الجمعة ١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم أحمد بابانا العلوي

قراءة في «مرآة الغرب المنكسرة»

ـ 1 ـ

الأستاذ حسن أوريد يتقلد منصب "مؤرخ المملكة" في المغرب، ويعد من المقربين من الملك محمد السادس، الذي عينه في العديد من المناصب الهامة.
الأستاذ حسن مثقف وكاتب وأديب وشاعر، أصدر عدة كتب نذكر في هذه العجالة بعضها:

الإسلام والغرب والعولمة الصادر عن منشورات الزمن الطبعة الثانية 2006.
تلك الأحداث..، الصادر عن منشورات مركز طارق بن زياد الطبعة الأولى 2006.
صبوة في خريف العمر رواية صادرة عن منشورات مركز طارق بن زياد 2006.
أما كتابه الخير الذي نخصه بهذا المقال فقد صدر عن دار أبي رقراق في شهر اكتوبر2010 .

ولكن قبل أن نتناول رؤية الكاتب النقدية للصورة الدغمائية للغرب، المحاطة بحائط من الوهم والأكاذيب المقررة وفقا للرأي الذي يقرره الفيلسوف "ماكس نوردو" في أبحاثه..، وخاصة في كتابه الأكاذيب المقررة في المدينة الحاضرة " وقد حدد في هذا الكتاب ما ظهر له من أكاذيب الحضارة الأوروبية الأكذوبة السياسية والأكذوبة الاقتصادية وما إلى ذلك ومن ثم يجب التأكيد على أن الوعي النقدي. ويعتبر شرطا ضروريا قي أي تفاعل أو تواصل بين الثقافات.

فغياب الرؤية النقدية يؤدي لا محالة إلى الارتكاس قي التقليد والاستنساخ..، فالفعل الثقافي هو فعل إبداع والنظر الرشيد لتحديد موطن القصور والاختلال، التي تعيق مسيرة الرقي والتطور الاجتماعي..

ومهمة الكاتب إذن أن يكون واعيا بقضايا عصره، مدركا لما أحدثته العولمة من تحولات وتغيرات على جميع الصعد.

ـ فلن نكون شيئا، مذكور إلا إذا فهمنا ما يعتمل في عالمنا هذا المتشعب المتداخل..(1)

ونتيجة لذلك استبد بالمؤلف شعور جامح بالرغبة في الفهم وحب الاطلاع فعاين قضايا ودرس وقرأ ما تيسر له حول التحولات الكبرى للرأسمالية المعولمة وما سوف يترتب عنها من رهانات وأخطار وأزمات في مختلف أقطار المعمور ..

فالعولمة الرأسمالية التي يتمحور حولها موضوع كتاب (مرآة الغرب المنكسرة) تعني إضفاء، صفة العالمية أي الهيمنة والسيطرة والأحادية على جميع الأصعدة الاقتصادية والمالية والسياسية والثقافية، بحيث تتداخل كل هذه العوامل وينتج عن تفاعلها تحولات تؤثر على حياة الناس في جميع أنحاء المعمور.

لقد تطرق المؤلف في مؤلفاته السابقة إلى العديد من مظاهر العولمة وأبعادها.. وبالرغم من أن هناك خيط ناظم يربط بين كتاباته كلها. إلا أن ما يميز كتابه الأخير هو انه أراد أن يتتبع "سراديب" العقل الغربي فيما يشكل جموحا بائنا وزيغا سافرا في لهاثه وراء المادة وفي تقديسه للنزوع العلمي، والعلموية، وفي جريه وراء اللذة وعبادته للصورة، وفي داء النسيان أو الأمنيزيا التي أصابته وأنسته قيمه. (2)
من هذا المنطلق يريد المؤلف أن يقدم لنا قراءته النقدية للعرب.

وهنا لابد أن نتوقف عند العنوان نظرا لما له من دلالة فمعلوم أن لفظ مرآة في اللاتينية (spéculum ) ومنه اشتق لفظ (Spéculer) الذي يعني عاين وتأمل

إن ما تجليه القراءة النقدية من حقائقه يندرج ضمن الفهم الصحيح لقضايا العالم وخياراته وتوجيهاته. فالمرآة إذن تعكس صورة الأشياء وملامحها الحقيقية لكل من يدقق النظر ويجتهد من أجل معرفة جوهر المعاني وإدراك أسبابها وغايتها.
ومن المؤكد أن كل نظر صحيح يوسع ذائرة النظر ويمتد بحدوده إلى أفاق أبعد.
ضمن هذا المنظور يمكن أن نضع مراجعات المؤلف في كتابه هذا الأخير الذي نقدم للقارئ مراجعة لأهم مضامينه، مع الإشادة بجهده المحمود في إطلاع القاريء العربي في كتاباته على إشكاليات موضوع الرأسمالية المعولمة...

ـ 2 ـ

الفصل الأول من الكتاب بعنوان "اقتصاد بلا ضابط" يرى المؤلف أن الوهم بسمة مميزة لنظام السوق والإيديولوجية المتغطرسة.

إلا أنه يجب أن نميز بين الرأسمالية الصناعية والرأسمالية المالية التي تقوم أساسا على المضاربات المالية، على اعتبار أن الرأسمالية الصناعية كانت تنتج السلع، وأن والرأسمالية المالية تنتج الأفكار أو على الأصح تبيع الوهم واستغلال معرفة دواليب المؤسسات المالية ورصد تحركات رؤوس الأموال..(3)

لقد صدرت عدة كتب تتطرق إلى الليبرالية الجديدة أو الرأسمالية المعولمة ومن ضمنها كتاب الاقتصادي الفرنسي كلود البير (رأسمالية ضد رأسمالية./1991) الذي يميز بين عدة أشكال من الرأسمالية وكذلك كتاب تارثولستر "رأسا لرأس./1992" الذي يميز بن النموذج الأوروبي والنموذج الأمريكي الذي يراهن على المقامرة..، هناك أيضا الاقتصادي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل جوزف ستيكليتز (joseph stiglitz) صدر له كتابان (نهاية الوهم./ 2002) و"حينما تفقد الرأسمالية رشدها./2003" جميع هذه المؤلفات تناولت بالتحليل مختلف جوانب التغيرات التي طرأت على السياسيات الاقتصادية العالمية نتيجة هيمنة الرأسمالية المعولمة والأحادية القطبية..
يعرض لنا المؤلف بعض المرتكزات الأساسية لتوجهات الليبرالية الجديدة التي أضحت "انجيل الدبلوماسية الأمريكية وصندوق النقد الدولي" وتقوم هذه العقيدة على مبادئ ثلاثة : التقشف في النفقات العمومية وخوصصة القطاع العام، وتحرير المبادلات التجارية.

والغاية من هذا التوجه هو خلق دينامية اقتصادية، إلا أنها عوض أن تكون وسيلة، مرتبطة بسياق خاص، وظرفية معينة أصبحت هذه الأسس هدفا في حد ذاتها، وافضت في حالات عدة إلى نتائج عكسية.(4)

لقد تعامل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مع الخوصصة من منظور إيديولوجي. وغير آخذ في الاعتبار الانعكاسات الاجتماعية..، بحيث لم تندرج الخوصصة في سياق ماكرو إقتصادي يؤدي إلى إحداث مناصب شغل جديدة فشركات القطاع الخاص التي حلت محل القطاع العام كان همها الربح السريع ولا شيء غير الربح. ويرى المؤلف بان الأزمة الاقتصادية العالمية التي يشهد العالم أثارها منذ 2008. تعطي لكثير من أحكام الخبراء الاقتصاديين العالمين، شرعيتها. فيما يتعلق بتحرير المبادلات التجارية التي أدت إلى تهديد قطاعات بأكملها في العديد من البلدان، دون أن تعوض بقطاعات بديلة كما كانت تزعم أدبيات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، كما أن الدول الكبرى تعاملت بمكيالين، فلم تطبق نفس المعايير بالنسبة للتصدير أو الاستيراد، كما أنها لم تكن تستنكف من وضع حواجز أمام المنتوجات التي يمكن أن تهدد منتوجاتها في الميدان الفلاحي أو قطاع النسيج.(5)

لقد فرض صندوق النقد الدولي مبادئ الخوصصة وتقليص النفقات على الدول بطريق يتسم بالاستغلال الاستعماري وإملاءات المنتصر في الميدان العسكري..(6)
كانت الدول تخضع لهذه الإملاءات طلبا لرضا سادة عالم المال والاقتصاد..
لقد تبدت كثير من الاستثمارات الأجنبية عن آثار سلبية..

فقد خلق هذا الاستثمار جيوب غني دون أن ينسحب على كافة المجتمع..، فما يسمى بالاقتصاد المزدوج ليس مرادفا للتنمية فهو يفضي إلى اختلالات مجتمعية بين الفئة المستفيدة الضيقة وبين الشرائح الواسعة من غير المستفيدين.(7)

لقد كان شاغل صندوق النقد الدولي فرض الليبرالية من دون شباك تأمين لمواجهة المخاطر التي قد تنجم عن الاختلالات التي تفرزها الإصلاحات المفاجئة..(8)

ولا شك بأن تحطم السفن الصغيرة على الصخور بفعل الموج الكبي لليبرالية الجديدة. كشفت أن التصحيحات التي أدرجها خبراء الصندوق قد ظلت محدودة في كثير من البلدان التي طبقت عليها(9).

يقول ستكليز stiglitz في كتابه "الرأسمالية تفقد رشدها" : "لقد تصرفنا كما تم أننا وضعنا اليد على الوصفة الوحيدة المضمونة من أجل بلوغ الرخاء وتصرفنا بعنجهية مع هذه الدول.. من أجل أن تنحو هذه الدول المنحنى الذي نرسمه لها.

لقد تصرفنا مع اقتصاديي وخبراء العالم الثالث وجلهم لامعون وذوو تكوين نظري متين، تصرفنا معهم كأطفال.

لقد كان تعاملنا مريعا، ولا حظ المرضى أن ما كنا نوصى به مغاير لما كنا نستعمله نحن من دواء.

يعلق المؤلف على الفقرة السابقة بقوله: "لقد كانت الليبيرالية الجديدة انتقائية أو بصريح العبارة كانت مستغلة وأبانت عن أساليب جديدة لاستغلال الضعفاء من قبل الأقوياء.(10)

والأدهى والأمر هو هيمنة القطاع الخاص على براءات الصناعات الصدلية لأنه ببساطة يحرم الدول الفقيرة من الحصول على الأدوية..، الأمر الذي دفع حلبات الاحتجاج ضد العولمة في سياتل وبورتو أليغري، بنداء إلى إعفاء الدول الفقيرة من رسوم براءات الاختراع في ميدان الفلاحة والأدوية... (11)

كان خطاب الولايات المتحدة يتسم بالازدواجية. فهي تتذرع بحرية المبادلات كلما كان ذلك يحقق مصلحتها، ويقول ستكلتز بان أمريكا لم يكن لها من رؤية اقتصادية ولم تكن تؤمن بنظام حقيقي للمبادلات الحرة. وكانت رهينة المصالح الخاصة فقط. (12)

لقد اعتبر دهاقنة النظام المالي الأزمة المالية في التسعينات من القرن الماضي أمرا عابرا وحادثة سير..، إلا أن تواتر حوادث السير هذه. أبان أن المشكل بنيوي يعود إلى اختلالات بنيوية في عملية تحرير الاقتصاد التي تقف وراءها ايديولوجية جامحة ومتغطرسة، من طبيعتها إنتاج الأزمات .

إن كثيرا من الخبراء لا يرون في الأزمة حدثا عابرا بل بنيويا وبالتالي يقتضي إعادة النظر في أسس منظومة السوق كلها . فلا يسوغ أن يشتغل بلا ضابط..، إذ لا يمكن لأي تنظيم مجتمعي آن يستمر بدون قيمة التضامن... (13)

قد يرى البعض بأن الأزمة مؤشر على نهاية هيمنة الغرب أو بداية أفوله..، ومما لا شك فيه أن العالم مقبل على تحولات كبرى سوف تغير من تراثبية المواقع على الصعيد الكوني.

ويختتم المؤلف هذا الفصل بقوله بأن العولمة أطلقت عقال قوى جامحة لا ترضخ إلا للأنانيات. من الصعب كبحها. في غياب منظومةدولية منسجمة، تقوم على اعتبارات التضامن والتعاون، ومن شانها أحداث تغييرات عميقة على ما يسمى بتحول الثروة .
وإذا ما ظل الإنسان الغربي ومن يحوم في فلكه يقدم الفعالية والنجاعة على الإنصاف فإنه يخشى ألا تكون الأزمة الاقتصادية إلا توطئة لما هو أسوأ . (14)
ـ إنه مؤشر على نهاية العولمة السعيدة .

ـ 3 ـ

في الفصل الثاني من الكتاب بعنوان باسم التاريخ يبدأ المؤلف بملاحظة تندرج ضمن رؤية تأملية فلسفية عميقة كمدخل للأفكار التي ستعرضها في هذا الفصل.
يقول المؤلف: "بين اليد الخفية لآدم سمت ومكر عقل التاريخ عند هيجل ترابط بل إن مكر التاريخ يمت بأوثق الصلات إلى اليد الخفية..." وبالتأكيد فإن سقوط حائط برلين يعتبر إيذانا بانتصار التاريخ كما ارتآه هيجل. كما أن انتصار اليد الخفية هو انتصار الليبرالية ومن هذا المنطلق جاء تصور فوكوياما بأن التاريخ بلغ منتهاه بانتصار قيم الليبرالية التي جاءت بها فلسفة الأنوار (مبادئ الحرية والحقوق الكونية) إلا أن الغرب هو أول من أجهز على هذه المبادئ، تماما كما يقول فرنز فانون:(إن أوروبا تذكر الإنسان وتغتاله عند كل منعرج) وهذا يعني غلبة الرذيلة (الأنانية) على الفضيلة (الحرية).

ولتوضيح كل هذه الأمور يقول المؤلف بأن السوق وهو إحدى تجليات الحرية في الميدان الاقتصادي يقوم على نزوعات أنانية أي أنها نتيجة لأنانيات فردية . (15)
وقد أدت هذه الأنانية إلى الحروب والدمار وعبادة المال...

ومن هذا المنظور يرى الكاتب الفرنسي شارل بيغي (Charles PEGUY) أن المال وسيلة من وسائل الإستيلاب في العالم الحديث..، الأمر الذي يؤدي إلى توجه ميركانتيلي شامل أفرغ القيم من محتواها وجعل كل شيء مجرد سلعة أو سوق للدعارة الكبرى ..

ومن هنا خطورة تطبيق قيم السوق على كل مناحي الحياة..، لأن كل حضارة تقوم على قيم تراتبية تنبني على فضائل ووفق هذه القيم يكون للتربية معنى إلا أن رياح السوق تعصف بهذه المنظومة رأسا على عقب.(16)

ويرى فرنسوا بيرو أن كل مجتمع يعتمد اعتمادا على قطاعات إجتماعية لا تخضع لمنطق الربح...، فلو خضع الموظف أو القاضي أو الجندي أو الفنان أو العالم لهذا المنظور فإن المجتمع سوف ينهار، وسيصبح كل نشاط اقتصادي مهدد فالأشياء الثمينة والنبيلة في حياة الإنسان لا يجوز أن تعرض في السوق.

وفي نفس السياق يرى أيمانويل طود في كتابه (ما بعد الديمقراطية) "بأن ما نعيشه من حالة تبعث على الأسى، مرده بالأساس أزمة دينية، فما حدث بين (1965/2007) يتمثل في أن إنهيار معاقل العقيدة أدى إلى دينامية تحلل سياسي شامل.

إن تشخيص العمق الديني للأزمة من شأنه أن يسلط الضوء على الوضعية الحالية وما يترتب عليها من قلق..

فبروز عالم لا يؤمن بالله أبعد من أن يؤدي إلى العيش الهانيء، بل يقود إلى القلق والضيق وإلى الشعور بالنقص والحاجة... (17)

إن غياب الدين أو العقيدة يؤدي إلى السقوط في جهنم المال واللذة والعنف وهو ثالوث الغرب الذي انتقل إلى العالم...، باعتبار الغرب الرأسمالي نظام حياة ومنظومة عمل... وبالتالي فإن ما يربط رجال المال في العالم بعضهم ببعض أعمق مما يربطهم ببلدانهم ..لأن معبودهم هو المال الذي بلغ في ظل العولمة شأوا بعيدا...

نعم لعد بسط الرأسمال يده على كل مناحي الحياة وأصبحت شريعته هي المال وكهنوته من الخبراء الماليين والمختصين الاقتصاديين، وحواريين من الإعلاميين اللامعين..، الكل يسبح بسلطة المال(18).

وفي ختام هذا الفصل يقول المؤلف لقد تم تدجين الطبقات الشعبية..
ولكن العولمة لم تغير كثيرا من أوضاعها. لقد انحصر أثر العولمة على فئة شفيفة من المجتمع، لا ارتباط لها بالواقع، صلاتها أوثق مع نظارئها في الشبكة الواسعة للرأسمالية.

ـ 4 ـ

يتطرق المؤلف في فصل "عقل من غير عقال" إلى إشكالية العقل في الحضارة الغربية، فالعقل ركن أساسي في هذه الحضارة وهو الذي حرر الإنسان من السلطة المطلقة، وأحل محلها الديمقراطية التي تشكل تطبيقا للعقلانية على مستوى المدينة، فالعقلانية تستمت من خلال العقل القواعد التي تتحكم في الطبيعة وهي تمرين من أجل استخلاص القواعد التي تتحكم في شؤون المدينة أي في الحرية التي تحد من سلطة الحاكم المطلقة..

ومن نتائج العقل مساءلة كل شيء: العقل النقدي.

تم إن عنصر العقل في الحضارة الأوروبية من سماته تحرر العقل من طوق الكنيسة الذي سيمهد لفصل الدين عن الدولة.

وقد أدى هذا الفصل إلى نزوع مادي من نتائجه الفصل بين الدين والعلم أو على الأصح فصام بين العلم والعقيدة الإيمانية وعدم التزام العلم بأي غاية أخلاقية فلا موانع ولا طابوهات.

ونتيجة هذا المنحى المادي فإن الإنسان، أصبح مجرد شيء في عالم الأشياء ويرى المؤلف أن هذا النزوع العقلاني المادي يرتبط بأسباب أعمق أي هيمنه الرأسمالية، فالعلموية وسيادة الرأسمالية صنوان، مرتبطان بالثورة المعلوماتية، وهذا التداخل بين العلموية، وبين السوق والثورة الرقمية هو ما يفضي إلى تحول غير مسبوق يهدد إنسانية الإنسان... (19)

إن الخطر يكمن في اختزال الإنسان في بعده الحيواني بحيث يفقد خصائص الإنسانية المميزة..، وهذا ما يسعى إليه علماء البيولوجيا والجينات فلا شيء كما يقول عالم الأحياء الفرنسي جاك مونو يفصل الإنسان عن الحيوان فهما من نفس الآلية الكيماوية من حيث بنيتها ووظائفها.

ويذهب علم المعرفة (les sciences cognitives) إلى ما هو أبعد، في تشريحه لدماغ الإنسان تجعله آلة أي حاسوبا له ذكاء اصطناعي يتفوق على الدماغ البشري. وبمعنى آخر تحويل العقل الإنساني إلى عقل آلي وموطن الخطورة يتجلى في أن الوظائف الإنسانية تتعطل تدريجيا باندماج الإنسان في عالم الآلة..، وهنا تكون المهمة قد اكتملت...، كل شيء تحول إلى عملية مكانيكية ومالية بالأساس ... (20)
إن اختزال الإنسان في بعده الحيواني أو المادي، سيؤدي حتما إلى تفكيك خصائصه ومكوناته الإنسانية ومن أجلها وأكرمها العقل الذي به يعقل الإنسان ويعي ويتفقه ويتدبر في ملكوت السماوات والأرض..

أما إذا غاب العقل فإن إنسانية الإنسان تتعطل وتندرس وتنمحي..
وهذا هو الفصام النكد حينا طغت التصورات الغربية وقيم السوق البورصوية على البشرية كلها في مشارق الأرض ومغاربها فحولت الناس إلى آلات لهم عقول لا يعقلون بها!.

ـ 5 ـ

ويتطرق المؤلف إلى مسألة الجنس في الحضارة الغربية في فصل بعنوان "جسد بلا كابح" فيقول " ليس الجنس في الحضارة الغربية شيئا، ثانويا، بل هو أس، ثورته وعماد تميزه، ولا يمكن أن ينفصل عن ثورة تحرير العقل..، بل لا يمكن فصل تحرر العقل من دون تحرر الجسد..، بقدر ما عانى العقل من حجر الكنيسة بقدر ما عانى الجسد من وصايتها، وموانعها. (21)

ولهذه الثورة جذور أو أركيولوجيا وسند فكري وايديولوجي دعمها قادة فكر التنوير بسلوكاتهم المتحررة. وقد حمل نيتشه على رجل الدين المسيحي الذي يكبت غرائزه ويقفز على جسده. فالإنسان الأعلى عند نيتشه هو إنسان متحرر من الله ومن الكنيسة ومن كل الموانع.

تحرير الجسد في عرف نيتشه وهو تحرير له من كل القيود وعلى رأسها الدين. (22) هناك ترابط بين تحرير الجسد وبين الانتفاض ضد الدين..، فغاية الجنس كما يرى الماركيزدوساد de sade هي المتعة بلا قيد ولا شرط، كسر الحرمان وكل الطابوهات وبأن الإباحية الجنسية والاتحاد قدر البورجوازية أو النافذين(23).

وسوف يحول السوق الثورة الجنسية إلى سوق جنسية تنتشر في جميع أرجاء العالم أليس الجنس سلعة ككل السلع؟ بمنطق الاقتصاد فهي سوق كبيرة، وبمنظور السوق، لإ مكان للحب أو العاطفة، إنها متعة عابر مع شريك عابر من أجل تحقيق ربح مادي...

كل شيء مباح في العولمة الجنسية ...

ويختم المؤلف هذا الفصل حول الجنس في الحضارة الغربية بطرح السؤال العميق التالي: ألا تخفى القوة الجنسية أزمة أعمق ثم يسترسل لقد استكان الغرب ومن يدور في فلكه. إلى مكتسبات تحرر الجسد ويأبى أن يخضعها لمبضع النقد كل شيء عرضة للنقد في الثقافة الغربية إلا حقائقه العامة ولو قامت على أباطيل وأضاليل الثورة الجنسية أو الفورة الجنسية هي تعبير عن أعراض أعمق، هي تهلهل السودى الاجتماعي وتحلل التمثلات الاجتماعية. هي سبب ونتيجة في علاقة ديالكتيكية محمومة. الغرب لن يعد يؤمن بشيء، ليس له تصور حول المستقبل، لم يبق سوى الحاضر بمتعه وإغرائه: دكتاتورية اللذة العابرة... (مخدرات وجنس) ومجتمعات بلا آنا اجتماعي... (24)

هكذا تحولت الثورة الجنسية في الغرب إلى سوق للمال والجنس (l’argent et le sexe).

ـ 6 ـ

أما في فصل: الصورة تعمى وتضل" يتناول المؤلف تأثير الصورة وغلوها في الحضارة الغربية المعاصرة..

فالصورة قادرة على خلق عالم شمولي تنصاع فيه الجموع راضية وراء شمولية الرأسمال وذلك بفضل الإعلام والصورة والشاشة والشبكة، فبالصورة يمكن أن تحشو ذهن المشاهد بما تريد من إغراءات السوق والإعلانات وحقيقة العالم...

والشبكة والهاتف النقال تهدم المسافات والحدود وتحيلك إلى رقم في القرية العالمية، لا مكان للحميمة أو الذاتية. الكل خاضع للنظام العولمي الشمولي...
الإنسان محاط بسيل من المعلومات غير قادر أن يميز غثها من سمينها وصحيحها من زائفها. وهو سيل العرم يدجن كل ملكة للنقد، وكل رغبة للسؤال.

إنسان ما بعد الحداثة مهيأ لأن يكون مستهلكا لبضائع منقولة ولصور ولتصورات، لا فرق، وتضيع الحقيقة لأن الأغلبية لا ترى إلا الأشباح كما في مغارة أفلاطون(25).
إن هذه الشمولية المخدرة التي تكبل وعي الإنسان هي التي توهم الأفراد أنهم يعيشون في سعادة مبتذلة (la banalité des bonheurs privés ) .

كان الإعلام في الغرب يعكس هموم المجتمع ويدافع عن حقوق المحرومين والمضطهدين كما كان مصاحبا للثورة التي قام بها الغرب ضد الاستبداد بجميع أشكاله فالصحافة أداة تغيير ووسيلة لتثوير الجماهير، وبالتالي فهي أداة خطيرة عمل الرأسمال على تملكها لبسط نفوذه وكسر شوكة أعادئه..

فالصحافة في الغرب قوة حقيقة ساهمت في التغيير وأوصلت البورجوازية إلى سدة الحكم ومراكز النفوذ.

فالصحافة في الغرب مؤسسة سياسية في خدمة مصالح وأهداف الرأسمال وترسيخ جبروته وهيمنته...

"إن الصحافة المكتوبة مخترقة من قبل الرأسمال الذي يسيرها كيفما يشاء، من خلال الإعلانات الإشهارية ومخترقة من قبل أجهزة المخابرات، والحوار الذي تطرحه مشبوه في الغالب والخبر الذي تحمله قد يكون موجها" (26).

أما فيما يخص الإعلام المرئي والمسموع أي الإعلام الجماهري، فإن المؤلف يري أن أولويات هذا الإعلام قد تبدلت وأصبحت تركز على التسلية والترفيه، وأصبحت الأخبار والتثقيف والتربية تابعة وذريعة للدعاية، ولخدمة الأغراض السياسية.
ولا شك بأن الراديو والتلفزيون أبعد خطرا وأشد أثرا.

وبما أن العالم الغربي يخوض حروبا مستمرة لا تنتهي (ايديولوجية أو تجارية...) فإنه يستعمل الإعلام كوسيلة للتضليل والتزييف و حجب الحقائق..

العالم الحر وظف تقنية الدعاية لصالحه وجعل من عصر الإعلام عصر الدعاية بامتياز.
تحسب أنك تحافظ على يقظتك ونباهتك ولكنك تنقاد بشكل مستمر وبلا وعي، سحر الإعلام وسطوة الدعاية التي تخدر العقول، هذه حالة مجتمع الاستهلاك الذي يقع فريسة لإغراء الإعلان وبريق الإشهار الذي يقدمه التلفزيون..

إن الرأسمالية تقوم على الإغراء وأداة الأغراء الأولى هي الإعلام السمعي البصري.
ويرى المؤلف أن السياسة في العالم الحديث رهينة التلفزيون وأنها عملية تمثيل يظهر فيها الممثلون على المسرح، إلا أن الذين يمسكون بزمام الأمور، من رجال المال والأعمال أو خبراء المؤسسات الكبرى، لا يظهرون بل تكتفون بتحريك الأحداث من وراء الستار..

نعم الإعلام يأسر ويسحر ويدجن ولكنه يعتمد على العلم والتكنولوجيا وعلى معرفة عميقة بالإنسان بأهوائه ونزواته.

جيوش من الخبراء والعلماء في شتى التخصصات، هم من يقوم برسم كل التوجهات في ميدان الإعلان، ويؤثرون بذلك على كل الميادين الأخرى.. (27)

تبيع المقاولات الإعلامية الوهم كما تبيع الشركات الكبرى السلع الإعلام إذن قادر على أن يخلق واقعا جديدا لأنه قوة وسلطة خطيرة، إذا طغت تجرف كل شيء .
وراء الصورة التي تقدم للناس، مراكز أبحاث تضطلع بدور أساسي في قولبة الثقافة وصياغة الرأي العام.

والخلاصة التي ينتهي إليها المؤلف أن العالم العصري تحول تحت تأثير وسائل الإعلام الحديثة إلى عالم بوليسي بامتياز لم يعد فيه الإنسان حرا..

ـ 7 ـ

يتطرق المؤلف في الفصلين الأخيرين من الكتاب إلى مسألتين هامتين: الأولى تتعلق بالخطر الذي يهدد الديمقراطية من جراء سطوة المال والإعلام.

أما الثانية فتتمحور حول دور التكنوقراط في منظومة الحداثة.

فيما يتعلق بالمسألة الأولى، يعتبر الإعلام نوع من السحر بسحر ويأسر ويدجن، يعتمد على جيش من الخبراء، يعتبرون أنفسهم خلفاء الله على العباد، أي على السيادة الشعبية.

ورسم كل التوجهات التي تحدد طرق التعبير عن الإرادة العامة.

فالسياسة من منظور المؤسسة الإعلامية الغربية تقوم على دراسة السوق من الجانب الإجتماعي والسوسيو اقتصادي والنفسي. والهدف في النهاية، جعل المواطن سلبي مدجن مقولب خاضع لتوجيهات عالم المال والأعمال.

إذن على المجتمعات أن ترى قضاياها وفق ما ترسمه وسائل الإعلام الغربية وعليها أن تنظر إلى الآخر من خلال النظرة الغربية(28).

لا شك بأن الديمقراطية هي النظام الذي يجسد الإرادة العامة..، ويرى المؤلف أن الديمقراطية هي ضمير متجدد وتضحية، لأنها كانت معرضة دوما للمصادرة.. (29)
كانت الديمقراطية ثورة، تعبر عن سيادة الشعب ونتج عنها شيوع التعليم والمعرفة، وتبلور مفهوم الإرادة العامة أو الرأي العام..

في الغرب استطاعت البورجوازية أن توظف الديمقراطية لخدمة مصالحها، وحورتها إلى بنية فوقية لتسويغ هيمنة البورجوازية. (30)

ومن ثم ربط الديمقراطية بنظام السوق، فالمال يحول القيم إلى سلع، ولم تشذ عن ذلك الديمقراطية الغربية.

لقد اقترنت الرأسمالية الصناعية بالديمقراطية، أما الرأسمالية المالية فلا ترى في الدولة، ولا الثقافة، ولا الديمقراطية، إلا حواجز تعيق مسيرة العولمة: (العولمة سوق بلا حواجز).

فهناك إذن تناقض بين منطق العولمة والدولة التي تعمل للمصلحة العامة، فلا يمكن تصور الديمقراطية، بدون قيم ثقافية وسياسية...

ويرى أما نويل طود في كتابه "ما بعد الديمقراطية" بأن التحولات التي عرفها الغرب عصفت بالتقاليد والقيم الرفيعة ويقول: "إن مصدر ما نعانيه من تردي، مرده أزمة دينية، لأن ما حدث ما بين (1965 و2007)من تهاوى صروح العقيدة أفضى إلى آلية تحليل سياسي شامل إن الطبيعة شبه الدينية للمعتقدات السياسية الكبرى أمر مسلم به من الناحية السوسيولوجية"(31).

كما يرى جورج كوك "G.Coq" بأن الديمقراطية (الحديثة) لا تفضى إلى ظهور إنسان متميز، بل إنسان مخاتل وإلى استبداد من نوع خاص.

فما طبع الديمقراطيات الحديثة هو انعدام الغاية الذي يبرر الوسيلة، فالسياسة أضحت وسيلة للجري وراء السلطة.

وكل ما يشاع من برامج ومن تصورات هراء وعبث. فالبرامج والأحزاب، مطية للسلطة، لقد أدى هذا الزيغ إلى نفور الناس وعزوفهم عن العملية السياسية عموما (32)
لم تعد الديمقراطية في عصر يسيطر فيه المال والإعلام تعبر عن الإرادة العامة أو السيادة الشعبية بل مجرد شعار وصورة تهتم بالشكل وتهمل الجوهر، إن إغتيال روح الديمقراطية يتم بالتمسك بحرفيتها والإجهاز على فلسفتها وبالوله الأعمى بتقنياتها... (33)

بعد هذا الاستطراد يتناول المؤلف دور التقنوقراط في منظومة الحداثة الغربية، باعتبارهم الحجر الأساس في هذه المنظومة، وسدنة معبدها، وماسك أسرارها..
إن قوة التقنوقراط تكمن في المعرفة والفعالية، والقدرة على إيجاد الحلول لكل وضعية (دراسة الحالة واستخلاص القواعد من هذه الحالة) لهذا يشتغل وفق قوالب وسيناريوهات، ولا ينظر إلى الواقع إلا من خلال القوالب الجاهزة، بحيث المهم هو قيم النجاعة والاستثمار والكفاءة.. (34)

يقول عنهم جون رلستون شاول في كتابه (أبناء فوليتز اللقطاء أو ديكتاتورية العقل في الغرب): " ليس لهؤلاء النساء والرجال الشرسين قابلية أو استعداد للأحاسيس العامة، فطبيعة الدراسة التي تلقوها هي بالأساس جوفاء إلا فيما يخص ما ينبغي القيام به..، لا يحيد أحدهم عن طريقة عملهم أو مواقفهم ويصعب عليهم القبول بالتسويات، كما أنهم يخلطون السلطة والأخلاق والفهم.. (35)

التفنوقراط إذن يعمل من داخل منظومة أو مؤسسة وقوته مستمدة من المعرفة والفعالية، ويرى المؤلف أن علاقة التقنوقراط برجال السياسة أو المال علاقة ملتبسة تخضع لتدبير خاص وإلى تواطئ خفي يلزم التفنوقراط بعلاقة تبعية للرأسمالي أو لصاحب القرار السياسي... (36)

إلا أن هامش النقنوقراطي يظل واسعا في مجتمع متعدد الأقطاب، تطبعه المنافسة الشرسة..

إن التفنوقراطي مستعد أن يخدم أبا كان وليس له ولاء ثابت لابة جهة أو لمنظومة فكرية أو حتى لوطنه...

والتقنوقراطي غالبا ما ينأي بنفسه عن الخوض في السياسة رغم تتبعه لقضاياها ويفضل أن يترك ذلك للسياسيين، رغم أنه يحتقرهم في قرارات نفسه لأنهم يوظفون الكذب والرياء ويموهون على مجتمعاتهم ..

إلا أنه في الآن نفسه يخشاهم، لأن مصيره، مرتبط بهم. (37)

ويرى المؤلف أن غالب الذين يتولون مسؤوليات من التقنوقراط في العالم الثالث ليس لهم مسارا سياسي أو فكري، يرتبط بهموم مجمعاتهم وهم يعتبرون دائرة عملهم هي الحقيقة، ومن ثم يدافعون بشراسة عن مقارباتهم التي تخدم في الغالب مؤسسات دولية أو حكومات غربية ويفرضونها على مجتمعاتهم قسرا..

والسلطة هي أهم شيء بالنسبة لهم، أهم من الأحاسيس العامة وأهم من الواقع، وهم مستعدون لكل شيء من أجلها.. (38)

ويقول المؤلف أيضا بأن سطوة التقنوقراط في العالم الثالث، رسخت نوعا من الاستبداد الظلامي (despotisme non-éclairé) الذي لا يؤدي إلى أي حل للمشاكل التي يتخبط فيها المجتمع من فقر وفوارق اجتماعية وتخلف. ويضيف بأن التقنوقراطي من حيث أصوله ينتمي إلى الارستقراطيات أو الأسر العريقة أو البيروقراطيات القديمة. وهو بحكم تكوينه و تمثله لبرامج خارجية، منقطع عن المجتمع وعن الواقع، كما أنه يجهل ثقافة المجتمع، ومعيار نجاحه هو أن ينأى عن مجتمعه نأيا تاما..

ويضرب المؤلف مثلا على النظرة المتعالية للتصورات التقنوقراطية لقضايا المجتمع بقوله: لقد كان التعاطي مع ملف التعليم والفقر في المغرب تعاطيا تقنوقراطيا صرفا وعرف هذان الملفان تعثرا بينا رغم الجهود التي بذلت..، ولكن ألا يبدوا أن من أسباب التعثر هي السعي إلى إسكاب الواقع في قوالب جاهزة؟ هي عدم ربط التعليم بمنظومة أخلاقه وثقافة المجتمع...

إن اعتماد مقاربات كمية لمسألة التعليم، يحجب نوعية التعليم الذي يراد تلقينه والذي يغيب وسط جلبة من الأرقام. إنه نزوع إلى إمتحال منظومات ظهرت في أماكن أجنبية بمفاهيمها وسياقها وتفرض على واقع مغاير؟.

ألا يدل استعمل هذه المصطلحات على تغلغل المقاربة الإقتصادية وشبكة السوق في المنظومة التربوية؟

إن التفنوقراط المشرفون على تفعيل برامج التنمية البشرية، يصرفون جهودا كبيرة في مساطر دقيقة، متأثرين بمقاربة بنكية وفي المراقبة الجزئية..، وكذلك بنزوع التقنوقراطي إلى التمسك بالمسار (Processus) عوض النتيجة، والارتباط بالبنية عوض الوظيفة.

إنهم نوع من السفسطائيين، الذين حذر منهم سقراط.

كل هذا يتطلب طرح الأسئلة الجوهرية وهي مهمة الفلسفة أو البحث عما يربط التصورات والمناهج بهدف أنساني وتلك غاية الدين(39).

ويختم المؤلف مقاربته لصورة الغرب في مرآة الغرب المنكسرة " إلى التأكيد بأن الغرب المعاصر يعاني من أزمة عميقة يصفها أيما نويل طود بالفراغ الديني ( أو الروحي) (mal-être métaphysique) الأمر الذي أدى بالغرب إلى البحث عن عدو ليحمله أسباب عقده الدفينة.

فالأخر هو المشجب الذي يتم التركيز عليه لصرف النظر عن أزمة الغرب الحضارية.
فكراهية الإسلام يدخل في هذا السياق: البحث عن كبش الفداء لكل أدواء الغرب..
ويرد المؤلف على التحامل المجاني للغرب على الإسلام من أجل جعله العدو النموذجي والضروري.

بقوله: أليس الإسلام هو ما يعطي لجماعات يتوزعها إغراء المادة وشبح الضياع في بلدانها وفي الغرب الشعور بالانتماء وبالمعني، هو ما يحصنها عما حفل به العلم المعاصر أو الحديث من عنف وجنس ومن تكالب على المال.
لذلك كله لا يمكن اختزال الإسلام في نظرة منعكسة لمرآة منكسرة الإسلام مرآة للغرب قبل أن يخون قيمه.

ثم يضيف إن ما يقدمه الإسلام للإنسانية من فهم معين للإنسان هو أن يبقى على إنسانيته ولعلاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الإنسان بالطبيعة إنسان يعمل العقل ولكن دون أن يشتط به أو يركبه الغرور فيشطح به العبث الذي استهوى فريقا من الذين فقدوا كل مرجعيه للخير والشر.

هي هاته الدهرية التي يطفح بها الغرب، والتي جعلته يلهث وراء المال والشهوة ويقع في مخالب العنف. وهي التي جعلت كل شيء مباح. ويخلص المؤلف إلى أن الإسلام لا يمكن أن يكون عدوا للغرب بل يريد أن يكسب معه معركة الحفاظ على إنسانية الإنسان، على تحصينه من شطحات المادة. والعمل سويا من أجل إحقاق الحق ودعوة العدل، وللغرب ما يقدمه للإنسانية، مثلما قدم قبل قرون عدة حينما ارتبط بأنواره وللإسلام ما يقدمه للجم جموح المادة والشهوة وإغراء الصورة واستغلال الرأسمال(40) .

ـ 8 ـ

حاولنا فيما تقدم تقديم عرض مجمل للكتاب نظرا لأهمية ما تناوله المؤلف من خلال رسم ملامح الصورة الغربية التي أصيبت خلال القرن الماضي وبداية هذه الألفية، بتشوهات بالغة، ناتجة عن اختلالات جمة في عالم الفكر والروح، وما ترتب عن ذلك من زلزال يتضعضع له الكيان وتميد معه دعائم وأركان الحضارة الغربية التي هيمنت على العالم لعدة قرون.

لقد تصدى المؤلف لتجلية الصورة الغربية الحضارية مبرزا ما طرأ عليها بفعل التحولات الكبرى التي شهدها العالم الحديث .

إن الاتجاه العام للحضارة الحديثة سوف يؤدي إلى تجريد الإنسان من إنسانيته.
ويرى رنيه دوبو (ٌµRené Dubos)(1901/1982) بأن العلم والتكنولوجيا هي مجرد أدوات ووسائل ليس لها أخلاق ويمكن استعمالها لخير البشرية أو لدمارها.

لقد أضاع الإنسان الغربي إيمانه، وفقد روحه، وتاه في فلسفيات وضعية متهافتة، لا تثبت أمام الفطرة السليمة ولعل أكبر مشكلة حادة في الحياة المعاصرة هي في الغالب شعور الإنسان بأن الحياة فقدت معناها، نتيجة الانفصام بين المادة والروح في المجتمعات العلمانية الغربية، وقد بلغ هذا الانفصام درجتا تهدد الوجود الإنساني..
وقد أصبح من المسلم به : ان الحياة الانسانية كما هي سائرة اليوم وكما هي صائرة وفق جميع التقديرات الظاهرة لا يمكن أن تستمر في طريقها هذا، لابد لها من تغيير أساسي في القاعدة التي تقوم عليها. تغيير يعصمها من تدمير "الإنسان" ذاته لتدمير خصائصه الأساسية.

فالحياة الإنسانية ـ بداهة ـ لا تستطيع ان تبقى إذا ما دمرت خصائص "الإنسان"
وخط الحياة الحالي يمضي يوما بعد يوم في تدمير خصائص الإنسان وتحويله إلى آلة من ناحية، وإلى حيوان من ناحية أخرى...

وإذا كان هذا الخط لم يصل إلى نهايته بعد، وإذا كانت أثار هذه النهاية لم تتضح إتضاحا كاملا ...، فالذي يظهر منها حتى اليوم وفي الأمم التي وصلت إلى قمة الحضارة المادية يشي بتناقص الخصائص الإنسانية وضمورها وتراجعها بقدر ما يشي، بنمو الخصائص الآلية والحيوانية وتضخمها وبروزها ..

وهذا يكفي لتقرير أن خط الحياة يمضي يوما بعد يوم في تدمير خصائص الإنسان لتقرير أن الحياة الإنسانية لا يمكن ـ إذن ـ أن تمضي مع هذا الخط إلى نهايته.. (41)
وفي نفس السياق يقرر الفيلسوف جون ديوي بأن الحضارة الحديثة التي تسمح للعلم بتحطيم القيم المتعارف عليها ولا تثق بقوة هذا العلم في خلق قيم جديدة فإنها سوف تدمر نفسها بنفسها..

والخلاصة أننا في ظل الحضارة القائمة وعلى امتداد الخط الذي تسير فيه الحياة اليوم فإن خصائص الإنسان مهددة بتدمير أهم خصائصه الإنسانية وهي الحرية ولن تبقى للإنسان حرية ما لم يكن هناك تنوع فكري وتكويني ووراثي وبيئي ..
إن الإنسان متعلق بالحرية. والحرية مصدر استعلاء الإنسان على كل ما هو مادي وعرضي.

إن المادة وحدها غير قادرة على ضمان، تدبير حياة الإنسان وبث الطمأنينة في أعماقه وهي عاجزة عن ضمان تأسيس أو الحفاظ على أي قيم أخلاقية في حياته.. (42)
إن الإضطراب الذي يعرفه العالم في شتى المجالات: الفكرية والسياسية والاقتصادية.. مؤشر واضح المعالم على آن الحضارة الغربية التي تسود العالم تعاني من أمراض حضارية مزمنة تنذر بموت الإنسان؟! نتيجة تطبيقه المنهج الآلي الحيواني على الحياة الإنسانية.. بدون أن تفرق "الإنسان" من الآلة ومن الحيوان.

الهوامش

حسن أوريد " الإسلام والغرب والعولمة، كتاب الجيب منشورات الزمن ، الكتاب 6، ط 2، 2006/ ص 5..

حسن أوريد " مرآة الغرب المنكسرة ـ ط 1ـ 2010 ـ دار أبي رقراق ـ ص7.

م ـ س ـ ص13.

م ـ س ـ ص 15.

م ـ س ـ ص 18

م ـ س ـ ص19.

م ـ س ـ ص20

م ـ س ـ ص21

م ـ س ـ ص 22.

م ـ س ـ ص25.

م ـ س ـ ص27.

م ـ س ـ ص28

م ـ س ـ ص33.

م ـ س ـ ص 34

م ـ س ـ ص 38.

م ـ س ـ ص 44.

م ـ س ـ ص47-48.

م ـ س ـ ص 50.

م ـ س ـ ص 73.

م ـ س ـ ص61.

م ـ س ـ ص 85.

م ـ س ـ ص 86.

م ـ س ـ ص 95

م ـ س ـ ص109.

م ـ س ـ ص113

م ـ س ـ ص122

م ـ س ـ ص128

م ـ س ـ ص136

م ـ س ـ ص 139

م ـ س ـ ص 141

م ـ س ـ ص 158

م ـ س ـ ص 158

م ـ س ـ ص 157

م ـ س ـ ص 174

م ـ س ـ ص 177

م ـ س ـ ص 161

م ـ س ـ ص 167

م ـ س ـ ص 177

م ـ س ـ ص 178/180

م ـ س ـ ص 187

سيد قطب، ـ الإسلام ومشكلة الحضارة ـ دار الشروق ـ ط13ـ 2005 ـ ص5.
د/محمد الكتاني، من المنظور الإسلامي ـ ط1ـ 1989ـ دار الثقافة الدار البيضاء، ص21.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى