا والصمت والبياض، وقد وفق الشاعر في توتير لغته حيث استند إلى الحذف المتكرر ليخلق حالة من الترقب تفيض على قبابها الروح بالانسياب والأسئلة. ففي قصيدة "جرح أول":

حبة الرمل تذكر (المفعول به محذوف)

ملمس الصخرة يذكر (المفعول به محذوف)

. . . . . . . . .

وأنت تشقى

كي تتذكر رائحة التراب

وامتداد القصيدة كمنواليين سرديين يؤخذ المنوال الأول شكل الاسم كمبتدأ

والمنوال الثاني يؤخذ شكل الجملة الفعلية كخبر للمبتدأ عبر فعلها المضارع الذي يشير ويؤكد حالة الاستمرار والتجدد في التذكر ليعبر عن قدرة الأشياء على الخلق والإبداع، وبما أنه لا يستطع التذكر فهو مصلوب على أجنحة اليأس، وحين يمتلك التذكر يمتلكه محفوفا بشقاء الطين والزنك وأوجاع فقد الإخوة والأصدقاء مسجونين أو شهداء في محاولة لرسم بيسان الدرب والذاكرة.

وفي قصيدة "سجن"

النهر في ضفتيه

الطير في سمائه

الموجه في محيطها

الريح في الجهات الأربع

وأنت :

في المرآة

فهو يحذف الخبر في الجمل الخمس، ليطلق خيال القارئ يحلق في ملكوت ما وراء النص، وكأنه يشارك في كتابة القصيدة.

ويجنح أيضا لاستخدام صيغة يفعّل التي تشي بالتمادي والاشتداد.

لمن تكحّل بالسواد الحرف؟

لمن تزيّن البياض بالكلمات؟

وكذلك استخدام صيغة "فاعَلَ" والتي وان تحمل الالتباس في الفاعل فإنها تشير إلى التشارك وتحفز البحث نحو الفاعل الآخر فتكسر كسل التلقي.

علق القلب على ريح

كلما عانقت شجرا

نزف

كلما صادفت في تيهها غيمة

بكى وارتجف

وكما يتضح من الشواهد السابقة فان الشاعر قد قسم مقاطعه أسلوبيا وموسيقيا مما أضفى عليها رونقا وانسجاما جميلا قل نظيره، وحين تستجلى المقطع السابق تستطيع أيضا أن تلمح التوافق ما بين الريح والشجر والغيم وما ترافق من حركات تنتمي إلى ذات السلسلة، فعلق وعانق ونزف وصادف وبكى وارتجف، جميعها تعبر عن حالة الحراك والاهتزاز والاشتباك، لتشكل معا صورة شعرية رائعة منسجمة.

ويؤكد الشاعر إرادته الصلبة ورغبته باحتساء الحياة حتى آخر القلب عبر الاستخدام الملحوظ للفعل المضارع بصيغه المختلفة، وكأنه يعلن أن رغم أجنحة اليأس فإني ما زلت مصرا على بياضي وصمتي المقدسين، ومما يحسب للشاعر بعده عن المباشرة والخطابية، وانسيابه كجدول غائر في بلور النصوص، وكذلك ترابية صوره الشعرية الضاربة عميقا في مسك التجربة والمعاناة، والتي تجافي جثث التعقيد والغرائبية المحنية الظهر في الاستعارات والصور العقلية المستندة إلى ثقافة وأفكار صانعيها القصية عن لذعة التجربة وعن لسع أقواسها.

أحمل في الليل قناديلي

أتوسل دفء الرغبة في امرأة ظمأى

تقرأ في العتمة جسدي

تتهجى أحرف إنجيلي

أيمكن لهذه الصورة أن تتدانى إلا من شجرة وليد السويركي، أي مدينة يمكنها أن تضيء هذا النص غير مخيم الحصن حيث كان على الفتى أن يشعل قنديله، ليقرأ في العتمة المتشحة بوخزة ضوء تحلم بثمرة الكهرباء، وتتراءى بعيدا المدن المضاءة حد النهار، وقد يخيل للبعض أن كلمة أحرف لا مكان لها هنا وان ذكرها حشو لا ترجّى غيومه، فالإنجيل يتشكل من أحرف وكلمات، ويغيب أن مصباح الكاز يجعلك تتهجى ساطع الحروف فكيف بإنجيل من حروف صغيرة.

ومع أن الشكل الذي اختاره الشاعر يوجب عليه ان ينحاز للقصيدة الصورة إلا انه استطاع الفكاك من المأزق عبر"حجم الخبر" في عباراته، اذ أن معظم العبارات تحمل في شغافها فضاءات من المعنى جعلتنا نتجاوز بعض الوهن الذي أصاب الصورة الشعرية أحيانا.

الغياب صارخا

ها أنا!

فاتبعوني

كل اللواتي سمعنني

آمن بي

إلا. . . . . . .

التي من اجلها بعثت!!

وقد شاب المجموعة ما يصيب غالب المجموعات المطبوعة حديثا من هنات مطبعية كاستخدام الفاصلة الانجليزية بدل العربية، ونصب كم مرةٍ "مرةً" بدل جرها بتنوين الكسر، وما يصيب غالب "قصيدة النثر" من إطناب يفسد انبجاس المعنى ويسجنه ضمن محددات لا تفيد نكتة بلاغية، فنلمح الشاعر يقول:

عبثا تترصده

عبثا تتمناه

لن تلقاه

"أوليس في معنى العبث المذكور مرتين ما يغني عن عبارة "لن تلقاه"

فهو

لم يزل يركض

طليقا

خارج المرآة

"لماذا طليقا؟ " وفي الركض خارج المرآة ألف معنى يدلان عليها بشفاعة ولطف جميل، ولماذا نقيد إبداع "يركض" التي لا يمكن أن نُحلَّ بدلها أي كلمة أخرى، سواء أكان من جنسها أم من غيره؟ فيركض جاءت لتعبر عن تجدد واستمرار الركض بإرادة وعزم وإصرار، وشتان ما بينها وبين "راكضا" التي تفيد صفة قد تزول.

وفي قصيدة "ارخميدس الخائب"

وجدتها!

وجدتها!

ولكنها

"في زحام الموت والجنون"

أضاعتني

لماذا لم نترك المتلقى يسافر في سؤال"أين أضاعت حبيبها" وقيدناه بزحام الموت والجنون.

وكان يمكن للنص أن يتنزل في بوحه وان يتدثر بدغدغة من غموض شفيف؟

وكذلك سقوط بعض المقاطع في النثرية والمباشرة

"في صحاري الكلام يزيد وينقص"

"ما الذي يبقيك حيا بعدها"

نص نثري عادي كثر استخدامه.

ما الذي يبقيك

قد كان الليل حولك

صار الليل فيك

"حقيقة لا تختلف عن قولنا الأرض تدور حول الشمس."

وأخيرا لا بد من التأكيد على أن بعض الهنات هنا وهناك لا تفقد المجموعة ومضة واحدة من زخات بريقها، ولا بد من الإشارة إلى أن تفرد المجموعة وتجاوزها لسقف النصوص الراضية عن نفسها في مشهدنا الثقافي، وما يحمل الشاعر في غياهبه من غي التجريب ومن وجع الرؤية التي تلمستها في هذه المجموعة جعلتني أمس جانبا منها بنيزك الملاحظة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى