الخميس ٢٠ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم علوية صبح

كل هذا الضجيج من المشاعر ...

جدار العزلة الذي أقمته بعيداً عن السياسة وسماع نشرات الأخبار، فقط استجلابات لبعض التوازن ولتجنب ما امكن من التلوث الروحي والجنون، استباحه وهدّه العدوان الاسرائيلي الوحشي على لبنان مثلما يستبيح الوطن ويدمره. الجلوس أمام شاشة التلفاز بدا أمراً لا مفر منه. وكذلك مجالسة القريبات الزائرات او الهاربات من مناطق أكثر عرضة للقصف. العالم برمّته يتفرّج على ذبحك، والأقنية تتسابق على إخبارك بذلك. القصف والدمار تحسبهما دكا جسدك، والموت الذي ترتشفه عيناك وتشبع منه، تحسب ان مسامك تتقيأ، مع تقيؤ العرق البارد المتصبب من جسدك. وفي لحظة ما تشعر بأن رأسك انفجر حقاً.
اصوات النسوة الملتمّات حولي حالة هستيرية بامتياز. الكل يحكي في الوقت نفسه، ولا واحدة تسمع الاخرى، فيما المذيع كأنه يتلو لوحده مستجدات الحرب وآخر التصريحات. عيناي كانتا تتسللان وسط هذا الصخب الصوتي العجيب، لتسرقا من بين أصواتهن الفرحة بتوجيع اسرائيل وقصف حيفا، وكذلك ما لا ترغب في رؤيته من دمار مرعب ومن بحيرات الدم في وطني. وتحاول أن تقرأ الأخبار المكتوبة بحروف صفيقة أسفل الشاشة.

الحديث عن أخبار الحرب كن يقطعنه بالحديث عن طبخة اليوم، ثم سرعان ما تعود وتعلو اصواتهن عند سماع أي خبر.
ولوهلة، تحسب أنهن تسابقن وتدافشن ودخلن الشاشة ليتلون من داخلها أخبارهن، ويصرخن للعالم ويحكين آراءهن ومواقفهن الغاضبة.
عيناي راحتا تتنقلان على وجوههن وملامحهن المنعوفة ثم تنزاح عنهن، لتلاحق الاطفال المصابين، فيما دمعي يتحجر في حلقي.

الكاميرا تعود بك الى زمن التهجير والمذابح الصهيونية بحق بلدنا وشعبنا. والكاميرا غير حنون، أمينة لجملتها البصرية، تتخم العين بالخراب والركام والانقاض. لكن للكاميرا جمل كثيرة تقول عن عشق البشر للحياة وعشق الكرامة المستهدفة والمستباحة. وللكاميرا جمل اخرى تلفتك. تتوقف عند امرأة تلد في إحدى المدارس، وتتوقف عند امرأة مهجّرة راحت ترفع طفلها الرضيع لتظهر صورته على الشاشة فيما علت شفتيها ابتسامة. ثم عادت الكاميرا لتتوقف عند امرأة اخرى تفترش ارض حديقة الصنائع، تشكو من نقصان المواد الغذائية فلكشتها أخرى جالسة الى جانبها بغضب ونهرتها وقد فنجرت عينيها بأن لا وقت الآن للتفكير في البطون، فالمهم الآن ان يحفظ الله لنا السيد حسن نصر الله والمقاومة، ثم زمّت شفتيها وأضافت مشيرة الى بطنها بعدما ضربت عليه: هيدا مش وقتو هلق، ريتو يقبر عمرو.
أصوات النسوة المجتمعات حولي كانت تختلط وتتشابك في اذني. بعضها يفرفر من أفواههن مثل دجاج ذبيح، وأكثرها يتفجّر غضباً يمكنه أن يفجر بذبذباته وبإشارات أياديهن المرتفعة ترسانة بكاملها من اسلحة العدو وآلياته. كأنهن بما يظهرنه من قوة وشراسة سليلات او مثيلات اولئك اللواتي كن يحرقن الزيت ويرمين به جنود الاحتلال في الجنوب. غضبهن ليس مكبوتاً ولا يدعنه عبئاً عليهن، وإن كانت مجاري دموعهن طويلة وطويلة ولم يتوقف سيلها منذ اكثر من ألف عام.
حكيهن الهستيري المتواضع المتواصل، بدا لي كما لو انه نوع من العلاج مثل البكاء تماماً او مثل الهرع الى السوبر ماركت لتكديس المؤنة وشراء الحاجيات بجنون، كما لو أنهن يؤمنّ الحياة نفسها. اصواتهن الغائرة في أفواههنّ تحسبها عمياء <تبقبش> في العتمة ليهتدي كل صوت الى ما يريد التعبير عنه بالكلام. أصواتهن تبقبش على احاسيسهن بالصراخ وبالحكي الهذياني، كما <تبقبش> على النبض الذي ينتفض في رقابهن كأنه يفرفر خارجها.

أمام مشاهد الدمار الفظيع الذي لحق بكامل أجزاء البلد تشعر بأنك أمام محرقة جديدة يرتكبها العدو بحق بلدك أمام أعين العالم كله. و<تتسلبط> عليك مشاعر متناقضة، خوف يجبهه غضب هائل، وغضب هائل يشوبه الخوف. نقمة، كبرياء، كرامة، خوف وحزن على البلد، وخوف ورعب من المزيد من الانقسام الداخلي.
لكنك تفكر في أن تدمير البلد توقيت إسرائيلي محسوب، ويجتاحك الغليان من ان اسرائيل تريد ان تجعل من الحياة في بلدك وهماً يتبدّد، متى شاءت أو قررت.
وإزاء مشاهد المجازر والدمار تفكر ان تتنشق كبرياء ما، حياة ما مستحيلة. تفكّر كيف تهجّر الدمع من مساكب العينين كما تهجر الناس من مساكنهم. وتتألم في الوقت، كيف يطيب لهذا الوطن النوم دائماً على حافة مهوار.

تفكّر بأشياء كثيرة وبمشاعر كثيرة تضجّ بك. تفكر أولاً بما يهبك القدرة على مقاومتك الذاتية. تفكر كيف تتصل خلسة بالحياة الممنوعة عنك في الحرب. تطمئن على أصحابك وأهلك، وتفرح لبقائهم أحياء. يفرحك اتصال خارجي من أصدقاء يسألون عنك ليطمئنوا. يتضامنون معك على الهاتف او عبر <الميساج> أو الإنترنت. تفرح. وتفرح من عزيز عليك يقول لك عبر اتصال خارجي: أحبك، إنتبهي لنفسك، فتقوى على مقاومة انهيارك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى