السبت ٢٧ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم عمار يحيى

كانت يقظة، ليس إلاّ... 

 
حمداً لله، لقد كانت يقظةً مزعجة، ولكنها شبيهةٌ جداً بالحلم، وكأن الأمرَ حدثَ حقاً. لابدّ وأن السببَ هو الإرهاقَ الكبيرَ الذي لَحِقَ بي في الحلم، فلقد استنزفتُ كلَّ قوايَ هذا اليوم، وفوقَ تعبي كان الإزعاجُ موجوداً أيضاً. أنا أكرههُ من دون أن يكذب، فكيف بهِ وهو يكذب؟. ذلك الأحمقُ ذو الأنفِ الطويل، لم يتوقّفْ بالأمسِ كعادتهِ عن إطلاقِ الأكاذيبِ اللعينة، فمرّةً يقولُ بأنهُ رأى ذئباً يحاولُ دخولَ الحديقةِ المجاورةِ لمقهانا، لكن الذئبَ حين رآهُ يركضُ إليهِ وهو يحملُ هراوةً التقطها من الرصيفِ المجاور، هربَ مسرعاً باتجاهِ الشّارعِ فصدمتهُ سيارةٌ ومات من فوره، كنتُ قد صدّقتُ ذلك في بدايةِ الأمر، فشكلهُ البشعُ يخيفُ أسداً وليس ذئباً.

لا اعرفُ ما الذي دفعني لكي أسألَ عن القصة، فاستغلّيتُ فرصةَ عدمَ وجودِ زبائنَ في المقهى وذهبتُ إلى المكان الذي حدّدهُ بروايته، سألتُ أحدَ الأصدقاء هناك، فأجابني بأن القصةَ صحيحة، غيرَ أنهُ لم يكن ذئباً بل كانت قطّةً صغيرة، وكانت لا تزالُ مرميةً في الشارعِ وأراني إيّاها، مع ذلك فهذه كذبةٌ صغيرة، أو بالأحرى لا تُعتبرُ كذبةً أصلاً بالنسبةِ لأكاذيبهِ الأخرى.

حسناً، أنا أرى بأنه لا داعيَ لذكرِ كذباتهِ المقيتة، فالمهمُّ هو أنني أكرهُ هذا الرجلَ وأمثاله. لا أعرفُ لمَ يكذبون؟ فلا يوجدُ أي مبرِّرٍ لكذبهم، لابدّ وأنهم يختارون أناساً معيّنينَ لكي يكذبوا عليهم، وذلك إمّا لأنهم يرونَ فيهم الغباءَ الكافي أو لأنهم يعتقدونهم سُذَّجاً جداً ليصدِّقوا الحكاياتَ المبتدعةَ من عقولهم المريضة. حقّاً إنهُ لأمرٌ محيِّرٌ وكريهٌ في نفس الوقت!.هو لا يهمُّني الآن، فقد تخلَّصتُ منهُ بشكلٍ مؤقّت، ولا أريدُ أن أتذكّرهُ حتى الغدِ على الأقل، مع إنني رُغماً عنّي رأيتهُ في اليقظة.

رأيتُ في اليقظةِ وكأن ثلاثةَ رجالٍ غرباءٍ بدئوا بلحاقي عندما خرجتُ من المنزل، وقبلَ أن أصِلَ الشارعَ الرئيسيَّ ناداني أحدُهُم باسمي، التفتُّ إليهم وحين رأيتُ وجوههم، دفعني شيءٌ ما في داخلي إلى الهرب، ربما كانت هيئتهم الغريبةُ هي الحافزَ الأوّل، فقد كانوا يرتدون ملابسَ سوداءَ مخيفة، ولم الحظْ منهم شيئاً غيرَ ذلك، ركضتُ إلى المقهى الذي أعملُ فيه، كان خالياً من الزبائن عدا ذو الأنفِ الطويل، وعندما رآني أركضُ نحوه «أو كما تخيّلَ هو» والغرباءُ يركضونَ خلفي، وقبلَ أن أصِلَه، ركضَ مُبتعداً عن المقهى، ممّا جعلني أكرههُ أكثرَ من ذي قبل، مع أنني الآن أعلمُ أنها لم تكن سوى يقظةٍ سخيفة.

دخلتُ المقهى وأغلقتُ البابَ خلفي سريعاً من الداخل، كنتُ مُرتبكاً جداً، بحثتُ عن شيءٍ أُدافِعُ به عن نفسي، وجلتُ سريعاً بنظري في أنحاءِ المقهى، ولكن دون أن أجدَ شيئاً غيرَ الكراسي والأقداح وغير ذلك من أدواتِ الشاي..

فتحتُ الدُّرجَ الخاص بأبو صالح (صاحب المقهى) فوجدتُ فيهِ مسدّساً، مع أنهُ في الحلم لا يملكُ أيَّ مسدّسٍ طبعاً، فهو مسالمٌ أكثرَ من أن يحتفظَ بسكّينٍ وليس بمسدّس، ولكن كما تعلمون، تحدثُ الأشياءُ في اليقظةِ متشابكةً وغيرَ طبيعية.

أخرجتُ يدي من الشبّاكِ وأطلقتُ عدّةَ رصاصاتٍ في الهواء، وأخرجتُ رأسيَ فرأيتهم يلوذون بالفرار.

فرحتُ كثيراً حين رأيتهم يهربونَ وتنفّسْتُ الصّعداء، جلستُ على أرضيةِ المقهى قليلاً حتى أُهدّئَ من روعي.

قمتُ لأُعيدَ المسدّسَ إلى مكانه، فتحتُ الدُّرجَ وقبلَ أن أُعيدَ المسدَس، وقعتْ عينايَ على حبّاتٍ صغيرةِ الحجمِ بيضاء الّلون، وفيها خطّانِ يقطّعانها إلى أربعةِ أجزاء، متناثرةً في أنحاءِ الدرجْ، وهنا عادَ ذو الأنفِ الطويلةِ وفتحَ البابَ وهو يقول بصوت عالٍ:

 من كان هؤلاء؟ وماذا يريدون منك؟ ثم ماذا تفعل عندك؟ أليس هذا الدُرجَ خاصٌ بأبو صالح؟

اشتعلتِ النّيرانُ في داخلي، وكأن الجبانَ لم يكن موجوداً أصلاً وهرب كجرذٍ صغير، تمالكتُ نفسي وقلتُ لهُ ببرود:

 اذهبْ من هنا ولا تُريني وجهكَ ثانيةً وإلاّ أخبرتُ الجميعَ بأنك هربتَ كالجرذان وتركتني وحدي، هيا أخرجْ.

فاستشاطَ غضباً وتوعّدني بأن يشتكيني لأبو صالح، خرجَ وهو يتفوّهُ بكلماتٍ لم أفهم منها شيئاً. كم تمنيتُ في تلك اللحظةِ أن تكون كلُّ هذه الأحداث، يقظةً عابرةً ليس إلاّ.

على كلِّ حال، أعدتُ المسدّسَ إلى مكانهِ واعتراني فضولٌ شديدٌ لكي أجرِّبَ إحدى هذهِ الحبّات، لأن شكلها -مع خبرتي العملية في مجالها- كان غريباً، فوضعتُ إحداها في فمي. فقدتُ وعيي تدريجيّاً، ولم أنتبهْ من تلك اليقظةِ إلاّ على صوتِ أبو صالح وهو يصرخ:

 هيا انهض، فهذا ليس وقتاً ملائماً لكي تستيقظ، الزّبائنُ يطلبون شاياً، قُمْ وأعدّهُ بسرعة......


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى