السبت ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٥
المفكر فهمي جدعان لـ"المستقبل":

كل الحركات الإيديولوجية الثورية وغير الثورية حركات استبدادية

عمّان ـ موسى برهومة

يعد الدكتور فهمي جدعان واحداً من أبرز المفكرين العرب الذين اختاروا أن يشتغلوا على مشروعهم التنويري بعيداً عن دائرة الضوء، فحفروا عميقاً في تربة الفكر العربي المعاصر، والفلسفة الإسلامية، لينتقل، من بعد، في مؤلفاته الأخيرة لصياغة منظومة مفاهيمية لاستشراف ملامح المستقبل العربي.

ولد جدعان في العام 1940 في بلدة عين غزال بمدينة (حيفا) في فلسطين، وحصل على دكتوراة الدولة في الآداب من جامعة السوربون بباريس العام 1968، كما عمل أستاذاً للفلسفة والفكر العربي والإسلامي في عدد من الجامعات الأردنية، وعمل استاذاً زائراً للحضارة العربية والإسلامية في جامعة السوربون الجديدة (باريس الثالثة)، وبالكوليج دي فرانس (باريس)، كما عمل نائباً لرئيس جامعة البتراء الأهلية الأردنية، وهو يعمل حالياً أستاذاً للفلسفة في جامعة الكويت ومشرفاً على طلبة الدراسات العليا.

شغل عضوية مجلس إدارة معهد العالم العربي بباريس في مرحلة التأسيس (1980 ـ 1984)، كما منح وسام سعف النخيل عن جهوده الأكاديمية (فرنسا 1986) ووسام القدس للثقافة والآداب والفنون (فلسطين 1991) وجائزة الدولة التقديرية للعلوم الاجتماعية (الأردن 1993).
له عدد وفير من المؤلفات والبحوث أهمها:

ـ أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث 1979.
ـ نظرية التراث ودراسات عربية وإسلامية أخرى 1979.
ـ المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام 1989.
ـ الطريق الى المستقبل: "أفكار قوى" للأزمنة العربية المنظورة 1996.
ـ الماضي في الحاضر: دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية 1997.
ـ رياح العصر: قضايا مركزية وحوارات كاشفة 2002.
وله باللغة الفرنسية:
ـ التأثير الرواقي في الفكر الإسلامي (باريس 1968).
ـ مجموعة من البحوث حول:
الوحي والإلهام في الإسلام، فلسفة السجستاني، الشروط الاجتماعية الثقافية للفلسفة الإسلامية، منزلة الملائكة في الإلهيات الكونية الإسلامية، الأمة والمجتمع في الفكر الإسلامي (باريس 1967 ـ 1992) بالإضافة الى مراجعات نقدية في المجلة النقدية للحوليات الإسلامية (باريس ـ القاهرة).

"المستقبل" التقت المفكر جدعان في عمان حيث أمضى إجازة بين أهله وأسرته وأصدقائه، وحاورناه في مستقبل الحال العربي، والحاكمية والاستبداد، ودور النخب الثقافية، ومكانة العقل العربي في التفكير الكوني، والكيفيات المقترحة للمؤالفة بين العقل العربي والفعل العربي، وكذلك عنف الحركات (الإسلامية).

علينا أن نلاحظ أن الطرائق القديمة في التعبير وفي الفعل لم تعد فاعلة ومؤثرة

تشغل مسألة الحرية دعاة الإصلاح في العالم العربي، وتبدو في أعين الكثيرين في الداخل وفي الخارج الطريق الأقصى للتقدم والخلاص. فهل هي كذلك فعلا؟

الحرية شرط أساسي لتفتح المجتمع والفرد، وهي فاعل حيوي جوهري في حركة التقدم التاريخية. وبما هي نقيض للاستبداد تشخص الحرية كقوة دافعة وبانية لمؤسسات إنسانية تحقق أكبر قدر من الرضى والنماء والإنتاج والفاعلية للفرد والمجتمع والدولة.

ولا أحد يجهل أن الحرية هي عصب المنظومة الليبرالية. بيْد أن الليبرالية ليبراليات، ومعنى ذلك أن الحرية أيضاً حريات. وليس المقصود الإحالة على ما يسمى بالحريات الأساسية والحريات المدنية وغيرها فحسب، وإنما المقصود، قبل أي شيء آخر، أن ثمة تفاوتاً في ماهية الحرية نفسها وفي حدودها وأحكامها بين الأشكال المختلفة لليبرالية. وفي الأدبيات الثقافية والفكرية العربية تجور الحريات الأساسية على غيرها من الحريات، ويغفل الساعون لإقرار هذه الحريات عن دراسة واستقصاء الشروط الموضوعية لإنفاذ الحرية ويذهبون، موافقة لمفهوم عام ضبابي لليبرالية، الى تسييد الحرية كمثال أقصى وكقيمة مكتفية بذاتها، وكغاية مقصودة لذاتها بإطلاق، غير آبهين بالروابط العضوية التي تربط الحرية ـ وأية حرية ! ـ بالمعطيات الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية للمجتمع.

ومنذ أن جعل المحافظون الجدد في الإدارة الأميركية الحالية الحرية هدفا أقصى قائما بذاته بات الترويج للمفهوم منبتّ الصلة عن هذه المعطيات، وبدا كأن الفكر العربي الليبرالي يتجه الى اختيار النموذج الليبرالي الجديد ( أي النيوليبرالية) الذي هو تجسيد للنظام الاقتصادي العولمي وللحضارة الأميركية في صورتها المتوحشة، صورة اقتصاد السوق المنفلت، وما يسمى بالديمقراطية الليبرالية، التي تعني اليوم الصيغة الراديكالية لليبرالية، وهي صيغة تقلص دور الدولة في الحياة العامة للفرد والمجتمع، وتتنكر لقيم العدالة.

والحقيقة أن العالم العربي لا يحتاج الى الحرية فقط، وإنما يحتاج أيضاً ـ للخلاص والخروج من المأزق ـ الى مركب شامل يربط قيمتي الحرية والديمقراطية بقيمتين أخريين أساسيتين هما العدالة والتنمية. إنني أفكر في هذه المسألة تفكيراً معمّقاً، وأرجو أن أخلص الى منظومة فكرية في هذا الصدد في وقت قريب.

وكل ما أستطيع أن أقوله هنا هو أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية في العالم العربي اليوم لا يمكن أن تجد حلولها النهائية في مفهوم للحرية منبتّ الصلة عن مفاهيم العدالة والتنمية، وأن الصيغة الليبرالية المسرفة أو الجديدة لا تصلح مدخلا لقيمة الحرية في العالم العربي، وأن الصيغة التي يتعين التوجه إليها تكمن في شكل من أشكال ما يمكن أن نسميه بالليبرالية الاجتماعية.

الحاكم

ولكن في غمرة المطالبة بالحرية والديمقراطية تتردد بين الحين والآخر مقولات مستلة من التراث العربي والإسلامي، من بينها مقولة الحاكم المستبد العادل، ويجري تسويق هذا الشعار كحل لأزمة الاستبداد والطغيان في غالبية أنظمة الحكم العربية، فكيف تقرأ هذا الشعار بطريقة صحيحة، وما هي الآمال التي تتوخاها لإحلال انفراج في علاقة الحاكم العربي بجموع المحكومين؟

ـ مقولة الحاكم المستبد العادل مقولة فاسدة، وهي مقولة تصلح لمجتمع قبلي بدوي، لكنها لا تصلح لمجتمع مديني حديث. نحن الآن جزء من عالم تحكمه ثلة من القيم الإنسانية التي تخص الفرد بمكانة إنسانية كريمة. فهو عاقل وراشد وقادر على توجيه حياته، وهو منفتح على الدنيا وعلى المعرفة وعلى الشعوب والثقافات. وبكلمة واحدة هو شخص جدير بأن يكون حاكماً لنفسه. ومعنى ذلك أن إلغاء دوره وإسناد الأمر الى حاكم مستبد عادل يرتدان الى الزعم أن هذا الإنسان لم يرقَ بعدُ الى مرتبة الاستقلال الذاتي والنضج المعرفي، وأننا نريد أن نعزّز هذه "الاستقالة" من الفعل والتوجيه بأن ننصّب له "راعياً" يجري كل الأمور بدلا عنه.

ثم إن المستبد لا يمكن أن يكون عادلاً، فهذا وهم كبير، ومقولة المستبد العادل جاءت من بعض الحالات الفذة القليلة التي انحدرت إلينا من التاريخ العربي في إهاب مثالي نموذجي مجرد تمت فيه إزاحة جميع العناصر السلبية والاحتفاظ بصورة خارقة للحاكم. وأياً ما كان واقع حال هذه الحالات، فإننا لا نستطيع اليوم أن نستأنفها وندعو إليها. نحن في عصر التداول والتفاوض والإقناع والتأثير والضغط. وهذه هي الأساليب التي يتعين اختيارها في علاقة المجتمع وأفراده مع الدولة، على أن الطريق التفاوضية والإقناعية والضاغطة تظل هي الأقدر على الوصول الى نتائج عملية ناجعة في هذه العلاقة.

ولكن في ظل انسداد الطرق التفاوضية بين الحاكم والمحكوم لا يعلو غير صوت القمع، فمن أين استجلب الحاكم العربي كل هذا الاستبداد. هل صحيح أن التاريخ العربي والإسلامي يشكل، كما يقال، معينا لا ينضب لثقافة الاستبداد والطغيان؟

ـ ليس سراً أن الحاكم العربي في الدولة العربية الحديثة ليس خلاصة أو تجسيداً لنظام سياسي تحتل فيه الإرادة التمثيلية للأمة الأساس المادي والفعلي للسلطة. لا شك في أن بعض "حالات" الحكم في البلدان العربية تستمد روحها وغائيتها من التجربة التاريخية العربية الحافلة بكثير من الاستبداد والطغيان الذي يرى فيها هذا الحاكم أو ذاك نموذجاً يحتذى، خصوصاً إذا تمّ ربط طبيعة هذا الحكم ببعض الحكام الذين يمثلون "سلطة تاريخية" في أعين الأجيال التالية. ومن المؤكد أن مؤلفي كتب (الأحكام السلطانية) قد أدوا دوراً بارزاً في تشكيل مفهوم للسلطة تحتل فيه (صورة) الخليفة أو الإمام مكانة متميزة، إذ تعزى إليه سلطة الحكم والمسؤولية عن كل شيء تقريبا، بحيث تقتصر قيمة (أهل العقد والحل) في هذا المنظور على مفهوم الشورى غير الملزمة، فتظل للحاكم السلطة القصوى التي هي المعادل المادي للاستبداد.

لكن الحاكم العربي المستبد في الدولة العربية الحديثة يمكن أن يكون أيضاً إفرازاً قبلياً أو بدوياً تقليدياً. فلا بد أن يكون استبدادياً، وقد يكون آتياً من "التشكيل العسكري" وهو أيضاً استبدادي. ويمكن كذلك أن يكون مزروعاً من سلطة استعمارية أجنبية لأداء وظيفة محددة في دولة "تابعة"..
في جميع هذه الأحوال، وغيرها، لا مكان لإرادة الشعب أو الأمة، ولا للاختيار الحر. هذا ظرف تاريخي علينا أن ندرك حدوده وأبعاده، وهو بكل تأكيد ظرف يجب تجاوزه، ونستطيع تجاوزه.

الخلاص

أنى لنا تجاوز هذا الظرف ما دام الاستبداد لم يعد مقتصراً على الحكام، فثمة جماعات وأفراد يملأ العنف أقوالها وممارساتها، هل صار القتل والتنكيل والترويع جزءا من (فولكلور) أمة مهزومة ترى في الموت شكلا من أشكال الخلاص أو إثبات الوجود؟

ـ كل الحركات الإيديولوجية الثورية ـ وغير الثورية أيضاً ـ هي حركات استبدادية، والليبرالية الديمقراطية هي أيضاً استبدادية، فهي تستأثر بالحقيقة وبطريق الخلاص الذي تتمثله غاية وهدفاً. والعنف ليس أمراً عارضاً أو جديداً في التاريخ، إنه جزء من التاريخ مرتبط بالعقائد والمصالح والمنافع. والحرب هي التجسيد الأظهر للعنف، والحرب والعنف قرينان للموت والدمار، وإذا زعمتَ أن الموت شكل من أشكال الوجود، فزعمك صحيح، وذلك حين نقرن الموت بالظفر والنصر.. بل وحتى بالهزيمة، فالمؤمن الذي يموت "مهزوماً" أمام خصمه يحقق وجوداً كاملاً أمام موضوع وغاية إيمانه. المشكلة ليست هنا.. المشكلة تكمن في تبين الأسباب التي تبعث على العنف أو على الحرب، وفي النظر في طرائق محاصرة هذه الأسباب وتجاوزها وفقا لمنظومة في العدالة، في الغالب الأعم. وفيما يتعلق بأحوال العنف التي عرفتها بعض البلدان العربية في النصف الثاني من القرن العشرين ومطالع القرن الجديد، يتعين علينا لا التنديد بالعنف ومحاصرته فقط ـ إذ هذا أمر لا مفر منه ـ ولكن أيضاً البحث عن الأسباب التي تدعو الى العنف واستئصال هذه الأسباب. ليس علينا أن نختار الطريقة "الأميركية" البرجماتية في علاج هذه الآفة، بأن نكتفي بإعلان "الحرب على العنف" وما يسمى بالإرهاب، وإنما علينا أيضاً أن نتفحص عوامله ودواعيه، وأن نتوخى العدل في قتاله، بحيث لا نقاتله في أرض وندعه يستفحل ويجور في أرض أخرى.

في غمرة ذلك كله أين النخب الثقافية العربية، أم أنها استقالت من دورها وآثرت الصمت على كل ما يجري من تدمير للذات الجماعية ومصادرة أبسط حقوقها وامتيازاتها. هل يعيش العرب عصر الظلام في شتى وجوهه؟
ـ في تعميم دعوى "استقالة المثقفين" إسراف وبعد عن الإنصاف. لا شك في أن عدداً غير قليل منهم قد انسحب وآثر الصمت والسكينة، لكن كثيرين منهم ظلوا أوفياء لمبادئهم. ومع ذلك فإن علينا أن نلاحظ أن الطرائق القديمة في التعبير وفي الفعل لم تعد فاعلة ومؤثرة. فبين سبيل الاحتجاج والعصيان والثورة، وبين سبيل الإقناع والنقد والتداول والضغط السلمي فروق بيّنة.

ولأسباب عديدة لم يعد من اليسير الجنوح الى السبيل الأولى، مثلما أنه ليس من اليسير أن يتحول المناضل القديم الى الطريق الحديث، فترتب على ذلك اختيار الصمت والاستنكار المرير. ومن وجه آخر علينا أن نتخلى عن الاعتقاد بأن القضية هي قضية المثقفين فحسب، إذ إن قوى جديدة صاعدة أصبحت معنية بالمسألة الاجتماعية والسياسية هي قوى (المجتمع المدني) التي يتعاظم دورها وأهميتها، وهي التي يتوقع أن تقود مبادرات الإصلاح والتغيير في العالم العربي في المستقبل. وهذا بالطبع لا يعني انتهاء دور المثقف والمفكر. أما أن يكون العرب قد دخلوا في "عصر الظلام" فأمر يستلزم النظر والتأمل. ولعل الأصح أن يقال إنهم دخلوا في أجواء العاصفة والخطر والمجهول، وأن التفكير في مستقبل العالم العربي ينبغي أن يكون جدياً وحقيقياً ومسؤولاً، ولا يجوز النظر الى هذه المسألة بخفة واستهتار.

الخلل

قلتَ غير مرة بأن الخلل والعطب ليسا في العقل العربي.. وإنما في الفعل العربي، ولكن هل الفعل إلا صدى العقل ودينامياته الفاعلة؟
ـ نعم قلت ذلك أكثر من مرة، وتكلمت أيضا على مفارقة الفعل للعقل، لأن الفعل ليس دوماً صدى للعقل ودينامياته الفاعلة، إذ يمكن أن يكون هناك طلاق بين الأمرين، وذلك حين يتنكر الفرد للعقل ويجري خلف قواه الغريزية، أو الانفعالية أو مطالبه النفعية وغاياته الذرائعية.

أنا أتشبث بهذه المزاعم جميعاً، بيْد أنني، والحق يقال، ألاحظ الآن أن انتشار (العقل الليبرالي) والثقافة الليبرالية السوقية ـ أعني الثقافة المرتبطة باقتصاد السوق الحر وبالعولمة الثقافية ـ قد بدءا يقرّبان بين العقل وبين الفعل، بمعنى أن الإيمان بآليات الفكر الليبرالي السوقي بات يولّد أفعالا مساوقة لهذه المنظومة في شتى مناحي الحياة الفكرية والأدبية والفنية والعملية. ونتيجة ذلك أننا أصبحنا نشهد مزيداً من الفساد الأخلاقي والعملي في حيانتا الشخصية والعامة. إن قوة الليبرالية ـ وخطرها في الآن نفسه ـ كامنان في قدرتها على التأثير المادي، وذلك بسبب تجذرها في عدد من المطالب الفردانية المشخصة والمادية، وذلك واضح في التجسدات الاقتصادية والسياسية والفنية والأخلاقية.

الى أي مدى تعتقد أن القراء العرب ينفرون من الأعمال الجدية، ولا يتحملونها، ويفضلون عليها ما هو عادي ومألوف، وهل يعني هذا أننا نعيش عصر الوجبات السريعة في الثقافة والمعرفة والفن؟

ـ لست أشك في أن القارئ العربي، على وجه العموم، قد ألف الكتابات اليسيرة التناول واعتاد النصوص التي لا تحوج الى كثير من التأمل والفحص والتدقيق والمراجعة، وهو يفضل الكتّاب الذين يقدمون له أفكاراً بسيطة جاهزة واضحة، وهذا في حقيقة الأمر حق له، إذ لا يجوز أن نثقل عليه بنصوص ملغزة لا تسمح له أدواته المعرفية بالولوج إليها وإدراك كنهها، لكن المشكلات والقضايا الكبرى ـ أياً كانت طبيعتها فلسفية أم اقتصادية أم اجتماعية أم أخلاقية ـ تشتمل على وجوه تقنية دقيقة، وهذا يتطلب تحليلات معمقة لا يتيسر دوماً تقديمها بلغة وأسلوب "عاديين".
ان ما نسميه بالثقافة أو المعرفة "العالمة" يظل الأساس الصلب أو القاعدة الثابتة لأي تنظيم معرفي أو عملي. بالطبع ليس مطلوباً من القراء أن يتوجهوا الى "الثقافة العالمة" لكن أي قول أو تداول أو نقاش في القضايا المركزية يشترط مثل هذه المعرفة أو الثقافة. وهذا يعني أن على القارئ العادي إن أراد أن يسهم إسهاماً حقيقياً في "التداول الثقافي العام" أن يطور ملكاته وأدواته وخبراته، بحيث يكون قادراً على تمثّل المفاهيم والآليات التي تستند إليها الثقافة العالمة، كما أن على الكاتب نفسه أن يتوخى العمق فيما يكتب، وأن لا يخلّ بمبدأ الوضوح في الوقت نفسه.

أما أننا نعيش في عصر الوجبات السريعة في الثقافة والمعرفة والفن، فلا أعتقد أن ذلك تشخيص دقيق. لا شك في أن الظاهرة ماثلة في أعمال الكثيرين في حقول الثقافة والفن والأدب، لكن المشهد العام حافل بما يضاد هذه الظاهرة، ويشخص مثال جليا للفكر الرصين والأدب الرفيع والفن الذي يتحرّج أن يعبر عن نفسه في أقنية مثل أقنية "مزيكا" و"دريم" و"روتانا"...
التنويرية
هل ما تزال تراهن على أن العالم العربي يحتاج بالدرجة الأولى الى إشاعة عدد من القيم التنويرية والمدنية الحديثة التي تحمل بالضرورة تغييرا في عدد كبير من البنى التاريخية الفجة، وتجذير هذه القيم وتجسيدها. وما هي الروافع الكفيلة بعدم صيرورة هذا الأمر حلماً طوباوياً؟

ـ بكل تأكيد، وهذه قضية لا جدال فيها على الإطلاق. إن قيم الحرية والعدالة والديمقراطية ـ بمنظور اجتماعي إنساني ـ وجملة القيم المدنية الأساسية، هي قيم لا يمكن التنازل عنها. والفكر العربي الحديث مسكون بهذه القيم قبل الدعاوى الخارجية الجديدة بزمن بعيد.

وإشاعة هذه القيم وتجذيرها هما الكفيلان بتحقيق تغيير أساسي وتقدم ملموس في الحياة العربية الشاملة. ولماذا تكون هذه القيم طوباوية؟ إن مزيداً من النقد والتنوير والضغط والنقاش والتداول يسمح بفتح الأبواب أمام هذه القيم وعيشها شيئاً فشيئاً، لكن علينا أولاً أن (نؤمن) بأن هذه القيم هي على وجه التحديد ما نحتاج إليه للخروج من "الورطة التاريخية" التي نحن واقعون في براثنها، ثم إن علينا أن (نريد) هذه القيم ونطلبها، لأنها تأذن بقرب الخلاص، وأخيراً أن (نعمل) جميعاً: مفكرين ومثقفين ومبدعين ونشطين اجتماعيين ومؤسسات مدنية واجتماعية من أجل (إقناع) السلطات السياسية بضرورة الأخذ بهذه القيم وتجذيرها وإشاعتها. أعتقد أن هذا ليس حلماً "طوباوياً".. وإذا كان كذلك فعلا، فإن الواقع كارثيّ!
في كتبك الأخيرة بدا أنك تستشعر خطراً داهماً يحدق بالمجتمع العربي، كما يبدو كما لو أنك تدقّ بعنف جدران الخزان، ولكن هل ثمة من مصغ أو مجيب؟

ـ هذا صحيح. واليوم لست أنا وحدي الذي يستشعر الخطر، وإنما أصبح ذلك هاجس الجميع. أنظر ما الذي يحدث في فلسطين وفي العراق وفي كل مكان من المَواطن العربية. الدولة العربية "التقليدية" نفسها تستشعر هي أيضا وجوه الخطر، إذ لم تعد تبعيتها التاريخية لقوى الهيمنة الخارجية تحميها من "أصدقائها" التقليديين الذين لا يقدمون على مصالحهم ومنافعهم الخاصة أية مصلحة لأي أحد، وقد آن الأوان لهذه الدولة أن تعلم أن خلاصها لن يكون إلا بأيدي أبنائها، ولن يحميها من غدر القوى الخارجية إلا شعوبها وحدها، وليس عليها إلا أن تفتح أبواب الحقوق الأساسية للمواطنين لكي يكونوا حماتها الحقيقيين، ولكي تسترد كرامتها وعزّتها، وتكتسب احترام العالم بعد أن فقدت هذا الاحترام كلية، وأصبحت هي وشعوبها محط احتقار وازدراء وامتهان في كل مكان في العالم.

اليأس

في أزمنة اليأس نرى أن المثقف العربي أو السياسي العربي يطالب بالتغيير ويهلل له حتى لو كان جاء التغيير على ظهر دبابة أميركية، وثمة من يقول إن إسقاط نظام صدام حسين يعد أعظم إنجاز قدمته أميركا للبشرية. ما تعليقك؟

ـ أزمنة اليأس أزمنة لا يقاس عليها. والأصل أن تكون أزمنة "شاذة" لكن امتدادها الزمني التاريخي يزوّد أحكامها بمنطق صحيح ظاهريا، لكنه فاسد جوهرياً. لا شك أن أحوال الاستبداد والظلم والفساد والتخلف والقهر في الأقطار العربية قد طال أمدها، وبات التخلف يحسب بالقرون. ولأسباب ليس هنا مكان التوسع في تحليلها لم تقابل هذه الأحوال بما قوبلت به نظائرها في الغرب فانتهت الأمور الى ما انتهت إليه وتجذر اليأس في النفوس. بالطبع أنا لست أبداً ممن يهللون للتغيير الآتي على ظهر دبابة أميركية، لأن الدبابة الأميركية لا تأتي من أجل خلاصي أو من أجل خيرنا الخاص أو العام، وإنما من أجل غايات مختلفة تماماً لا يحمل أي منها أي خير لنا على الإطلاق.

أما أن يمثل إسقاط نظام صدام حسين أعظم إنجاز قدمته أميركا للبشرية، فقول لا يخلو من المبالغة، لأن نظام صدام حسين لم يمثل خطراً على أميركا والعالم، وإنما على شعبه ووطنه بالدرجة الأولى، ولست أعتقد أبداً أن أميركا أسقطتنظامهلأنها حريصة على "حرية" العراق وعلى تعليم العراقيين وبقية العرب الديمقراطية والحرية.. فذلك قميص عثمان ليس إلا.. ولا يصدق تلك الدعوى إلا الساذج، والمسألة بديهية لا تحتاج الى كثير تعليق.

ثمة من يبشّر بصدام حضارات مقبل، والحديث هنا يتصل بالصدام بين الحضارتين الغربية والعربية الإسلامية، وهناك من يقلل من شأن ذلك فيرى أن الصراع إنما هو، وحسب، صراع مع تيارات أصولية راديكالية، وثمة من يعتبر أن الصراع لا يعدو أن يكون صراع ثقافات. فعمّ سيفضي هذا الصراع في سائر وجوهه؟

ـ ما يحدث واقعيا هو مزيج من هذه الوجوه جميعا.. ثمة، هنا وهناك، من يتمثل هذه الحالة أو تلك، ويتصرف وفقا لهذا التمثل أو ذاك. والقضية التي أنا مقتنع بها الآن هي أن الغائية الأساسية لأوضاع (التقابل) الحالية من منظور ما أسميه الليبرالية الديمقراطية في صيغتها العولمية الجديدة، تتمثل في رد عالم العرب والإسلام الى أعظم قدر من الضعف والتضاؤل وانعدام الفاعلية والمعنى. أما من منظور التيارات الإسلامية والتيارات المضادة، فلا أتبين أي مخطط يمكن أن يفضي الى نتائج ذات جدوى محققة.
ههنا "المقاصد" و"النوايا" تفصح عن نفسها من دون نظام وتخطيط، وتفتقر الى كل مقومات النجاح: الوسائل، والفاعلية، والعقلانية الموضوعية والأداتية. وفي اعتقادي أن الأضرار التي ستلحق بالإسلام والعرب ستكون عظيمة جدا إذا ما استقلت الحركات الراديكالية بالفعل.

عمّان ـ موسى برهومة

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى