الجمعة ٢٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
المثقف يقتات من مأساته
بقلم جمال حضري

قراءة في "همس النوايا"

تتضمن المجموعة القصصية أربعا وعشرين قصة تمتد على حيز ورقي يمتد من الصفحة الخامسة (ص5) إلى الصفحة السبعين (ص70) مما يعني أن المجموعة تشكل متنا متنوعا جدا إذا ما قيس عدد القصص بحيز انتشارها، لكن هذا التوزيع المتشعب والمشوش للحاسة القرائية سرعان ما يستسلم لطاقة الجمع والتوحيد ويلتئم الشمل المتبدد ليرسم مسارا ممتدا بسلاسة وخفة، يبرز تارة في صلف ويتخفى تارة أخرى فلا تبين منه إلا آثار مشي خفيف رفيق، إنه مسار الكتابة ذاتها ومسار السرد ذاته، إنه مسار المثقف ذاته ومسار السارد ذاته، تتلون صوره وأقنعته ولكنها تتجمع وتتكثف في عمق ليس بعيدا كثيرا عن سطح التمثيل بل سرعان ما تنكشف وساوسه وتكشفه سلوكاته المعهودة التي رسمها هذا المتن القصصي وذهب يرسخه من طور إلى طور حتى استوى عند النهاية رسما متجلي الملامح، رسما للمثقف المشطور والسارد المتشظي.

وهذا الاستواء لم يكن متدرج الخطوات كما قد يفهم بل إنه استواء في غاية من النصب والجهد يتموج عبر القصص المختلفة فيعطي بعضه فيها ويضن بالبعض الآخر حتى يحوج الباحث عن ملامحه إلا قراءات متوالية ليستنبط الملمح المضاف ويستولد العضو الناقص يكمل به الصرح المشيد فيحتاج إلى تأويل وتركيب وتنميط وتكميل، هذا هو جهد القراءة الذي حتّمه هذا المتن المكتنز بالتشعب والتنوع ولكنه أيضا الراقد على هذه الصورة التي غدت نمطا واضحا، نمط المثقف الفاعل طورا والمستقيل أطوارا، نمط السارد المهيمن تارة والمستنجد بالآخرين أطوارا، يتحمل السرد مرة فيرسم خطوطه ممسكا بتلابيبها، مستقلا بقرارها ومصائرها، وعازفا مرات عن تحمل المهمة الجسيمة فيدخل غيره ويتوارى خلف أقنعتهم ممسكا عن إبراز وجوده وإثبات حضوره وما أشد حضور هذا الغياب وما أشد غياب هذا الحضور في أداء وظيفته في الحالين والطورين.

في القصة الأولى "طحين ليلة شبه بيضاء " ينخرط السارد من خلال ضمير "نحن" ليجلي المكان الملهم بالسرد ثم سرعان ما ينفرد من خلال ضمير "أنا" الذي يصرح بوضوح: "أريد أن يكتمل عندي جسد الحكاية هذه الليلة.." وحين تتحرك آلة السرد ينكشف الضمير المتكلم عن الأنثى التي تحرك المسارات أو تحركها السلطات، وترتسم أولى المتضادات الأساسية في مسار المثقف: المثقف/ السلطة بمفهومها الواسع المجاوز للسائد والعام، ونفهم أن الكتابة جرم يعاقب عليه صاحبه ويحاسب ويستنطق، وفي المقابل يرتسم ملمح مثقف آخر "فقيه المدشر"، ولأن الأشياء تتمايز بأضدادها فإن المثقف قد يصير سلطة تجاه مثقف آخر حيث تتسع للواحد المنابر وتضيق على الثاني المنافذ، وأكثر من ذلك تنبثق عن هذه المسارات الأولية صورة نمط من المثقفين المتحالفين مع نمط من السلطة القبلية أو الماضوية ويتحصن هذا الفريق بذاك مما يعطي لمعركة الأفكار كل حيويتها ومصيريتها. والقصة تعطي بعدا آخر للمسألة يربط بين الماضي والحاضر، فالجد مقران الذي تسير لحظات المدشر على وقع لحظته يموت ولكن سطوته وسلطته تستمر من خلال صورتين إحداهما تصريحية تتمثل في الفقيه الذي يقرر في أمور السلم والحرب بين مختلف الأطراف محافظا على توازن قيم الماضي واستمرارها في الحاضر، والثانية ضمنية تتبدى في تحول رقابة الجد مقران إلى هاجس يسكن "أنا" الساردة صوت الأنثى التي ما تزال تعيش لحظة الجد مقران أو تستحييها وتبعثها كلما همَّت ببعثرة أوراق المدشر وأوضاع القبيلة، إنها رقابة الذات على الذات تلك التي تقسم المثقف وتشظيه وتجعله يقفز على الأوضاع كالبهلوان وعوضا عن ملامسة تبعث الحياة والصحو في الآخرين يضطر إلى قفزات تثير هزأهم وسخريتهم منه وهم لا يدرون أنه كالقابض على الجمر ولكن من يحس جراحاته وعذاباته...

يستمر "التحرك على أرصفة الورق" في القصة التالية "إحالات صباحية" وتبدو للمثقف ملامح أخرى، قد تحتاج إلى التأويل الذي أثرناه بداية وإلى تركيب تفرضه طبيعة التشكيل بالكلمات، ولكننا لن نبتعد كثيرا في صوغ كيان المثقف لأن الطقس هو هو والسلوكات هي هي..جريدة وفنجان قهوة وطاولة مع سماء ملبدة أو ماطرة وحسناء تتموج بنيرانها اللاهبة مخلفة حرائقها المهولة في الداخل والخارج..ينطلق السرد بضمير "أنا" متخف والمسرود عنه هو المتباعد أو المبعد أو هكذا يبدو لنا، ولكن السارد سرعان ما ينخرط في اللحظة وتسفر "أنا" عن الأنثى الثاوية الآن خلف الضمير المتكلم فإذا هي صورة المثقف الضجر "..وأنا تعبت من إعادة قراءة الكتب الموضوعة جنب سريري.."، ضجر من مصيره وقدره الذي لا يملك إزاءه إلا الاستمرار في الخربشة على الأوراق، وما الذي تخطه يد المثقف يا ترى؟ يوهمنا السارد أنه يلاحظ الآخرين ويكتب حركاتهم ويتتبع لحظاتهم الساذجة المكرورة ولكن الخدعة لن تنطلي علينا لأننا في النهاية سنجد أن المثقف أي المثقفة قد خطت يومياتها الباردة بعد أن خابت مغامرتها ووجدت أن من اختارته لرسم مسار آخر لحياتها لا يملك إلا كلمات وورد، وكلاهما لا يسمن من جوع ولا يؤمِّنُ من خوف، وتلك الملامح الأخرى لسوق الكلمات الذي لا يستر حاجة المثقف ولا يقيه مؤونة الحياة فتغدو الكتابة مصيره وقبره.

"حبذا لو رأيتِ الكتب الجديدة في مكتبتي" هكذا قالت الساردة بضمير "أنا" الأنثى على لسان من يريد اقتناء عواطفها كما تقتنى الهدايا للحظات ثم تنسى في أماكن رصفها، ولكن في هذه القصة بالذات نلتقي بالذات المشطورة أو الساردة "معلقة من عرقوبها" تتناوشها النزعتان الأليمتان، نزعة نعم ولا اللتان تمزقان كل فؤاد سكنتاه، ونلتقي أيضا بالمثقف في علاقته بالمثقفة، علاقة ترتسم في المؤقت والمؤجل واللا حسم والعبور الدائم والسفر الدائم، لا قرار في حياة المثقف، بل تقلب دائم وبدائل مستمرة، حتى في حالة "الزواج" من المختلف ثقافيا تظل العلاقة تلك تثير النوازع وتبلبل حياة المثقف وكأنه قد اختار مصيرا لم يرده وخط مسارا لم يرسم ملامحه والأسوأ أن يعتقد أن الكل قد سلكوا المسارات التي لم يختاروها ولكن الجميع يتظاهر بالرضى والدعة مع أن السلوكات تفضح الكل، كيف لا وقد ظهرت أغلب المكبوتات في البرودة التي تلف الحياة.

هل هي لعنة البدايات تلك التي لحقت بالمثقف فجعلت مصيره على هذه الصورة البائسة: حياة حائرة.. أسئلة بلا أجوبة .. خيارات مضطربة..ومائر مجهولة.. كيف لم يغير مسار التعليم والثقيف العالي هذه الأقدار؟ لماذا ظلت الإشكالية بهذه الحدة وبهذا التعقيد؟ لماذا يظل المثقف دائما يردد نفس المقاطع من الحياة ونفس الإيقاع من سمفونية الضياع: فـ"يخرج من حجرته متثاقلا، يغس وجهه..يبلل شعره عله يستعيد شيئا من الحيوية الآفلة..يتطلع إلى وجهه في المرآة ويجده كالأمس: متحجر الملامح ومعتكرا كسماء غائمة، يحول بصره بسرعة نحو الباب فتقوده رجلاه إلى المقهى التي تزوجها منذ أن طلقته الجامعة، يتسمر فوق الكرسي الخشبي..يفرغ فنجان قهوة مرة في جوفه..يشعل سيجارة ويشرع في إنجاز مهمته الصباحية.." ، هذا الطقس الأبدي أكان تأويلا واقيا لمقولة مغرقة في القدم ولكنها مشحنة بالحكمة وقراءة الغيب ملخصها "منحوس من يولد فوق حصيرة"، هذا ما يبدو من مسار السرد الذي تلتقطه الساردة بإحالة صريحة على "الراوية" التي تتجمع تحت أهدابها "الأنا" و"الهو" الساردة والمثقف ليبين عن توحد المصير، ونستعيد صورة المثقف والوردة والكلمات التي لا تغني من جوع، صورة صادقة للمثقف الزاهد بحكم الأقدار، كتاب يساوي وردة، وردة تساوي مثقفة أخرى معرضة للإغواء، هكذا هي المعادلة البسيطة وعناصرها الفقيرة، وفي الحال هذه تظل الفرحة بالنسبة للمثقف مؤجلة تتحكم فيها "سوف" و"سـ" و"لعل"، فلا نعجب أن يكون جواب المثقف عن موعد الفرحة فيكون جوابه "عندما سأعمل" فإذا ألححنا عليه وقلنا: متى؟ فلا نعجب أن يكون الجواب هو: (بياض الورق) ويا له من جواب !!قالوا قديما: الصمت علامة الرضى، أما عند المثقف فالصمت علامة القهر.

ولا يقهر المثقف غير فقره، ولا تشده إلا المأساة أقدار تكون قد رسمت مصائره منذ أن قذفته على حصيرة فقط، بل القائمة أطول وأعسر، قد لا يدري هذا المثقف المسكون بكلمات السر أو بسر الكلمات أنه خطير إلى الدرجة التي تحرك ضغائن أبعد الناس مهما تفاوتت أنصبتهم من ميراث الحياة، ولكنه قد لا يدري أنه يثير حفيظة من لم تبخل عليهم الدنيا بعطاياه وإيثارها، ولم تظن عليهم الأقدار بتجميع كل سلطة الأمر والقهر بألسنتهم، فلم يارترى تناصب كل هذه المخلوقات النافذة هذا المخلوق السليب والمسلوب؟ تلك هي مكاشفات المسودات ، وأسرار جنيالوجيا كل نص سردي، حتى وهي أجنة في ظهر غيب المثقف لم ينبس بها ولم تلتبس بأوراقها.

يتخفى السارد وراء ضمير "هو" الذي يفصح أكثر مما يلمح إلا أن الأمر متلق دوما أبدا بالكائن ذاته في منعطف جديد من عذاباته، يترصد ليكتب، يصيخ السمع من وراء جدر، كيف لا وهناك أكثر من عين تترصد رصده وأكثر من أذن تتسمع سمعه، وهذا كاف ليرى كل ظل يتتبع ظله بل ليقرأ نواياه ويعيد تأويلها وتفسيرها بل يسترجع هواجسه وقصائده الهرمة القديمة حتى وإن سفحها على مسمع غانية، كلها يمكن أن تكون دليل إدانة، وبرهان تلبس لهذا المتلاعب باللفظ والقوافي، من يصدقه والمدلولات نهب دواله، من يصدقه والمعاني لعبة في فضاءات مقاصده اللعينة..من يثق به وتجارته ليست إلا في الكلمات وقد رأينا من قبل أي كساد يلف هذه السوقفمن يعيره اللقمة لقاء دفع مؤجل ومن يؤجره سقفا في انتظار بيع قصيدة هاربة في الخيالات، لكن..ويا للمفارقة هناك من لديه الاستعداد ليسكنه الدهر كله ويطعمه العمر كله لقاء صمته..وخرسه !!

وحين تحيل الساردة أي "أنا" الأنثى الحكي إلى "هو" فليس إلا تواريا خفيفا عن الإفضاء المباشر وإلا فإن القضية تظل هي القضية وليس في لعبة الإحالة غير كشف مضاعف عن عمق الجرح والمأساة عموديا وانتشارها إلى الآخرين أفقيا فنصبح في حضور جيل من الرفض يتسلح بالكلمة الندِّية، ها هي "أنا" تنقل عن "هو": "ماذا يمكنك أن تبتدع في خلاء الرتابة..الصباح يمضي كالصباحات الماضية..والمساء يأتي كما تتوقع أن تأتي المساءات الآتية..وأنت كما أنت واقع في حصار الجدران القذرة؟!" هي نفس العذابات إذا تمزق المحال عليه كما المحيل، فإذا بالتواري والغياب يصرح أكثر مما يصرح الحضور والظهور وإلا فما معنى أن يترسخ مستوى التعليم الجامعي لدى السارد الفرعي هذا فيخبر بترديده لأغاني حفظها "من أيام الجامعة" غير أن يمد حبل التواصل مع أشتات القصص الأخرى ويمتد في تصورنا بالتالي وحدة المسار الذي يقتات منه المتن السردي كله وإن تعددت حلقاته، لكن البعد الذي ينمو هنا يزيد في تشييد صورة المثقف ملامح جديدة ربما أغربها وربما أولاها بالاعتبار وربما أيضا أشدها دلالة على خطورة حضور هذا النوع من البشر: أن يصير المثقف أذنا ، هي استعارة غريبة ومجاز أغرب ولكنه ربما المجاز الأصوب لتصوير هذا المثقف المهووس بالسرد والمسكون بالتقاط الخبر وهنا مأساته وأيضا خطورته، مأساة من يعيش لحظات الحياة في التفاصيل والدقائق ويتتبع الخفايا فيها والجلائل، وخطورة أن يلتصق هذا الكائن الحساس بالحياة إلى درجة إحصائها وفهم خباياها، هي فعلا صورة مرعبة ولكن رعبها في وظيفتها وليس في الخيال الذي توحي به أليس في كتاب الله تهمة للنبي – صلى الله عليه وسلم- بأنه أذن، فكان جواب القرآن "قل هو أذن خير لكم" أليس في المثقف هذا الامتداد الذي يخيف النوايا الشريرة وأصحاب المقاصد العليلة؟

يفكر المثقف أحيانا كما يفكر أبسط الناس ويريد أن ينتشل ذاته من غرق مقدور في أسوار مدينته، يريد أن يلتحف فضاء آخر معتقدا أن الفضاءات مختلفة وأن الجو الخانق في موطنه بالإمكان استبداله بمجرد القفز إلى الضفة الأخرى أو الجنة الأخرى ، ولكن هيهات..هي العقدة ذاتها ..هي الوشم الأول حين سقط على الحصير "فنحست حياته" أليس يرى في هذه البلاد الأخرى الانتكاسات ذاتها والانكسارات ذاتها، هو قدره إذا الذي يطارده، حيث لا ثمن للرغيف غير ابتلاع المهانة واستمراء المذلة، ولكنها خسارة أفدح حين تكون المساومة على اللقمة والتي كان يظن أنها بثمن بخس هناك في الضفة الأخرى ويفتح وعيه ليدرك أن جوعه في موطنه أرحم من هذا الشبع الموبوء بالصغار ومن حينها يرتسم مشروع جديد، مشروع للعودة والإياب إلى أحضان أولئك الذين غادرهم ذات حلم وصور في مخيلتهم أنه سيعود محملا بالخيرات وأن مأساته ليست إلا وليدة ظروف عابرة، وهاهو يعود بالجسد ذاته ولكن بلا حياة، علامة بلا معنى، دال بلا مدلول، بل دال هو المدلول ذاته لقد ذهب ليعيش وعاد بلا حياة..

"قال صوته بحنجرة قاص يدعي الحداثة.." مازال المثقف يقول ويسرد ولا يدري أنه يرسم ملامحه الواحد بعد الآخر ليستوي في النهاية كائنا مكتملا، هنا تنكشف مهنته بجلاء، مهنة جليلة القدر والخطر، تبرر لأي شرير أن يتوجس من هذا الكائن الغريب عن زمنه وعن فضائه، وهذه ليست دعوى بل واقع يومياته يكشف عن ذلك، هو يتذوق هذه الغربة وهي تمتصه وتقتات منه، هو يفهم غربته ويحاول أن يتقبلها بمراراتها بطقوسها اللذيذة والمريرة، فيعبر في حياة الآخرين خفيف الظل أو بلا ظل تماما كما يريد الآخرون أن يمروا في حياته بلا أثر ولا رابطة تربطهم به، لحظات من النزوات وقفزات من زمن هارب إلى وحدته وتفرده، مشغوف بمهنته ومادته: "أين أقاصيصي؟" هي فعلا مسألته الملحة وقضيته الباقية المستمرة، قضية المثقف المسكون بالبياضات فقط وكل ما بقي فهو عابر عبور "زبائن آخر زمن" .

وحين يضيء بعض ماضيه ويمدنا بخيوط عن أصلابه تتضح بعض طلاسم "الحصيرة النحسة"، قد كانت في القلب أحلام وآمال ككل خيالات الأطفال، خيالات كبيرة قد تجبر آباء على الغيبة كما "تجبر النوارس على مغادرة الشطآن مجبرة..فتبتعد محتجة غاضبة.." ولكنها تبتعد..وقد لا تحتضنها الشطآن إلا وبرد الثلج قد جمد مفاصلها، هي ذاتها قصة ذلك الأب الذي لم يفلح ركام من المحفوظات والشهادات أن يحول دون غيبته طلبا "لجنة الضفة الأخرى" تماما كما لم يغير ذلك الركام في مسار ومصير "مولود الحصيرة المنحوس" فها قد "حفظنا الفاتحة، المعوذتين وسورا أخرى من الخاتمة بشهادة الجميع والجامعة كما كنت تحلم وتريد..وها نحن صغار تبددنا أرصفة الفراغ، تنهشنا كلاب أسئلة حارقة على امتداد أفق قاتم، تشربنا بحار ومحيطات الحزن، تبعثرنا أزقة الصمت، يمضغنا الضجر في بطء ويسكن جن الخوف في أعماقنا..فنصغر ويكبرون، يكبرون.." هي القضية ذاتها إذا أن لا تطعم الكلمات ماضغيها ولا تسمن راصفيها من جوع..ويضطر الشمل لأن يتشتت والقلوب أن تتفطر وتظل الأعين مرشوقة نحو الآبين المغادرين والمغادرين الآيبين كما طيور النورس المبعدة عن شواطئها ومحاضنها أبدا لا تفتأ ترجو وتحاول وكأن هذا قدرها دوما أبدا، إنه بعد الغيبة القسرية هو الآخر يدخل ليصمم بعضا من مشهد هذا المثقف المحزون، غيبة تؤثث يومياته أو يوميات من يحب وتدخل مفردات معجم حياته..مفردات المطارات والجوازات والرحلات والمواعيد والتأخرات والآمال باللقاء والغدر بها ذات لحظة حين "لايبرد ثلج المفاصل.." وتعود النوارس إلى الشطآن ببرد ثلجها..مع أن الغيبة لا تتوقف لأن أقدار مولود الحصيرة هكذا ارتسمت ولا خط للرجعة لأن مسارات السرد هكذا نسجت !!

في همس النوايا القصة والتي أعطت للمجموعة اسمها ينبغي أن نكون في بؤرة المتن، لا لشيء سوى لأن هذه القصة توقفنا على "تسريد النوايا" وكشف مخزونها، ويا له من مخزون: حياة العبور الدائم والتجريب الذي لا يتوقف في حياة السارد المثقف يتبدى ههنا في عقد الصلات بين نكرات..بين شخوص تلخصها حروف: آنسة (س) و سيد (م): قبد يبدو هذا التجريد متساوقا مع تيمة النوايا حيث لا تزال العواطف والأفعال في طور التصورات والمشاريع ولم تتبلور صورا وسلوكات وما الشخوص غير وظائفها وأعمالها، ومن هنا تطابق الوصف مع صورة الوجود، ولكن للقضية بعد آخر هو إرادة التعميم وصياغة السلوك المتكرر المعهود، رتابة وطقوس أفرغت كل الأظرفة من طاقة الحياة والدفء، هي هي طقوس التعارف والتجاذب منكشف الأغراض وقد تدربت عليه الشخوص ووحفظت مطباته ودروبه ومنزلقاته، فلا داعي للتعريف بـ(س) أو بـ(م) لأن المشاهد المكرورة لن تتغير، ولأن الخيبات على الأبواب في ظل برد العواطف المزمن ولذة العبور الدائم والظرفية المزمنة..لا داعي ..للتشخيص ويكفي المثل والشاهد..يكفي عمر وزيد لرسم مشاهد العواطف المستعجلة والقلوب الحائرة والطائرة بلا توقف بين المحطات الحزينة..هي ذي إذا لعبة التجريد ومنطوياتها الحزينة في حياة ..المثقف.

هل تتعب ذاكرة السارد من حكيه فيعهد بالمهمة إلى غيره؟ فماذا نقرأ من حضور الحكواتي الضارب في الطفولة والمغرق في العجائبية والتغريب؟ أي تبتل واستغراق يلجأ إليه السارد حين يتوارى خلف الحكواتي ذي الشاربين المنسدلين و"الجلابية البضاء"؟ أي استرواح متصوف يغمر هذا الصدر المتحشرج والقلب المتموج بالأحداث؟ أم تراه نفس يأخذه على عجل قبل أن يعود إلى السرد المعهود وهويستنفذ الذكريات ويستحيي الآلام. أم هو حبل سري يجذبه إلى أسلاف الساردين ليمد روحه بالحيوية والاتصال، ويستنقذ روحه من جمود الحاضر بنداوة الماضي وعبق خيالاته البريئة الساذجة..هي كل ذلك..محطة لاستجماع أنفاس الذاكرة، ومناسبة لمد الحاضر بمسارات الماضي حتى يغتسل من بعض برده وثلوجه..هي إطلالة "بوربيع" لتنقشع بها عجلة الحاضر ولهفته وأنانيته، هي فسحة "قمر الليل" لينفث في روع السارد مددا..مددا..مددا..

"من يسرق الحب منا؟" نعم هو ذا جوهر المسألة، من يسرق الحياة منا، ومن يسرق الدفء منا؟ من المتهم ومن الضحية؟ من أحال جوانحنا إلى برد وصقيع؟ من صبغ وجودنا بالجمود والتكرار والملل؟ لعله لا يوجد من، لعل السؤال عن الكيف ولماذا؟ هل يمكن أن تتحرك شرايين الحياة بين فواتير متراكمة..هل تستلذ علاقة تحت إيقاع ممل للمتطلبات التي لا يمكن أن تلبى..هل تهدأ عواطف يهزها كل يوم مزيد من التبعات..إلى أين سباق طلب بلا عرض وعرض بلا مقدرة..هي ذي صورة الحياة في لقطة مريرة، حين تختفي أعمق الذكريات وراء أفدح اليوميات ..يوميات النفقات واللهث وراء تسديد الأعباء..
لغة الخسائر تمتد مع كل صباح وفي "صباح الخير" إفضاء لنمسك بتلابيب أحزان مستغرقة للزمان والمكان بل للماضي والذكريات، مع كل إشراقة محاولة جديدة للإفلات من وقع الهزائم..لكن هيهات..فـ"غربة أهل الكهف" قد صبغت كل مناحي الحياة ..وحتى الاستنجاد بالراحلين ما عاد في إمكانه أن يداوي بعض الجراحات..ووحدها "ديكة العالم" مازالت تكرر "صباح الخير" كل صباح ينهض على أنقاض ليال من الذكر الحزين..

وأين الهروب من ذكرى الفجائع..أين الخلاص من الفكرة التي سكنت الفؤاد ولا تستريح إلا وهي تستثير السارد المثقف فتنهي الضجعة المتململة..لتبدأ طقوس الخط المحزون على البياضات ..تبدأ رسوم الأسرار المنفلتة رغما عنها إلى الأعين الظمأى المترقبة لفلتات القلوب..هو ذا مصير السارد حين يقتات من مأساته ويستلهم آلامه ليدفقها على صحائف تفضحه..تورطه..تجرمه..فكيف إذا كان السرد عن الماء وللماء وبالماء..هل هي لحظة سريالية؟ هل هي إغفاءة عجلى؟ هل هي رحم أمومة تعود لاحتضان فؤاد يرتجف من غربة؟ أم هي العودة للصفو..للصدق..للعفوية؟ هي كل ذلك أو بعضه..هي رغبة في الاغتسال..وهي لذة الصفاء الأول ..وهي نزوع نحو الأفق الواسع والممتد خارج الأسوار ..أسوار المدينة..أسوار القيود الرتيبة ..بعيدا عن كل أثاث معهود..تمر به كل لحظة إلى التجدد ..إلى المولد من جديد..هي لحظة المثقف الأولى..لحظة الكلمة الأولى قبل أن يغرقها ضجيج الباعة والمتسوقين بالكلمات الزائفة..والمستوردة..

هي إذا مطالب الضرورة، أن تهفو نفس المثقف دوما إلى لحظات من الخلوة لغسل ما علق من يومياته، لأن كل الإفضاءات اغتسال، وكل الإفضاءات مخاضات ووضع يتطلب اغتسالا واغتسالا.."سيذبحونني" هي صرخة الوضع الأليم التي تتكرر مع كل جرة قلم.."سيذبحونني" هي وقفة كل مثقف مع مواليده الغريبة الخطيرة، المحيرة والمثيرة. لحظة الفرح والخوف في آن ..الفرح بخروج المكنون إلى العالم..والخوف ممن سيتلقونه..ممن سيرونه ويستقبلونه..كم هي عسيرة تلك اللحظات حين يحتكم المؤلف إلى متلقيه منتظرا انفعالاتهم وتعليقاتهم وسياطهم النازلة عليه..على مولوده..بلا رحمة.."سكاكين جبارة وأيد حجرية تطبق على رقبتها المرمرية ثم تواريها التراب.." ما أعسر المخاض والميلاد!

ما كان بعد هذا لشهرزاد أن تسكت ولو أدركها ألف صباح، لأن المؤجل كثير وما بقي يستحق الاستمرار ، وما كان لشهرزاد أن تلزم "الكلام المباح" وقد تشكلت لها صورة المثقف المنتهك لغير المباح، مثقف قد عودته الكفاحات والنضالات على تخطي الرسوم والحواجز، لا ينتظر بعد هذا من شهرزاد إلا أن تجعل من سردها سببا لحياة الناس لا طلبا لرأفة شهريار.

هذا هو القدر، أن تظل الحكاية والكتابة في يد المثقف قاتلا أو مقتولا، وسواء أتنفس بها أم نفس بها عن غيره ستظل مصيره الذي استوت به حياته وتحددت ملامحه، ستظل الكتابة ما دامت مطاردة الظل الهارب منه، قد يبدو ظل حبيب أو ظل رقيب، ستظل أنامل الخط في حراك دائم ليؤثث الحياة ليس بما هو زينة ورونق ولكن بما هو جوهري وحيوي، من يستغني عن لذة البحر وغسل الماء، هي الكتابة غسل الفؤاد وروح الأنفاس المتعبة، من يحيى بلا أنفاس؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى