الأربعاء ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٤

قصائد المرارة لم تتخل عن الايقاع

زياد العناني واحد من الشعراء الجدد على خريطة الشعر العربي, فهو برز في الأردن في التسعينات, وراح يصدر دواوينه مع بداية الألفية الثالثة, فأصدر حتى الآن خمسة دواوين شعرية بدأها بديوانه "خزانة الأسف" وأتبعه بدواوينه الأربعة الأخرى, وهي على التوالي: "في الماء دائماً وأرسم الصور", "كمائن طويلة الأجل", "مرضى بطول البال", وأخيراً ديوانه الذي بين أيدينا "تسمية الدموع" الصادر حديثاً عن المؤسسة العربية.

ومنذ ديوانه الأول, تمكن العناني من كتابة اسمه على لوح الشعر بخط بارز, لما تميز به من غرابة في التعامل مع مفردات الحياة, ومن رؤية مخالفة للسائد والمألوف, ومن حرارة تمس كل ما تلمسه قصيدته القصيرة التي تشبه رصاصة محكمة التصويب!

الشاعر الأردني زياد العناني

وكتب الشاعر زهير أبو شايب على غلاف هذا الديوان قائلاً: "يذهب زياد العناني إلى منطقة شعرية ملتبسة, فقصيدته, التي لم تتخلص من الراسب الإيقاعي الذي ورثته عن قصيدة التفعيلة, تعنى قبل أي شيء بحرارتها. إنها قصيدة شجن بالدرجة الأولى, تعاين الذات والعالم والأشياء لا لتصف ولا لتتأمل في شكل تفرجي, بل لتجس حرارة كل شيء, أعني لتقيس المسافة بين ما هو حي وما هو خال من الحياة. من هنا كان لا بد للقصيدة نفسها من أن تكون حارة ومشحونة بنشيج غنائي يبعدها عما هو مألوف من مواصفات قصيدة النثر".

تفيض قصيدة الشاعر العناني بفجائعية هائلة, مصدرها كل هذا الشعور بالمرارة واللاجدوى, وعبثية التعامل العقلاني مع فنتازيا الواقع المحيط! وهي فنتازيا ممتدة منذ بدء الكون, ويتوارثها الناس من دون أن يملكوا أي مقدرة على تغيير معالمها, وكأنه يشير إلى قدر إغريقي لا فكاك منه... ولا يتمتع الزمن في هذه الحال إلا بما يمنحه من مزيد من الألم والفواجع, ومزيد من الخسارات!: "كنا معاً/ وكنا كاملين/ والآن/ أكتب قصة النقص/ بقلب ذائب... ليس لي نار/ وقودها الناس/ وليس لي سوى قميص/ مبلل بالعرق/ ويد/ معبأة/ بالخسائر والجروح".

المسألة هنا هي أن الشاعر جاء إلى الحياة وهو يظنها شيئاً آخر غير الذي خبره منها, وغير الذي عاشه وأحسه ورآه ولامسه. ولهذا فهو يعلن أن حياته مجرد مرور خاطف: "وأنا صائم/ وأنا نائم/ مرت الحياة/ من جانبي...".

ولكي يقصي كل هذا الشعور بالخذلان, فإنه يجرب أولاً, وقبل أي شيء, الأمل, ويكتشف أنه واحدة من مفردات العادي واليومي والسائد والمتوارث, وأنه مجرد وهم يرافق الأسى ويحاول تجميله فحسب.. وهكذا يتخلى عن مشروع الأمل لمصلحة الحلم... ولكنه حلم من نوع مختلف أيضاً... حلم بإعادة صياغة الحياة من جديد... العودة إلى الرحم الأول, أملاً بولادة جديدة تحمل معها صياغة مغايرة للحياة التي مرت خطفاً وهو نائم!! وربما كان حلماً يحمل طيه الرغبة في الاختباء من ألم الكائن والراهن المكبل بقيود الماضي, وعبثية الراهن, ولا جدوى المستقبل!!

يقول أبو شايب: هكذا يحاول العناني أن يسترد حرارته الرحمية, وأن يعود إلى براءته الأولى... إلى طمأنينته وضعفه وحلميته.

ولكن الشاعر غالباً ما يقرن هذا الحلم بمرارة فقدان الأم, التي تحتل في الديوان مساحة واسعة: ماتت/ أمي/ وهي لا تعرف من/ هي اللوزة من بين الأشجار".

وعليه, فإن العناني يعلن في غالبية هذه القصائد, أنه مجرد جسد, وأنه ميت بطرق وأشكال عدة, منها الوحدة والعزلة والألم والإحباط والمرارة والخيبة والفقد, إضافة إلى جنون هذا الكون وقسوته وجبروته: "لم يسفر اللقاء مع الموت/ عن شيء/ سوى أنه/ تاه في جثتي/ ثم خرج/ بيدين فارغتين ومالحتين/ من أثر الدموع...".

وتحتل المرأة في هذه القصائد مرتبة عليا, فإضافة إلى الأم, هنالك الزوجات والحبيبات والعشيقات والمخلصات والخائنات... وهن يشكلن ملمحاً آخر من ملامح هذه الحياة التي لا يرى فيها العناني شيئاً سوى الإكراه المتمثل في ملامستها والانخراط فيها في شكل أو في آخر!!

وإذا كان زياد العناني يبدو مسكوناً بهواجس ذاتية, فإنه في جوهر رؤيته ليس كذلك.. فهو بالمقدار الذي يبدو فيه ذاتياً, إنما يضع نفسه ممثلاً للبشرية في خساراتها وانكساراتها وإحباطاتها: "يشهد ربي/ أني أغلقت عيوني/ بالعتمة/ والطابوق/ يوم/ تدخل إبليس/ بلا إذن/ وخسرت/ أنا". فلم يكن إبليس خاصاً بالشاعر وحده, بل كان بداية انخراط البشرية في لعبة غير متكافئة من جهة, ومحسومة النتائج من جهة أخرى كما يشير الشاعر.

قد يبدو زياد العناني واحداً ممن يعانون الكثير من القلق الوجودي, وهو أمر له ما يبرره في القصائد, ولكن ما يبدو كذلك سرعان ما ينطفئ ونحن ننفذ إلى أعماق هذا الشعر... فالعناني لديه من التجارب الحياتية والخبرات ما يجعله يرى الحياة كما أشرنا من قبل... فهنالك الحروب والقتل والخيانات والميثولوجيا الدينية والرعب وآلام المحسوس والملموس والكائن وما يمكن أن يكون... أي أنه استطاع تشكيل رؤيته للحياة بناء على خبرته التي لم يتمكن معها من مجاملة الملموس, والتستر عليه, والادعاء بأن كل شيء على ما يرام... وهذا ما جعل زهير أبو شايب يشير إلى أن ذلك الحس الوجودي الذي تتميز به قصيدة العناني, لا يجعلها تتأمل الموت وتمتلئ بقلقه, بل يدفعها إلى الشجن.

ولكن ما هو أكثر أهمية من الشجن, هو هذا التمرد الذي ينبعث من بين هذه القصائد... وهو تمرد العارف والمدرك والحالم... تمرد الشاعر لا السياسي أو الإصلاحي: "نامي/ نامي/ لن أصغي إلى أحد/ فأسي بيدي/ والمعبد يرتجف". ويأخذ التمرد أشكالاً عدة. فهو موجه ضد الإرث الثقيل, والقيود التي جاءت معه. وهو حيناً ضد الأب بما يمثله من سلطة سياسية واجتماعية ودينية. وهو في كثير من الأحيان موجه ضد الشاعر نفسه, حيث يدرك عجزه الكبير عن الفعل والتغيير... يريد العناني أن يكون حراً... أن تكون البشرية كلها كذلك, وهي لن تكون كذلك إلا إذا تخلصت الحياة من هذا النسق التاريخي الذي وجدت نفسها فيه!

وإذا كنا نحاول البحث عن معنى ما, ونحاول تفكيك هذه القصائد, وتقويلها ما يمكن أن تهجس به همساً أو تلميحاً أو دلالة, فإننا نفعل ذلك ونحن ندرك أن الشعر لا يحفل بالمعنى والمقولات, بمقدار ما يعنى بتحطيم الأطر التقليدية للتعبير, وبمقدار ما ينطوي عليه الحس الشعري من زلزلة المفاهيم والقوالب المألوفة في الخطاب. ولهذا نلمس في هذه القصائد كل ما يمكن أن يعين الشاعر من أدوات فنية.. فهو قليل الكلام إلى حد لافت... وكثيراً ما يلجأ إلى العبارة الوحيدة التي يكثف فيها رؤيته إلى شيء ما: "طيري يحوم/ لا غصن ولا عش/ ولا شجرة". وليس غريباً أن يستعير العناني أدوات الرسم في الكثير من قصائده, بل نراه يلح على هذه المسألة في العناوين, وهذا ما حول الكثير من هذه القصائد إلى لوحات متحركة, وهي لوحات لا يقصد بها عرض الحال أو التوصيف, بمقدار ما يدل بها على عالمه الداخلي الملون والعاصف والمتبدل: "كلما/ قبلت سرتها/ سقطت من فمي/ عدة أزهار حمراء/ بطنها الآن/ حديقة... وفي لوحة أخرى: الكل/ مع الرغبة/ والرغبة يا حزني عصفور مبلول/ ينكمش على أسلاك الضغط/ العالي/ ثم ينظر بجناح دامع/ نحونا".

هذه بعض الإشارات إلى ما احتواه ديوان زياد العناني الأخير, وهي إشارات ليست كافية إلا للفت الأنظار إلى عالمه الشعري الحي, والذي يشبه الزوبعة الهائلة, التي تتهيأ لكنس كل هذا الخراب والفجائع في حياتنا, وتبقي لنا قليلاً من الأمل , فليست مصادفة أن يختم العناني هذه الزوبعة قائلاً: "الآن أضع يدي/ في يد الحياة/ الآن/ أخلع قميصي المبلل/ بدمعة المحروم/ ودمعة المظلوم/ وأقبل زوجة الأمل... وكأنه انتهى من رسالته المجرحة, والندابة, والقاسية, كسياط النار على أجسادنا نحن القراء!!".

زياد العناني في سطور

 ولد زياد العناني في ناعور قرب عمان عام 1962.
 يعمل في القسم الثقافي في صحيفة الرأي الأردنية.
 صدر له ديوان شعري عام 1988 بعنوان إرهاصات من ناعور وديوان خزانة الأسف
 ولديه 3 مخطوطات شعرية منها: بدايات عاصفة في تدخين الاسئلة، قصائد الوميض، وكتاب بعنوان:العداء المستحكم بين أفلاطون والشعراء.

عمان - يوسف ضمرة الحياة 2004/06/10


مشاركة منتدى

  • العناني شاعر المفردات المتحولة

    ظل زياد العناني يشكل في ذهنية القارىء العربي اشكالية لما في قصائده من زخم المفردات المربعة التي من الممكن ان تراها بأربعة وجوه.
    ولما عكف العناني على تصوير مشاهد من حياته انكسر البرواز وانشق القمر ولم تتحمل كثافة المعنى وبدا يحلق في فراغ مملوء بالضجيج .
    ان زياد العناني بحق من رواد قصيدة النثر في الوطن العربي اذ انه استطاع ان يغير الشكل والانطباع المأخوذ عن الشعر العربي بشكل عام
    جمعتني مع الشاعر عدة لقاءات كان يتميز بها بأنه شاعر في كل تحريكة وتسكينه اي شعر يفيض من يديه .
    لم يكن العناني يتوقع ان يصبح شاعرا وذلك يلحظ من خلال قراءة تاريخ العناني الا ان الشعر قد غرس رايته في شمس زياد ومضى تنهب به الريح كراية الوطن المخلوع.اسلام سمحان
    شاعر كاتب صحفي
    الاردن

    عرض مباشر : الشاعر زياد العناني

    • والله يا استاذ سمحان انت شاعر بمفرداتك وكلماتك المعبرة
      دمت

      عبدالله الشيخ

    • لقد اشار الاستاذ اسلام سمحان في مقالته حول زياد العناني الى قضية جدا مهمة وهي تاريخ العناني والذي مر عنه الاستاذ الصحفي اسلام سمحان مرور الكرام واريد ان ابرر هذا المرور الكريم للأستاذ سمحان بأن هناك خصوصيةفي حياة العناني لا بد وان نحترمها ولكن اود ان الفت نظر سمحان الى ان هنالك ثمة تاريخ لا بد وان نزوده نحن الباقون على وجه الارض قبل ان يجيء الآخرون فيغيروه
      وبالنهاية اشكر الاستاذ الصحفي اسلام سمحان على مقالته القيمة.

      الشاعرة
      جمانه صياح
      دمشق سوريا

    • ان زياد العناني المتفجر الما وحزنا حتى هو يقف متفاجئا من لوعة نصوصه وهذا يظهر مدى حالة الرفض لكل الموجود ولما اشار الاستاذ اسلام سمحان في مقالته المفردات المتحولة الى زخم المفردة في نصوص العناني كانت اشارته خير برهان الى ان الشاعر المملوء الما وحزنا كذلك هو مملوء بمعاني المعاناة الذي ادى بالشاعر الى فيوضات من الابداع.
      ان اسلام سمحان الاقرب الى العناني وان كنت لا اعرف سر العلاقة التي تربطهما الا ان مقالة سمحان تظهر مدى ملامسته للشاعر العناني وهنا اريد ان اقترح على اخي سمحان ان يبذل جهدا اكثر ليخرج بكتاب يتناول فيه نصوص العناني وحياته.

      خالد الشافعي
      لبنان

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى