الجمعة ١٢ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم محمد زكريا توفيق

قصص وحكايات من زمن فات (2)

القرية التي ولدت فيها قرية زراعية في شرق الدلتا. لا شئ يميزها عن باقي القرى. ربما هذا سر جمالها وسحرها. في شرقها، ترعة صغيرة موازية لخط سكة حديد، يمتد بمحازاته أعمدة التليفونات والتليغراف. كل منها، يحمل بطاقة شخصية في شكل أرقام، تحدد موقعه ومكانه الفريد. ترتص على مسافات متساوية. كأنها حرس حدود يبغي منع زمن جميل من الهرب والهجرة من البلاد إلى غير رجعة.

في الجانب الغربي من القرية، تمتد ترعة أكبر على جانبيها أشجار الصفصاف والكافور والساسابان، يطلق عليها الأهالي البحر. عليها كوبري لمرور المشاة والدواب، وكوبري آخر يمر عليه قطار صغير يسمى "سوارس". يربط هذه القرية، بقرية أخرى لا يمر عليها خط السكة الحديد الأول.

سوارس يختلف عن ساويرس. الأول هو إسم عائلة الإخوة فيلكس وجوزيف ورفائيل سوارس. أتوا إلي مصر في نهاية القرن التاسع عشر، وكان رفائيل سوارس هو المستشار الإقتصادي للخديو عباس حلمي الثاني. أما ساويرس، فهو رجل الأعمال المصري المعروف "نجيب ساويرس"، صاحب شركات أوراسكو للإتصلات والتكنولوجيا.

الإخوة سوارس كانت لهم أعمال إقتصادية مجيدة في مصر. منها: إنشاء شبكة خطوط سكك حديد سوارس عام 1889م في كل الدلتا والصعيد، لربط القرى والنجوع ببعضها. وهي خطوط سكك حديد صغيرة الحجم. تختلف عن شبكة خطوط السكك الحديدية الكبيرة الحالية، التي بدأت بخط القاهرة-الإسكندرية في عصر عباس حلمي الأول في منتصف القرن التاسع عشر.

كذلك قام الإخوة سوارس، بعمل خطوط مواصلات في القاهرة تسمى عربيات سوارس تجرها الخيول. وقاموا بمد خط سكة حديد بين باب اللوق وحلوان. وعمل مرافق وخدمات سياحية في حي حلوان. وإنارة شوارع القاهرة بالكهرباء لأول مرة عام 1899م قبل مدن كثيرة في أوروبا. وهم الذين أقاموا حي المعادي بالقاهرة.

وبناء على نصائح رفائيل سوارس للخديو عباس حلمي الثاني، تم إلغاء الدائرة السنية، التي كانت تشبه القطاع العام أيام حكم الرئيس عبد الناصر، وتحويلها إلى قطاع خاص. وتم بناء خزان أسوان وخزان قنا على النيل لتوليد الكهرباء ولزيادة الرقعة الزراعية.

الجدير بالذكر أن طلعت حرب ، الإقتصادي الكبير الذي أنشأ بنك مصر والعديد من الشركات الوطنية، كان من تلاميذ إخوان سوارس الذين غادروا مصر منذ مدة طويلة وأسدل على تاريخهم النسيان.

كان كل سكان القرية من الفلاحين يعملون في الزراعة. يسكنون في بيوت مبنية من الطمي ومعروشة بالحطب وجزوع النخل. هذه البيوت لم تتغير منذ أيام قدماء المصريين. سألت مرة جدي: كيف بنيت هذا البيت ياجدي؟ فأجاب ببساطة:

"دعوت جدك عرفه وجدك توفيق وجدك مصطفى وإثنين من الجيران. قمنا بعمل معجنة هنا وخلطناها بالتبن." وأشار بإصبعه أمام البيت. "ثم قمنا ببناء البيت في خلال عدة أيام. وعندما تزوج والدك، قمنا ببناء الدور الثاني". هذا المنزل عاش أكثر من ثمانين سنة. ليست هناك أزمة سكن، ولكن قلة حيلة وأزمة عقول.

كانت أمام البيت أرض ملك الحكومة خالية تزيد مساحتها على الفدان، تليها الغيطان تمتد حتى النهر. وكانت كل نوافذ البيت والباب الرئيسي تستقبل في الصيف رياح الشمال الباردة الآتية من أوروبا.

عندما تدخل البيت، تجد صالة وعلى يدك اليمين "المنضرة" أو غرفة الضيوف. بها أربع شبابيك. إثنان يطلان على الواجهة، وإثنان على حارة جانبية.

على الشمال تجد حمام يسميه الفلاحون "الكنيف" أو "بيت الراحة". به بابان، الأول للضيوف والثاني لأهل الدار. ثم تجد طرقة أمامية صغيرة تنتهي بصالة ثانية. على اليمين تجد غرفة تسمى مقعد بها فرن بلدي وطاقة صغيرة للتهوية ولإخراج الدخان.

الفرن لا يستخدم في الخبيز، ولكن للتدفئة في أيام الشتاء قارصة البرد، يسمي "الفرن الجواني". على الشمال، تجد غرفة أخرى بها فرن أيضا وطاقة صغير. في نهاية الصالة تجد الزريبة والفرن البلدى الرئيسي الذي يستخدم في الخبيز ويسمى "الفرن البراني". ثم سلم داخلي إلى الدور الثاني.

في الدور الثاني، تجد خمس غرف تسمي مقاعد. إثنان يفتحان نوافذهما على الواجهة البحرية. وإثنان على الحارة الجانبية. أما الغرفة الخامسة، فتفتح على الصالة الداخلية الغير معروشة والتي تسمى "الحضير" وتستخدم كمخزن.

في فصل الشتاء عندما يشتد البرد، توقد النار في أحد الأفران الموجودة في القاعات. وتفتح الطاقة والباب حتي يتسرب الدخان إلى الخارج. ثم تقفل الطاقة والباب لحفظ الحرارة.

بعد الغروب، تفرش القاعة بالحصر وتوضع فوقها الطبلية. وهي طاولة مستديرة قصيرة الأرجل يتجمع حولها أهل الدار وهم يجلسون القرفصاء لتناول الغذاء. كلمة "طبلية" مشتقة من الكلمة الإنجليزية (Table).

بعد العشاء، على ضوء مصباح كيروسين يرسل أشعته البرتقالية، يجتمع الكبار للحديث والحكي، وتناول الشاي والقهوة مع الفطائر والحلوى. يلعب الأطفال أو يقومون بأداء واجب المدرسة. ثم يأخذ كل منا كراسته فرحا إلى جدنا، وننتظر حتي يتم صلاة العشاء، لكي نريه إنجازاتنا الكبيرة في المدرسة.

لا تليفزيون ولا راديو ولا تليفون ولا إنترنت. أجمل أيام وأسعد أوقات مرت بنا ونحن أطفال. أجمل أيام حياتي، هي التي قضيتها في أحضان أسرتي. في بيت جدي وجدتي، وعندما كانت تحضر عمتي وأولادها لتناول العشاء وقضاء الليلة معنا.

من الألعاب التي كنا نلعبها ونحن جلوس، نمد أرجلنا. ثم يقوم أحدنا ببداية عد الأرجل مع قول:

"حجيلي بجيلي

كمن جلجيلي

ياباب السيد

يا منقوش

يا حابك العمة

علي الطربوش

يا خوفي منك يا سعدة

مركوب الخير بلا حدة

حنتش بنتش

ياللي تنتش"

ومن ينتهي إليه العد، يقوم بثني رجله. ثم نكرر هذا بالنسبة للأرجل الباقية. إلى أن ننتهي إلى رجل واحدة، يكون صاحبها هو الفائز.

واضح من كلمات اللعبة أن تاريخها يرجع إلى الحروب الصليبية. باب السيد ربما يعني مقام السيد البدوي. وكله حرب وكله صيد، وياخوفي منك ياسعدة. وسعدة هنا جاءت في السيرة الهلالية كالآتي:

"فإن أبا زيد ذهب مع أتباعه الى تونس ليبحث عن ارض خصبة، لما حلت المجاعة بنجد. فلما حلوا بتونس واتصلوا بالبربر، حدث ان وقعت "سعدة" بنت الزناتي خليفة، وهي في البربر، في حب "مري"، احد اصحاب ابي زيد. وقد وقعت حروب بني الهلالية والزناتية بسبب ذلك. انتهت بقتل الزناتي خليفة. ثم اختلف الهلاليون فيما بينهم على قسمة املاك الزناتي خليفة. وثارت الحرب بين أبي زيد ودياب، وانتهت بقتل دياب لأبي زيد."

لم أشعر بالأمان والدفئ والحياة بمعناها العميق إلا في هذه الأيام السعيدة، التي ذهبت ولن تعود. لقد اختفى أبطال هذا المشهد أو كادوا. وبتنا نلتحف بهمومنا ومتاعبنا، حتى أصبحنا لا نرى شيئا أمامنا.

أخذت الحداثة والمدنية منا الكثير. دفئ الأسرة وحبها ورعايتها. وأصبحنا جزرا منعزله عن بعضها. نوجد مع بعض في نفس المكان، ولكن عقولنا وأرواحنا وقلوبنا بعيدة. نتخاطب عن بعد، ونتصادق عن بعد، نحب ونكره عن بعد.

مع طلوع الفجر، تجد صوت أجراس الكنائس يمتزج فى توافق تام مع الآذان للصلاة من المساجد. دعوة لكل تائه. وشفاء لكل نفس معذبة. وتجد الحمام الأبيض يستحم في أشعة الشمس الذهبية. يلعب باليه الصباح في الأفق البعيد، بين الأبراج والمآذن والأشجار. سمفونية كونية غاية في الرقة والجمال.

يستيقظ الفلاح قبل طلوع الفجر. وكما يقول بيرم التونسي، يستيقظ لكي يوقظ الديكة. يقوم بصلاة الفجر، ثم يخرج دابته من الزريبة ويضع فوقها المحراث، ويتوكل على الله. يسحب البهيمة وراءه ذاهبا إلى الغيط. وتجد كل الفلاحين تذهب إلى الحقول في نفس الوقت.

الشوارع مزدحمة في الصباح. الأبخرة تخرج مع الزفير والكحة، ومن أفواه المواشي في أيام الشتاء القارص. الفلاحات والبنات الصغيرات تجري وراء الجاموس لجمع الروث في مقاطفهن. لخلطها بالتبن ونشرها كأقراص في الشمس، لإستخدامها كوقود للطبخ أو كعازل للحرارة على أسطح البيوت. ليس هناك فاقد لأي شئ.

يتكرر المشهد مع الغروب. حينما يعود الفلاحون من الحقول. وقفت في أحد الأيام ساعة الغروب بجوار الكبري، أعد الجاموس العائد من الحقل، فوصلت إلى 150 جاموسة، ثم مللت العد وتوقفت.

المبيدات الحشرية لم تكن معروفة. دودة القطن كانت تقاوم باليد. ال"دي دي تي" لم يعرف إلا في الخمسينات.

لذلك لم تكن الأمراض الخبيثة منتشرة بكثرة كما هو الحال الآن. لكن الفلاح كان يعاني من أمراض البلهارسيا والإسكارس والإنكستوما. وهي أمراض مستوطنة بسبب عدم وجود مياة شرب نقية.

هذه الأمراض يمكن علاجها والسيطرة عليها بسهولة. وكانت الأوبئة مثل الكوليرا تحصد الفلاحين حصدا. وعندما ينتشر الوباء، تقطع المواصلات. وتصبح كل قرية معزولة تماما عن جيرانها لأيام أو شهور. ولولا إكتفاؤها الذاتي وعدم حاجتها للمدينة، لمات سكانها جوعا.

كان الفلاح لا يذهب إلى المستشفى إلا مرة واحدة وأخيرة. محمولا على دابة ومسنودا من اليمين ومن الشمال بالأقارب. وعندما تسمع أن "أبو مصطفى خدوه الإسبتالية"، أي المستشفى، تتوقع أنك ستقوم بالعزاء قريبا.

الفلاحة لديها إكتفاء ذاتي كامل. تقوم بتربية الفراخ والبط والأوز والحمام والأرانب. وتقوم بعمل الجبن والزبدة من لبن الجاموسة. وتأخذ حصيلتها من البيض والجبن والزبدة، وما تستغني عنه من الطيور، إلى السوق لبيعه وشراء ما يلزم البيت من سكر وشاي وبن وصابون وتبغ ومعسل لزوجها.

الفلاحة لديها محصول العام من القمح والذرة، وتقوم بالخبيز في منزلها ولا تشتري العيش البلدي أو العيش الفينو. العيش البلدي كان يسمى العيش الخاص لندرته وكان يباع فقط يوم السوق هو والطعمية كغذاء مؤقت للبائعين. وكانت الفلاحات ترددن من باب التفكه:

"بتحبي مين يا بهانة – بحب الشيخ علي"

"بجيب لك إيه يا بهانة – طعمية وعيش طري"

عندما تقوم الفلاحة بخبز العيش، تجد كل جيرانها الفلاحات تقوم بالمساعدة. في العجين و"التقريص" و"الحمي" والخبيز. العجين يتم في أوعية فخارية كبيرة تسمى "اللقان". تقوم به الصبايا من أهل البيت والجيران. لأنه يحتاج لمجهود عضلي كبير. يخلط العجين مع الخميرة عن طريق اللت والعجن. الخميرة تؤخذ عادة من عجين خمران سابق من الجيران. عملية إحضار الخميرة مهمة جدا، وتسمى "نبيت على الخميرة".

يترك العجين ليلة كاملة قبل الخبيز. المرأة التي تقوم بالخبيز تسمي خبازة. وهي غالبا ما تكون محترفة. والتي تقوم بالتقريص، تجلس بجوار الخبازة لتناولها العجين الخامر، وتضعه على المطرحة رغيفا رغيفا. الثالثة تجلس بجوار فتحة الفرن السفلى لتزويد الفرن بما يحتاجه من حطب، أو لتهدئة النار، برش الماء عليها عندما تزيد عن اللازم. الحطب المستخدم هو حطب القطن ويسمى الحطب الهندي، وحطب الذرة ويسمى الحطب الشامي.

المطرحة مصنوعة غالبا من جريد النخل على شكل دائرة كبيرة نسبيا لها يد. تقوم الخبازة بفرد الرغيف على المطرحة وإدخاله إلى الفرن وسحبه عندما ينضج. هناك قطعة من القماش تبلل بالماء وتوضع أعلى عود حديد، تستخدم في تنظيف عرصة الفرن. هذه القطعة تسمى "مصلحة". ولا أدري أصل هذه التسمية. وربما تختلف من محافظة إلى أخرى.

بعد الخبيز، تعمل الفطائر والمشلتت وطواجن الفريك والرز المعمر وطواجن السمك. وفي النار المتخلفة من الخبيز، يدمس فيها الفول والعدس وتشوى فيها البطاطة. أثناء الخبيز، تقوم طفلة صغير بتوزيع العيش المخبوز على الجيران. ويقوم الجيران بفعل نفس الشئ عندما يقوموا هم أيضا بالخبيز.

كانت جدتي تقوم بالخبيز داخل بيتها. وكانت تقوم بتربية الحمام والفراخ والبط. وكان لديها زلع جبنة قديمة. عمر الواحدة منها يبلغ عدة سنوات. لون الجبن القديم أصفر دهبي وطعمه وملمسه مثل الزبد.

كانت تربي النحل على الحضير في الدور الثاني من بيتها. يأتيها النحال لقطف العسل والشمع مرة أو مرتين في العام. هكذا كانت المرأة المصرية منذ آلاف السنين. أعظم عقل إقتصادي عرفة التاريخ. عندما ننظر إلى الهرم الأكبر والحضارة المصرية، يجب أن ننظر أيضا إلى المرأة المصرية التي كانت وراء هذه الحضارة العظيمة.

هذه السيدة، علمت ولديها في وقت لم يكن أحد يرسل أولاده للمدرسة لحاجة الحقول إليهم. لم تكن تعرف القراءة أو الكتابة. لكن، كان لها ذكاء خارق وكبرياء شديد. وكنت أري والدي وعمي الذي كان يعمل مهندسا بمصلحة التليفونات، يلجأون إليها لطلب الرأي والمشورة في الملمات والخطوب. وكانت آرؤها دائما صائبة.

في يوم من الأيام، طلب والدي من أحد أقربائه شراء جوال أرز . عندما وصل جوال الأرز إلى منزلنا وعلمت جدتي بالأمر، بادرت والدي بالسؤال: "هل أعطيته ثم الأرز" فقال والدي، لا. عندما أقابله سوف أعطيه النقود. فقالت جدتي على الفور: "قم الآن إلى داره واعطه النقود". وكان والدي يشرب الشاي، فتركه وخرج مهرولها إلى دار قريبه ليعطيه ثمن جوال الأرز.

هذه السيدة العظيمة، كانت تعيش وحدها في منزلها في نهاية البلدة. بعد زواج أولادها وبناتها ووفاة جدي. عندما كنت في زيارة مصر منذ عدة سنوات، طلبت زيارة قبرها لقراءة الفاتحة. فوجدته وحيدا يقع هو أيضا في نهاية القبور، بجواره شجرة صبار، وأمامة الحقول الخضراء، تماما كما كان بيتها الذي تركته.

القرية كانت أثناء النهار، تكاد تخلو تماما من المارة. إلا من طفل صغير يلعب هنا أو إمرأة تقوم بدلق ماء الغسيل في الشارع. وقت العصاري، تشم رائحة الدخان والقدور ومحشي الكرنب من بعيد.

وفي الغروب، وأثاء عودة الفلاحين من الحقول، يأتي رجل يلبس الجلباب ويركب دراجة ويحمل على كتفه سلم خشبي، لكي يشعل مصابيح وكلوبات الشارع. وبعد العشاء، تخلو شوارع القرية من المارة. لا تسمع بها إلا أصوات خفر الليل وهي تنادي بعضها البعض.

عندما كنت أسير بجوار والدي أثناء الليل، أرى الظلال التي ترسلها هذه المصابيح على الأرض. تتناقص وتتزايد حسب الإقتراب أو الإبتعاد عن مصدر الضوء.

السماء كانت مرصعة بفصوص الماس والفضة. لا تلوث ولا شبورة ولا سحابة سوداء. القمر يتلألأ في كبد السماء. يسير معك أينما تذهب وعندما تقف يقف. كأنه حريص على صداقتك. أثناء خسوف القمر، كانت الفلاحات تضرب على الطبل وعلب الصفيح وتنشد:

يا قمرنا يا طبق نحاس يا منور على كل الناس

يا بنات الحور سيبوا القمر يدور

يا بنات الجنة سيبوا القمر يتهنى

هذه البلدة لم تغير عاداتها وتقاليدها منذ القدم. وكان يقال أنه لو بعث سيدنا نوح من جديد لعرفها من أول نظرة. لأنها لم تتغير قط. فلا تزال تأكل السمك في يوم الجمعة من كل أسبوع. عادة بقيت معها منذ أن كانت تدين مصر بالمسيحية قبل مجئ الإسلام.

كان في يوم الأحد "حد السعف" أو "حد الخوص"، يزين الفلاحون بيوتهم بجريد النخل، ويجدلون الخوص في شكل قلوب ويعملون منها الخواتم. وكانت تعمل من سنابل القمح وهي خضراء، عرائس وأمشاط. تعلق على حوائط البيوت والأبواب وتترك للعام التالي.

وكان في يوم الإثنين التالي "إثنين العصيدة"، تعمل العصيدة وتؤكل في يوم الثلاثاء للتخلص من دم الشتاء الفاسد. وفي يوم الأربعاء "أربع أيوب"، تدلك الأجسام بنبات الرعرع، ويرش ماء الحموم أمام البيت. أو يذهب الرجال للإغتسال في الصباح الباكر بماء النهر.

في يوم الخميس "خميس العهد" أو "خميس العدس"، كان يدمس العدس ويؤكل في نفس اليوم، وتخرج النساء للقرافة في الصباح الباكر لزيارة قبور موتاها، وتوزع الرحمة والفطائر التي تسمى "قبوري" نسبة للقبور.

كان يتجمع مقرئوا القرآن للقراء أمام القبور بأجر رمزي أو للحصول على بعض فطائر الرحمة. وكان من بينهم، الطلبة الفقراء والمحتاجين.

في يوم من هذه الأيام، جاء مقرئ متأخرا، ولم يجد إلا فلاحة عجوز فقيرة أمام أحد القبور. نظر المقرئ إلى السلة أمام الفلاحة، فلم يجد بها إلا فطيرة صغير باقية. تركها بسرعة وأخذ يبحث بين القبور على زوار آخرين، لكنه لم يجد غير هذه السيدة المسنة. عندما علم أن قراءته ومجهوده سوف يذهبان هباء، إقترب من السيدة قائلا: تجيبيها بسورة "قل هو الله أحد؟"

الجمعة، كانت تسمى الجمعة الحزينة. تؤكل فيها الفطائر مع البيض المسلوق. والسبت "سبت النور"، تأتي الفلاحات إلى جدتي لتكحيل عيون أطفالهن الصغار لحمايتها من أمراض العيون. ويقوم الفلاحون بزراعة شجر الجميز، وكان الإعتقاد، من يزرع شجرة في هذا اليوم، توهب له الحياة طوال العام.

يوم الأحد "عيد القيامة"، تلبس الملابس الجديدة ويؤكل محشي ورق العنب. ويتم إنبات بذور الترمس والحلبة والفول. وتعلق جدائل من أغصان رفيعة من أشجار الصفصاف والكافور، لتزيين الأبواب والشبابيك. ويعلق البصل الأخضر وسنابل القمح والنباتات العطرية. وتصبغ أيادي الصغار والنساء بالحناء.

ويعمل الأولاد دمية عل شكل خيال المآته. يأتون بجلباب ويضعون مكان اليدين عصاة طويلة ومكان الرأس شيئا مستديرا أو قرصا ناشفا من روث البهائم. ويدخل أحد الصبية بجسمه داخل الجلباب، رافعا الدمية بيديه إلى أعلا. ثم يقومون بالطواف في شوارع القرية بين العصر والمغرب.

وفي ليلة شم النسيم، يوم الأحد بالليل، يجمع الحطب والأخشاب في مفترق الطرق وأمام البيوت. ويشعل فيها النيران، ويقفز من فوقها الأطفال والشبان، قائلين: "يا براغيت الشتوية روحي لعمتي مكية" أو "يا براغيت حارتنا روحي لفاطمة جارتنا".

في يوم شم النسيم، يبدأ الإحتفال قبل شروق الشمس. يذهب الرجال في الفجر للإستحمام في مياة النهر. وتقوم النساء برش الماء داخل وأمام عتبة البيت. وكانت تعمل المأكولات الخفيفة للفسحة خارج المنزل، أهمها: البيض المسلوق الملون، والفسيخ والسردين المملح. والخس والبصل الأخضر والملانة.

الفسحة كانت بالذهاب للغيطان، أو على ضفاف الترع، أو بركوب المراكب الشراعية. والمرح واللعب والأكل الجماعي. ثم العودة ببعض الزهور والورود والنباتات العطرية.

كانت محطة القطار تسمي منتزه. حشائش خضراء وزهور وورود وشجر. وكان شريط السكة الحديد، تحيطه الأسوار من الجانبين لحماية الناس والدواب من الحوادث. وكانت توجد بكل محطة، خزان كبير لتزويد القاطرة بالماء، لأن القطارات كانت كلها تعمل بالبخار .

كانت البوابات عند المزلقانات تقفل قبل مرور القطار. الأجراس والأنوار المتقطعة تبدأ في العمل ولا تتوقف حتي يمر القطار. لم نسمع بحادثة واحدة بسبب الإهمال والإستهتار بأرواح الناس. كل حوادث القطارات كانت بسبب خطأ الأفراد والركوب أو النزول أو المرور من تحت عربات القطار وهو يسير.

كانت عربات القطار في منتهى النظافة. كل الشبابيك من زجاج وشيش والمراوح تعمل. والدرجة الأولى والثانية غاية في الروعة، صالونات جلدية ومساند. ومراوح في السقف. وتابلوهات فنية على الجدارن.

كان في بلدنا تاجر قطن متعود التعامل مع خواجة أجنبي. يقوم التاجر بشراء القطن من الفلاحين وتوريده بسعر البورصة للخواجة. وكانت عمليت البيع تتم مشافهة وبدون أوراق أو روتين حكومي. بالتليفون، سعر البورصة كام يا خواجة. بكذا. طيب أنا عندي كام قنطار جمعتهم. فيجيب الخواجة بالتليفون، وأنا اشتريت.

في يوم من الأيام بعد أن باع التاجر للخواجة محصوله من القطن بالتليفون، إرتفعت أسعار القطن في البورصة بشكل جنوني. أصيب الخواجة بخوف شديد وتملكه القلق من أن يرجع التاجر في كلامه، عندما يعلم بالسعر الجديد للقطن في البورصة. فرفع سماعة التليفون وطلب التاجر:

يا خبيبي أسعار القطن ارتفعت خالص، وأنا اشتريت منك بالسعر الرخيص. فماذا تنوي أن تفعله؟

وجاءت الإجابة: "عيب يا خواجا، أنا أعطيتك كلمتي".

لا إمضاءات ولا ورق ولا تسجيل للمكالمة ولا شهود. لكن التاجر، فضل أن يخسر ما يقرب من خمسة آلاف جنيه فرق أسعار، وهي ثروة طائلة بأسعار ذلك الوقت، على أن يخسر كلمته ويفقد إحترامه لنفسه. تذكرت هذه القصة وأنا أشاهد برنامج "العاشرة مساء" على قناة دريم الذي تقدمه الإعلامية النابهة "منى الشاذلي".

كان موضوع الحلقة هو عمليات النصب التي يقوم بها المحامون والمحضرون الآن للإستلاء على الشقق الخالية التي يتواجد أصحابها خارج البلاد. يقوم هؤلاء، بتزوير عقود بيع العقار الذي تتواجد فيه الشقق.

ثم يقومون ببيع هذه الشقق لآخرين. ونظرا لعدم وجود المالك، يقومون برفع قضايا والحصول على أحكام قضائية بحيازة الشقة أو الفيلا. والمتضرر عليه اللجوء للقضاء. وخذ أربع أو خمس سنوات قضايا. وخذ مثلهم حتى تستطيع أن تسترد حقك المسروق إن استطعت إلى ذلك سبيلا.

هكذا كان المصريون الذين قاموا بثورة 1919م وثورة 1952م. وهذا هو حالنا اليوم. حيث نغوص حتى الأذنين في مستنقع الفساد والإجرام. نتجرع المر ونشرب الذل والهوان وتتراكم ديوننا ولا نستطيع أن ننتج غذاءنا. فلا نثور ولا حتي نغضب. ونفرح كالأطفال بكسب ماتش كوره هنا أو هناك. لذلك، لا يجب أن نلوم إلا أنفسنا. ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وللحديث بقية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى