الخميس ١٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم هند فايز أبوالعينين

قصتي مع الألم

" لماذا قلت ِ لي هذا؟
لماذا قلتِ :خـَسيت ..! ؟"

سمعته يسألني وأنا بربع صحوة مرابٍ قام من قبره يتخبطه الجن . لم أعرف ماذا يقصد، فأنا لا أذكر أني حادثته من الأمس. أم هل كان اليوم صباحا ..؟ لا أذكر

لكني أذكر كل شيءٍ عدا ذلك.

لم أكن أعرف قبل صباحين أنني سأتعلم معنى سكرات الموت في غضون ساعات. ومن حسن حظي أن قدّر لي ربي ألا أكمل الطريق إليه، أم هل هو من سوئه؟ لا أعلم هذا أيضا.

تبيّن لي أن هناك الكثير مما لا نعلمه ونحن نعيش في متوالية الأيام المعدودة، في انتظار ما هو غير معروف. وتبين لي أن من المشاعر الإنسانية ما لا ينتقل لا بالصوت ولا بالضوء ولا بأي شكلٍ من الأشكال.

إن ابتسمتَ فرحا قد يبتسمُ من حولك لطفا ... وإن ضحكت طويلا فقد يضحكون معك قبل أن يسألونك السبب، جرّاء العدوى ليس إلا. وذوو القلوب المرهفة قد تدمع أعينهم لحزنك إن بكيت.

لكن الألم إحساسٌ لا يعدي ولا يـُستشفّ، ولا تستطيع إيصاله حتى الصرخات المدوّية، حتّى أقرب الناس لدمك، لايصلهم ألمك. سبحانه وتعالى ، يعرف كيف يمحو الخطايا محوا تبيضّ معه صفحاتنا قبل الوصول إليه، وإن قـُدّر هذا لعبدٍ فما هو إلا من نعم الله ورأفته به.

في وقت كنت أعاني فيه من تيه روحي، لصحوةٍ مفاجئة أصابتني بعد أيام ٍ من فقد والدي، صحوة إلى جهلي بماهية الروح، وكيف نصير إلى التراب بعد العظمة في الدنيا، اقتحم بابي غول غير منتظر. لعلّه أتى بتوصية من خالقي، بأن يبيّض صفحتي تماما. ولم يكن الأول، فقد صادقتُ غولا قبله، حتى بات يحادثني وأحادثه ليلا حين لا يسمعنا إلا باعثنا... لا بل أزعم أنه يشتاق إليّ وسيعاودني يوما من الأيام.

أما أخوه هذا فقد كان كإعصارٍ عاتٍ لم تؤذن به أمطارٌ ولا ريح.

استيقظت صباح ذلك اليوم على حركة بسيطة في بطني، ما أن انتهت حتى فقدت القدرة على الجلوس في السرير لشدة تابعتها، ومن بعد الثالثة بدأت أتعلـّم لـِمَ المبطون شهيد. وكانت الساعة تقارب التاسعة صباح يوم سبت، يوم إجازة أسبوعية.

بدأت أحاول كبت صراخي لئلا أرعب أبنائي الذين تحلقوا حولي، سعداء بخطة لمشوار في الجبال. لم أفتح فمي بما في بطني، وبعد أن طردتهم من الغرفة أخذت أتلوى على السرير كأفعى تخلع جلدها.

خرجنا أنا وزوجي من البيت بما يشبه ملابس النوم، وفي المصعد حل ظلامٌ دامس ، استيقظت بعده لأجد نفسي في سيارتنا نسابق الهواء إلى أقرب مستشفى. لم تفلح أشعة إكس ولا جاما ولا غيرها في إظهار صورة الغول أو أيٍّ من معالمه، فما كان من الأطباء إلا أن قالوا لزوجي أنني " أتدلع للفت النظر". ولأنه يعرفني ويعرف صلابتي وقدرتي على تحمل الألم، ضرب بكلامهم عرض الحائط، لاعنا مهنة الطب على الأطباء جميعا ، وخرجنا نسابق الريح مرة أخرى إلى مستشفى آخر. كنت أضغط أسناني خوفا من فتح فمي، حتى لا أزيد من رعب زوجي ، فتقتلنا السيارة سوياً بدل أن ينقذ أحدنا الآخر من الموت ألما.

في المستشفى الثاني وضعوني تحت الأشعة لمرة ثانية، ولم تفلح هي أيضا. فأخذوا يجربوا في بدني محرشات الأمعاء، لعل مسبب الألم يخرج مني. تجاربهم هذه كانت كرمْي الغول بحجارة من نار، فما كان منه إلا أن ثار عليّ وعليهم. عندها لم يعد بدني يستطيع الصراخ أو التلوّي، بل صرت أقف وأرتمي لا إراديا بكل قوة وزني يمينا ويسارا إلى درجة تحطيم بعض حاملات الأدوية الموضوعة في غرفة الطوارىء، وصار عصيا عليهم وزوجي أن يتمالكوا حركاتي الهوجاء أو تقييدي بالسرير، ولصعوبة خروج النفس من صدري لم أستطع الكلام أو الصراخ. لم أفقد الوعي... بل فقدت القدرة على إفهامهم مدى ألمي .

أول معرفتي بالغيلان لم تكن هكذا... بل كان فيها بعض من الرأفة بالحال، بعض الرأفة بضعفي الأنثوي. ثم كانت هناك مساحة للحوار في صداقتنا. نعم ... كنت أسأله مثلا: لماذا جئت الآن؟ وماذا أفعل حتى أكسبك صديقا وترأف بي؟

صحيح أن الحوار كان من جانب واحد معظم الوقت، لكني كنت على يقين بأنه يسمعني على الأقل. وأحلف بكتاب باعثه أنه مرة ً رد عليّ، لا بل ردّ على دعائي لباعثه. حين قلت ذات فجر والناس نيام ، بعد أن داهمني بلا استئذان ٍ كالعادة، قلت: " يا رب ، أدعوك حين لا يسمعني غيرك، ولا يعلم بحالي غيرك، أدعوك يا رب أن تـُُذهب عني هذا، وسأصلي لك كل يوم، فأنا فلم أعد أطيق، ومن كثر تذمري لم يعد أحد يصدقني غيرك يا ربي..."

ليلتها فاجئني صديقي اللدود بأن له صوتا، صوتٌ أقرب إليّ من حبل الوريد، فلولا أني لم أنطق بما نطق به لخلته صدىً لصوتي أنا. فاجئني إذ قال : " آلآن تذكرتِه؟ آلآن فقط علمتِ أن لك ربا يُدعى، ويسمعك حين لا يسمعك غيره؟ أما قضيت نهارك بين متاع نعمه دون ذكره مرة واحدة؟"

الرعب الذي أحدثه صوته في قلبي جعلني أرتعش بردا في ليلة دافئة . كانت عيناي مفتوحتين، ولم أكن محمومة كي أهذي، لا بل قد سمعته فعلا.
أذكر أنني استيقظت صباح ذلك الفجر وقد نذرت نذرا لله، وأديته بعد يومين اثنين فقط، وفي اليوم الثالث قضى صديقي اللدود في معجزة لا أعلم لها تفسيرا إلا وجود الله ، سميعا وعليما.

أما صديقي الجديد هذا، فلا أظنه يعرض صداقة ً أبدا. بل جزمت ساعة تحطيم طاولات الأدوية أنه سيفتك بي في غضون ساعات، لا بل في دقائق إن لم تأخذه الرأفة بي. وحتى تصير صفحتي أبيض من ثلج لم يمسس سواد الأرض بعد، بعث الله لأطباء الطوارىء ساعتها ما يلهيهم عني. فامتلأ المستشفى بجرحى حالاتهم خطرة هم ضحايا حادث على الطريق القريب من المستشفى. وبقينا أنا والمسكين زوجي في غرفة جدرانها ستائر، أنا أستنجد بربي صمتا، وهو يحاول تلقف جسدي المتداعي في كل مكان دون أية نجدة من أحد. وما كان منه إلا أن خرج بي إلى مستشفى ثالث دون حتى أن نـُعلم الأطباء...

كانت الرحلة الثالثة أطول من سابقاتها ، وفي المستشفى أعادوا نفس المحاولات التي بدأ بها السابقون لهم، وكأن الأطباء لا يثقون بما يقوله المريض أبدا، بل يحبون إخضاعه لتجاربهم ليروا النتائج بأعينهم. ألن يصل الطب الحديث إلى مجسات توضع على المريض فيصيب الطبيبَ بعضٌ من ألمه حتى يتيقن مما هو فيه؟

وضعوني تحت الأشعة للمرة الثالثة، لا بل أطالوا فيها وفي أجزائها، وعرّفوني في وقت لم أشأ فيه المعرفة بأنواع الأشعة وأجهزتها ومفعولها... ولعجزي عن النطق حسبوا أني أطيقهم. وكان الليل قد بدأ يحل علينا... وأنا بين صراخ وأنين وتجارب أطباء. لم يبق في المستشفى اختصاصي في شيء في البطن إلا وأفتى في السبب وأمر بتحاليل خاصة ليثبت نظريته. حتى صار الليل في منتصفه فانفضّوا جميعا من حولي، وأعطوني مسكنات طفيفة على أن يقرأوا نتائج تحاليلهم صباحا. لكن غولي العزيز أبى أن يتركني بسلام رغم محاولاتهم لإنامته بالمسكنات التي حولتني أنا إلى جثة مرتخية، لكنها أعطته هو دفعة من النشاط ليعيث فسادا بعقلي كما عاث ألما ببدني.

هذه المرة كان الصوت قبيحا جدا ...

صرت أهذي بأسماء أبنائي، لا شوقا لهم، بل خوفا عليهم من فقدي. فحتى شهامة أبيهم وعطفه لن يضاهيا حبي لهم، وحناني عليهم ساعة مرضهم وضعفهم. صرت أغمض عيني فأرى وجوههم، وفي صمت الغرفة أسمع أصوات ضحكاتهم. من سيسمع قصصهم في المراهقة إن ذهبتُ أنا؟ من سيعلـّم البنتين العفة والطهر؟ وفي حضن من سينام سلطان عندما يخيفه صوت ريح الجبيهة ليلا؟

دعوت ربي صمتا، بخشوع لم أعش مثله من قبل، ولا حتى ممسكة ً بثوب بيته الحرام ، دعوته أن يرجأ أجلي إلى أن يشتد عودهم قليلا، وأن يـُذهب عني هذا الألم اللعين ، وأن يمنحني العافية مرة أخرى لأتم عبادته وأقضي ما عليّ من دين له وللناس...

هذه المرة كان الصوت قبيحا فعلا ...

قال لي "ادعوني أنا أخلصك من الألم... ادعوني أنا وترين أولادك غدا ... فقد دعوته منذ الصباح ... ولا زلت تتألمين منذ الصباح... ادعوني أنا وسترين كيف أشفيك في لحظة"

صحت بشيءٍ ما عندئذ ، لكن الممرضة كانت قد أنقذتني قبل الصيحة بثوان ٍ بجرعة من التخدير العام أمر بها الطبيب لإنقاذي من الألم إلى الصباح، فغبت عن الوعي...
***********

"ألن تجيبي؟ ... لماذا صحتِ بي "خـَسيت" ؟

كنت أنظر إلى وجهه المتعب كأنه ملاك أتى من دنيا أخرى ليمسح جبيني. للحظة وعي أنثوية محضة تمنيت ألا يكون شكلي قبيحا ساعتها بقدر قبح إحساسي. فالنهار كان قد طلع ، والشمس تملؤ الغرفة بضيائها، وسيراني بوضوح في تلك اللحظة. اعتذرت له عن العذاب الذي مرّ به معي، وقلت له أني لا أذكر ما قلت في غيبوبتي.

الغيلان لا تروح بيـُسر مجيئها. حتى الصغيرة منها تأبى ألا تترك أثرا.

فغولي الأول الصغير كان قد ترك عربون صداقة بسيط، حلقة من المطاط، من النوع المقاوم لرادارات الأشعة السينية والصادية والعينية أيضا. حتى المعجزات لا تأتي كاملة، لأن الكمال لوجه الله... بقيت القطعة بداخلي سنتين وأكثر، فوجد الغول الجديد ما يلتف حوله ويكبر.

نسي الأطباء في بطني من الألم الأول قطعة مطاط. كانت ستدفن معي لولا أن التفـّت حولها أمعائي في حالتي العصبية العصيبة، التي تلت تلقيّ لخبر وفاة والدي.

أما غولي الثاني فقد ترك لي/ أو عليّ لوحة ً قد تثير غيرة التشكيليين جميعا، تتمحور خارطتها حول خط عامودي بطول حوالي خمس وعشرين سنتمتر وعليه تقاطعات جانبية متعددة، يشبه في هندسته برج أيفل الفرنسي. وحتى لا يشعر غولي بالنقص بين الغيلان، فقد أخذ مني تذكارا بدل أن يترك لي عربون صداقة كأخيه الأصغر. أخذ ما يقارب ربع أمعائي، وشرب ثلاثة لترات من دمي.

ثمانية أيام قضيتها في المستشفى، عانيت بعدها من اكتئاب حاد، يظهر أنه نتيجة طبيعية لتراكم الأدوية في بدني، وللمنظر المريع على بطني، ولبقع سوداء على ذراعيّ إلى الأكتاف جراء وخز الإبر ونقل الدم.

بعد شهرين من هذه التجربة التثـقيفية في الصبر، علمت أن ذلك الغول الحقير لازال يقتص من الطيـبين. في صفحات الجريدة الرسمية قرأت أن العزيز سلطان العجلوني يتلوى ألما في السجون الاسرائيلية نتيجة إلتفاف أمعائه وترابطها. والأوغاد يرفضون علاجه. صرت أبكي عليه بكاءً لم أبكه على حالي مع الغول. الحمد لله على أنه شفي وعاد. وأجزم بأنه هو أيضا صاح به : " خـَسيت"!

لا أصاب الله طيبا بمكروه أبدا.

16 / 8 / 2007


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى