قراءة لديوان رجفة المقامات لمحمد الشحات
يواصل الشاعر المصري المبدع محمد الشحات مشروعه الإبداعي الذي يوازن فيه بين الذاتية الغنائية، والتجريب في بنية الصور التي تؤول موقف الذات من وجودها النسبي، وبحثها عن إشكالية الهوية في أخيلة اليقظة، وحوار النفس / المونولوج الشعري الذي يمتزج أحيانا بالسرد الكثيف الذي يصور رحلة الذات في فضاء حلمي داخلي، أو بحثها عن فضاء سيميائي مغاير، يستنزف بنية الحتميات الواقعية، والنهايات الحاسمة؛ فالصوت المتكلم يؤسس هنا لفضاء روحي شعري متعال، ودائري، يتجاوز مركزية الذاكرة، والهوية المحددة باتجاه النماذج الفنية المتخيلة للخلود؛ والتي تذكرنا بنتاج كارل يونغ، ونورثروب فراي حول استعادة الأدب للنماذج الكامنة في اللاشعور الجمعي، والذاكرة الثقافية الجمعية بما تحويه من شخصيات، وأبنية تقبل التكرار، والتحول، وعبور الزماكانية؛ هكذا يمزج المتكلم – عند محمد الشحات – بين الصراعات الداخلية للصوت في علامات، وصور؛ مثل الوجه، والظل، وأطياف الذاكرة الحلمية في سياق البحث المستمر عن تجدد مدلول الهوية، بينما يستشرف فضاء سيميائيا روحيا آخر، يقع فيما وراء مدلول الواقع، والهوية، والذاكرة، والعمل الفني بمدلوله المحدد / الإنساني باتجاه جمالية فنية كونية يمتزج فيها الصوت الدائري بالوجود بمدلوله الواسع، وأخيلته الجمالية المبنية على دائرية الروح؛ مثل أخيلة النور، وصورة الطائر المرح في الفضاء، واتساع الغرفة التي تحوي دوال الهوية، والذاكرة باتجاه فضاء آخر محتمل، ومخيل من داخل مدلول الغرفة الظاهر نفسه؛ وكأنها تتصل – في صور الخطاب الشعري المتواترة – بالفضاء الدائري الذي يقع بين الداخلي، والكوني؛ وتبدو مثل هذه الثيمات، والتقنيات الفنية واضحة في ديوان محمد الشحات / رجفة المقامات، وقد صدر عن دار الأدهم للنشر بالقاهرة سنة 2020؛ وأرى أن ارتكاز الديوان على تكرار النماذج، والبنى الروحية المتجددة في الخطاب الشعري النسبي له دلالات ثقافية تتعلق بالهامشي، والسائد؛ فالصوت المتكلم – في الديوان – يعزز من التوازن بين الفضاء النسبي الحتمي المحدود باتجاه رحابة الفضاء الكوني، والمعرفي الذي يفكك مركزية آلية العلاقات الإنسانية، أو خضوعها لمبدأ المنفعة المباشرة التي تقتصر على معرفة الذات بالبنى التاريخية النسبية للحضور؛ فالنص يستشرف مدلولا دائريا للهوية، أو يقيم علاقة اتصال غير مرئية بين الفضاء الذاتي النسبي، والصور المتعلقة بالفضاء الدائري الذي يقع بين العالم الداخلي، والأشياء الصغيرة؛ مثل القصاصات الورقية، والخيال الفني الممزوج بالعلامات الكونية؛ مثل علامة النور، أو أخيلة اليقظة المتمركزة حول فعل الطيران المجازي.
وتشير عتبة العنوان / رجفة المقامات إلى الاتصال بين النسبي / الجسد، وحالة التناغم الداخلي الكوني التي تستشرفها الذات فيما وراء الدلالات التقليدية للواقع، والوجود، وإلى تنوع هذه الحالات، وثرائها الفني المحتمل، وإمكانية تجددها في العلاقة بين الوعي، واللاوعي، وظواهر الوجود بغض النظر عن البنى الزمكانية النسبية في لحظة الحضور.
*استعادة الرحلة الحوارية التصويرية الداخلية، وتجدد البحث عن الهوية النسبية:
يجدد المتكلم – في خطاب محمد الشحات الشعري – بحثه عن الهوية عبر الحوارية التصويرية مع الوجه، أو الظل، أو انعاكاسات الوجه / القناع في المرآة، أو مواجهته لأطياف الذاكرة، وإن جاء البحث عن الهوية هنا مشروطا بإمكانية العبور باتجاه الفضاء الجمالي الروحي المحتمل، والذي قد يقع بين الفن، وخيال اليقظة، والانطباعات المولدة عن العناصر الكونية؛ وتبدو هذه العودة إلى إشكالية الهوية التصويرية في قصائد الجلوس خلف المرآة، ومساومة الظل، والبحث عن ملامحي.
يقول في قصيدة الجلوس خلف المرآة:
"ويعاندني / حين أحاول أن أتبع خطوته / لأرى / أين يخبئ ما فات من الأيام / ويظل يناوش كي أتعثر / لا أملك / إلا أن أجلس / خلف المرآة / أحاول أن أصلح / وجهي"(1).
يعزز الخطاب الشعري هنا من موضوع البحث المستمر عن الهوية، والذاكرة فيما وراء الوجه الكامن خلف المرآة، فضلا عن المراوغة، والمطاردة السردية الكثيفة بين الذات، والوجه، والقناع في المسافة الجمالية بين فضاء الواقع، والفضاء السيميائي للمرآة؛ والذي يراوح بين الامتلاء بالقناع المشبع بعلامات الهوية، والاختفاء، أو الفراغ الكامن في مراوغات الوجه الأخرى في المشهد.
ويقول في قصيدة مساومة الظل:
"فأراه على مقربة مني / يجلس منتبها / يتربصني فإذا ما حاولت أهم / يهم / أخاف أن يتململ / ويخالفني الرأي / ويتركني"(2).
يواصل الشاعر حواريته الداخلية الذاتية مع الظل؛ ليصل إلى مدلول للوجود، والكينونة يقوم على التناغم من داخل مساحة الانفصال التي تؤسس لسردية المراوغات، والمطاردات مع القناع، أو الوجه، أو الظل؛ إنه يسعى لتأكيد مدلول الوجود من داخل قلق الانفصال عن الظل، وامتداد الاتصال المجازي، والحوارية الداخلية في الخطاب الشعري؛ ويوحي الظل هنا بالأداء التمثيلي المؤكد للهوية في المشهد اليومي، والكوني، ويجسد أيضا القلق المولد عن التحديد النسبي للهوية؛ ولهذا يستشرف الشاعر – في الحركة الثانية من الديوان – اتساع مدلول الذات حين تبحث عن دائرية جديدة للعالم الداخلي في فضاء روحي آخر.
ويقول في قصيدة البحث عن ملامحي:
"قطر / من الدمعات يهبط / حين تغمرني فأطفو / فتردني طفلا يقاوم ضعفه / ويظل يبحث / عن ملامحه / التي تاهت هناك / في دورة / لا تنتهي"(3).
يؤسس الخطاب الشعري هنا للفضاء السيميائي الجمالي للغرفة التي تحمل دلالتي الحياة المجازية للذاكرة في أطياف الجدة الجمالية، وأطياف الطفولة في الوعي، وبدايات الخروج باتجاه التعالي الروحي للذات، أو عبور جدران الغرفة، وجدران الوعي معا باتجاه دورة مختلفة من إدراك الشاعر لهويته تبدأ من التفاصيل الواقعية، والذكريات التاريخية، وتتجه لجماليات الغرفة وشعريتها المجازية، حتى تصل إلى استشراف الحياة الكونية الواسعة فيما وراء الغرفة.
*البحث عن مسار شعري روحي:
يحاول الصوت المتكلم – في هذه الحركة الثانية من الديوان – أن يستشرف ما وراء الحياة اليومية، والذكريات، والتفاصيل الصغيرة باتجاه الصور الفنية المبنية على الحضور الدائري للذات، والتعزيز من الحدس بنموذج الخلود المستعاد من أصالته البنيوية في اللاشعور الجمعي، والتراث، ومن داخل أحلام اليقظة التي ترتكز – في هذه الحركة – على التناغم، والتجانس، والاطمئنان.
ويرى عالم النفس السويسري كارل يونغ – في كتابه القوى الروحية، وعلم النفس التحليلي – أن الخافية أو بنية اللاوعي، ونماذجه، لا تقوم على العلاقات السببية؛ فهناك بعض المتوازيات تؤسس لعلاقة أخرى؛ تقوم على التزامن النسبي للحوادث؛ فقد تنطوي بنية الزمان على استمرارية حسية تحوي صفات تتجلى في وقت واحد، وأماكن مختلفة. (4).
تنطوي قراءة علامات اللاوعي الجمعي – عند كارل يونغ إذن – على اتساع مدلولي الزمان، والمكان في بحث الذات عن النماذج الروحية، والخلود؛ ومن ثم يتسع نطاق رؤية الذات لهويتها التي قد تتسع مجازيا في خبرات خيالية جديدة متعالية.
ونعاين مثل هذه الأحاسيس التي تستشرف فضاءات تقع فيما وراء الهوية، والجسد، والعالم اليومي في ديوان رجفة المقامات لمحمد الشحات، وقد يأتي الإدراك الواسع للهوية والذات من داخل التفاصيل الصغيرة اليومية، أو من خلال معاينة الذات لمقامات شعورية تنتقل من الذاتي لنماذج الروح.
يقول في قصيدة قصاصات لا أذكر ما تحمله:
"تذكرت قصاصات / كانت نائمة / في ركن من جيبي / لا تنس / بأن الوقت يمر / فلا تغفل عن ترتيب الأوراق ..."(5).
تبدو الورقة الصغيرة – في الخطاب الشعري للمتكلم – مثل عبور أو تذكرة بذلك العبور المحتمل من صخب الحياة لنماذج الروح؛ فهي توحي بزمنين أحدهما مؤقت ونسبي وصاخب؛ وهو الزمن اليومي، وضرورة استشراف زمن الروح الآخر في وعي، ولاوعي الذات في تلك الحوارية التي تنبع من اليومي، وتتجاوزه في وقت واحد؛ إنها تدفع الذات لتأويل الوجود بصورة متناغمة تنبع من إدراك نسبية الزمن اليومي، ولا مركزيته مقارنة بحدس الخلود.
وقد يبدأ الخطاب بالنزعة الفردية في التفكير، والتي تقوم على استعادة الهوية الذاتية، ثم يستشرف الفضاء الجمالي الآخر الواسع الذي يتمركز على أحلام اليقظة المبنية على صورة النور؛ يقول في قصيدة مقامك:
"واسكن هذه الأعضاء / أفرغ من ضلوعك / نشوة كانت تهزك / وارتحل كيما ترى / عينا معلقة، ونورا ساطعا ..."(6).
يجسد الخطاب الشعري هنا اندماج المتكلم الفرد النسبي بأخيلة النور، وعبور الذات إلى حالة التعالي الروحي من داخل المسافة البينية المجازية بين الحضور الفردي الصاخب، ومعانقة علامة النور بوصفها فضاء شعريا متعاليا.
وقد تتصاعد ثيمة العبور الفنية فتصير نوعا من العبور المضاعف باتجاه الارتقاء الروحي الإنساني في الجزء الخاص بمقام العارفين في قصيدة رجفة المقامات؛ يقول:
"واترك فؤادك يصطفي ما يصطفيه / فإن عرفت محبة / ستتوه في أسرارها / وستنتقي ما قد يعنيك / ... فانهل من النفحات / بارح ما يشدك / كي تحلق في الفضاء"(7).
يواصل الصوت الشعري هنا حث الذات على العبور إلى صفاء الإدراك والمعرفة، ثم استشراف الفضاء السيميائي النوراني، وأحلام اليقظة المتمركزة على صورة الطيران، ونغمتي التناغم الذاتي، والاطمئنان، وقد جاءت نغمة العبور هنا مضاعفة؛ لاتصالها بالتوافق الداخلي الموسيقي، والإنساني الذي يبدو مغايرا لحالة السرد الشعري لمراوغات الصوت، وظله في الحركة السابقة في هذه الحلقة من مشروع الشحات الشعري.
*هوامش /
(1) محمد الشحات، رجفة المقامات، دار الأدهم للنشر بالقاهرة، سنة 2020، ص 38.
(2) السابق، ص 137.
(3) السابق، ص 40.
(4) راجع، كارل يونغ، وريتشارد ويلهلم، القوى الروحية، وعلم النفس التحليلي، دار الحوار بسوريا، ط2، 2002، ص 168.
(5) محمد الشحات، السابق، ص 96.
(6) السابق، ص 21.
(7) السابق، ص 15.