الاثنين ١٢ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم أحمد فضل شبلول

قنبلة في بنك

منذ الصباح وأنا أفكر في سحب مبلغ صغير من حسابي البنكي الضئيل لأكمل به مصروفات الشهر، وعقدت العزم على التوجه إلى البنك بعد الاستئذان من رئيسي في العمل.

تسكعت قليلا في محطة الرمل واشتريت بعض المجلات الثقافية والجرائد اليومية، أملا في تعويض ما أنفقته، من المبلغ الذي سأسحبه والذي من المفترض أن يسد نفقاتي الشخصية ونفقات المنزل ومصروفات الأولاد حتى آخر الشهر.

تأبطت المجلات والجرائد وسرت أتطلع إلى فاترينات المحلات التجارية بشارع سعد زغلول وهي تنهض من نومها تحت شمس سكندرية حانية وجو ربيعي بديع ذكرني بأغنية سعاد حسني "الدنيا ربيع والجو بديع"، فأخذت أرددها متفائلا ومنشرحا بيني وبين نفسي.

في منتصف شارع سعد زغلول انعطفت يسارا إلى شارع الكنيسة القبطية، ثم يمينا إلى شارع سيزوستريس، فيسارا إلى شارع صلاح سالم بعد تقاطع شارع طلعت حرب، وما أن دخلت صلاح سالم، إلا وأجد جموعا من المواطنين وعساكر شرطة وأمن مركزي وضباطا وعربات إسعاف ومطافئ واختبار مفرقعات.

احتجزني عسكري صعيدي يرتدي ملابس الشرطة السوداء، وطلب مني التوجه إلى الرصيف المقابل للبنك، والذي تقف عليه جموع من البشر في حالة من الدهشة والاستنكار والخوف والغضب، سألته عن السبب، فلم يرد علي.

ذهبت إلى الرصيف المقابل وسألت أحد الواقفين: ماذا يحدث؟

أجاب: يقولون إنه يوجد قنبلة داخل البنك.

ـ قنبلة؟؟

ـ نعم.

جاءنا صوت أحد الضباط يطلب منا الانصراف من المكان ليستطيعوا العمل: لو سمحتم يا جماعة احنا مش عارفين نشتغل؟

قالت امرأة مسنة: يا بني أنا واقفة من بدري ومحتاجة لقرشين من حسابي من البنك.

أجاب صوت الضابط: ارجعي يا حاجة بعد نصف ساعة، نكون خلصنا شغلنا.

أخرجت التليفون المحمول من جيبي لألتقط صورة للحدث ولهذا التجمع قبل الانصراف، فوجدت شخصا يقف بجانبي ينصحني قائلا: لا داعي للتصوير، الأمر لا يستاهل.

قلت له: أتظن أن لا أحد يصور من هؤلاء الواقفين؟

وأضفت: الخبر أكيد وصل المحطات الفضائية.

ثم قلت في نبرة صحفية وكأنني اقرأ مانشيت جريدة "قنبلة في البنك."

فأجاب قائلا: أنا مسئول عما أراه وأسمعه فقط.

عرفت على الفور أنه يتبع جهة أمنية، رغم ملابسه المدنية.

نظرت له في تأمل وقلت: فرصة سعيدة.

رد على الفور مع شيء من التأنيب: سعيدة في هذه الظروف؟

قلت في نفسي: من الحكمة الانصراف الآن من جانب هذا الرجل.

وضعت الموبايل في جيبي وأخذت ابتعد عنه تدريجيا.

واجهني ضابط برتبة عقيد، نظر إلي وقال ـ ولم أدر إن كان يوجه الكلام لي أم لأشخاص آخرين ـ: يا جماعة كلها نصف ساعة وتدخلون البنك.

أحببت استيضاح الموقف منه فسألته: أصحيح يوجد قنبلة بالبنك؟

نظر إليَّ وقال: من فضلك ارجع بعد نصف ساعة.

في شرفة البنك بالطابق الأول وقف بعض الموظفين يتضاحكون وينظرون إلينا ونحن في الشارع.

سمعت أحد المواطنين يقول: لو كانت في البنك قنبلة حقا، هل كنت تجد هؤلاء الناس يقفون هكذا في البلكونة يضحكون.؟

قلت: كلام معقول. وسألته: إذن ماذا هناك؟

رد عليَّ بقرف وحدّة: أنا عارف ما تسأل الضابط؟

عرفت أنه إنسان مأزوم، فقررت أن أتجاوزه، وأن أذهب إلى أقرب مقهى أقضي فيها نصف الساعة التي قرر الضباط دخول البنك بعدها.

في المقهى القريب تجلس الناس وكأنهم لا يعرفون شيئا عما يحدث على بعد خطوات منهم، رغم وجود عربات الإسعاف والمطافئ واختبار المفرقعات والضباط والعساكر والزحمة كلها.

كانت أم كلثوم تشدو بأغنية "فات الميعاد" (تفيد بأيه يا ندم ** وتعمل إيه يا عتاب) والناس جالسة كأنها في عالم آخر.

جاءتني صبية صغيرة تسألني: تشرب إيه يا أستاذ؟

طلبت شايا، وقبل أن تنصرف سألتها: ألا تعرفين شيئا عن القنبلة الموجودة في البنك القريب من هنا؟

ردت علي: قنبلة؟ فال الله ولافالك يا أستاذ؟

عرفت أنها لا تعرف شيئا عن الهيصة واللمة والضباط والعساكر والعربات الواقفة على مقربة من المقهى. ثم نادت على أمها بداخل المقهى قائلة: يا امه البيه بيقول إن هناك قنبلة في البنك؟

سمعت الأم تقول بصوت عال وكأنها تعرف خبايا الأمور: فيشنك. قنبلة فيشنك وحياتك يا بيه.

قمت من مقعدي واتجهت لها متسائلا: تعرفي منين إنها فيشنك؟

قالت لي: تلاقيه بلاغ كاذب، وديه مش أول مرة تحصل يا بيه؟

سألتها: طيب الضباط والعساكر والعربات والزحمة ومنع الدخول إلى البنك والخروج منه، ماذا عن كل هذا؟

قالت بتلقائية شديدة: كل ده على سبيل الاحتياط.

ثم أردفت قائلة: شعبنا يا بيه شعب طيب وما يعرفش اللعب بالقنابل، وتلاقيه بلاغ كيدي. آه والله تلاقيه بلاغ كيدي.

قلت لها: يعني كل ما يحدث على سبيل الاحتياط؟

قالت: أيوه يا بيه.

قلت: ربنا يطمنك.

أخيرا نطق أحد الجالسين الذي كان يحدق فيَّ أثناء كلامي مع الأم قائلا: هذه تجربة.

ـ تجربة؟

ـ نعم تجربة حية. إنهم يجربون لو حدث لا قدر الله وكان يوجد قنبلة حقيقية في البنك، كيف سيتصرفون؟

ثم أكمل كلامه: حضرتك رأيت الرجل الذي يرتدي بدلة زرقاء واقفا في البلكونة يضحك.

قلت له: كان هناك رجال وموظفون كثيرون واقفين يضحكون في البلكونة.

قال: الأستاذ محمد الذي يرتدي بدلة زرقاء واحد منهم، وهو صاحب فكرة التجربة.

قلت له: أفادك الله يا ريس.

قال: يعني الموضوع لو حقيقي كان الأستاذ محمد يضحك في البلكونة أمام الناس جميعا؟.

أجبت: لا طبعا .. كان يبكي دما.

أخذت أحدق في مانشيتات الجرائد التي أحملها بين يدي وكنت قد نسيت أمرها، وكان أغلبها عن الوضع في العراق وفلسطين، وتساءلت بيني وبين نفسي هل ما يجري الآن هنا في شارع صلاح سالم بالإسكندرية له صلة بما يجري في بغداد ونابلس ورام الله وغزة؟ واسترجعت عبارة معلمة المقهى (شعبنا يا بيه شعب طيب وما يعرفش اللعب بالقنابل، وتلاقيه بلاغ كيدي) وقلت يعني هو شعب العراق وشعب فلسطين غير طيب واحنا اللي طيبين أكثر منهم.

بعد أكثر من نصف ساعة عدت إلى مكان البنك ووجدت الوضع على ما هو عليه، والضابط يقول للواقفين الجدد عودوا بعد نصف ساعة. والسيدة المسنة لا تزال تخاطب نفسها بصوت عال: لازم آخذ المائة جنيه انهاردة من البنك, ديه فلوسي وليست فلوس البنك.

وجدت نفسي غير راغب في الانتظار ثانية، ولا في السحب من رصيدي النقدي الضئيل، ولا في شراء أي شيء آخر خلافا للجرائد والمجلات التي معي، ولا في العودة إلى العمل أو البيت، وعدت أتسكع من جديد في شارع سعد زغلول، متلهيا بالفرجة على فاترينات المحلات.

أحمد فضل شبلول ـ الإسكندرية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى