الثلاثاء ٨ آذار (مارس) ٢٠١٦
بقلم محمد هيبي

لعنة الوحدة وانتصار الحلم

رواية «إدوارد الملعون» للكاتب عادل فيصل الزعبي، صدرت عن دار الفارابي في بيروت مطلع عام 2015. رأيت فيها توجّها مختلفا عمّا اعتاده كتّابنا في الداخل. فهي تعالج الذات القلقة في عالم مليء بالحرمان والبؤس.

تُعالج الرواية حالة نفسية عاشها أو عايشها الكاتب، وهو يريد التخلّص من شعوره بالذنب الذي رافقها. لا شكّ أنّ تلك الحالة تحفر في لاوعي الكاتب، ولم يجد له مخرجا إلّا الكتابة وما تُتيحه من بوح قد يُخلّصنا أو يُخفّف عنا. يشي بذلك إهداء الروية: "إلى جميع الذين أسأت إليهم"! هذا بالإضافة إلى أنّ الكتابة هي بعض ما أفلح فيه البطل، "إدوارد". وقد عبّر عن حاجته إلى البوح، "حين مشى إدوارد دون أن يفهم كيف بدأ بالبوح للكلب بما يزعجه" (ص 22). وعملية البوح نفسها كثيرا ما تخلق لدى صاحبها شعورا بالذنب تجاه كل أو بعض من لهم علاقة بالحالة التي يعيشها ويبوح بأسرارها. ولتأكيد ما تقدّم، يُمكننا أن نضيف التناقض في تصريح الكاتب، في لقاء إذاعي معه في إذاعة الـ (BBC) العربية. فقد صرّح أنّ عالم "إدوارد"، بطل الرواية، يختلف عن واقعه، ولكنّه ناقض نفسه بقوله إنّ هناك قاسما مشتركا بين عالمه وعالم "إدوارد الملعون"، هو حالة البؤس التي يعيشها كل منهما في المجتمع. وحالة البؤس هذه، التي يعترف بها الكاتب، كافية لوضعه في الخانة نفسها التي وضع هو "إدوارد" فيها. وأضاف أنّ حياة "إدوارد"، خاصة بعد ما طرأ عليها من تغيير، هي حلم بعالم جميل يتمنى أن نعيش فيه. وهو، الكاتب، قد حقّق حلمه، بواسطة كتابة الرواية ونشرها.

في اللقاء الإذاعي المذكور حاول الكاتب جاهدا أن يُبعد عن نفسه تهمة كون الرواية سيرة ذاتية. وهذا الأمر يظهر في الرواية أيضا. اختيار عنوان الرواية، "إدوارد الملعون"، وكذلك اسم البطل، "إدوارد"، الذي اقترن اسمه باللعنة طيلة قراءتنا للرواية تقريبا، يشي بنوع من الخوف وتهرّب الكاتب من البوح بأنّ ما يكتبه هو سيرة ذاتية أو ما يُشبهها، وقد حاول التملّص من ذلك بواسطة السرد بالضمير الغائب والراوي كلّي المعرفة، خوفا من أن تلتصق به الرواية كسيرة ذاتية. ولكنّ صيغة الإهداء تُثبت التهمتين: الإساءة والسيرة الذاتية، إن كان الكاتب يعتبر كتابة السيرة تهمة. لأنّ البوح، كما أسلفت، يُشعرنا بالذنب تجاه أنفسنا وتجاه الآخر أيضا. وإذا كانت الصفة، "الملعون"، التي أعطاها الكاتب للبطل، يُمكن فهمها، بشكل أو بآخر، بسبب ما مرّ به من أحداث بائسة في عالم البؤس الذي يعيشه، أو يتوهّمه، سبّبت وحدته وأملت عليه هروبه إلى الغابة، بحثا عن عالم جميل لم يجده، أو ظلّ محدودا انعكس في علاقته بالحيوان، الكلب الذي هرب معه للغابة. وربما هذا الامر، هو ما أملى عليه تصرّفاته المسيئة بعد خروجه من الغابة، حيث سرق وقتل في المدينة، ولم نجد لديه أيّ شعور بالذنب حيال ذلك، كما أنّ الاسم نفسه، "إدوارد"، يشي بتهرّب الكاتب من تهمة السيرة، إذ لم أجد في الرواية ما يُبرّر اختيار هذا الاسم بالذات، اللهم إلّا مصلحة الكاتب في اختيار اسم غريب عن مجتمعه يُساهم في أبعاد تهمة السيرة الذاتية عنه. فهل "إدوارد" هو "عادل"؟ الكاتب عادل الزعبي يقول في اللقاء الإذاعي المذكور: "قطعا لا!". ولكنّ الرواية تقول: "هذا ممكن"، استنادا على القاسم المشترك الذي ذكرناه سابقا.

وعلى مستوى الشكل أيضا، إلى جانب اعتماد الكاتب للراوي كلّي المعرفة، وللسرد بضمير الغائب، لجأ الكاتب أيضا إلى الشكل الكلاسيكي الذي يتمثّل بالسرد الأفقي والزمن الكرونولوجي. كما أنّه لجأ في اختيار الأزمنة والأمكنة إلى أسلوب التعميم واللاتعيين، ربما للسبب نفسه، السيرة الذاتية. ولكن، هناك إشارات كثيرة في الرواية تُمكّن القارئ أو الناقد من تحديد الزمن وبعض الأمكنة. مثلا خوض الأب لمعركة انتخابات المجلس المحلي، يحيل إلى زمن معين يمكن أن يكون زمننا الراهن، و"مدينة الأبراج" وقربها من البحر وعمارة الصاروخ فيها، التي تضمّ المكاتب الحكومية، كل ذلك يُحيل بشكل واضح إلى مدينة "حيفا". ولون شعر الناس، الأحمر والبنّي، يُحيل إلى مجتمعين مختلفين ليس صعبا أن يفهم القارئ أنّهما العربي واليهودي.

وبما أنّ هذه الرواية هي نتاج حالة نفسية، في هذه المقالة، ورغم ما ينطوي عليه الأمر من صعوبة، سأحاول قراءة الحالة النفسية التي عاشها البطل، "إدوارد"، بمعزل عن الحالة التي عاشها أو عايشها الكاتب في الواقع أو في لاوعيه وخياله، رغم ما بين الحالتين من تشابه وتداخل نستشفّهما، ليس من اعتراف الكاتب فقط، وإنّما من الرواية أيضا.
من منّا لم يُصبه الشعور بالوحدة ولو مرة واحدة؟ ولكنّ هذا الشعور، قد يكون مجرّد إحساس بعيد عن الحقيقة. إلّا أنّ "إدوارد"، بطل الرواية، يراه حقيقة لازمته ودفعته في سنّ الحادية عشرة إلى محاولة انتحار فاشلة، دفعته إلى الهروب والبحث عن حلول تبدو رومانسية وغير واقعية، ربما لجأ إليها الكاتب ليفضح واقعا مرفوضا، يراه عبر شخصية بطله، قد بدأ يتفشّى في حياتنا وواقعنا، في مجتمعنا المحافظ الذي بدأ يتخلّى، طوعا أو قسرا، عن مبادئه وقيمه لمصلحة السوق وثقافة السوق، ويعيش حالة من التشيّؤ والاغتراب. يظهر ذلك واضحا على المستوى النفسي في محاولة الانتحار التي أقدم عليها "إدوارد"، وعلى المستوى الاجتماعي في هربه إلى الغابة بعد فشل المحاولة، وكذلك في صحبته للكلب الذي رافقه إلى الغابة. وعلى المستوى السياسي يظهر في خروج "إدوارد" من الغابة التي تركها بسبب تصرفات الجنود الذين قتلوا الكلب وسرقوا جِراءه. وعلى المستوى الاقتصادي يظهر في تصرّف سائق الحافلة، وفي سرقة "إدوارد" لحقيبته السائق، وكذلك سرقته لأموال الرجل الذي قتله.

يُعبّر "إدوارد" عن شعوره بالوحدة واغترابه في المجتمع من خلال رفضه للصراخ الذي يُشوّه بيئته، وإن كان قد اعتاده ولكنّه يرفضه ولا يتقبّله، سواء كان في البيت أو الشارع أو المدرسة، أو غيرها من الأماكن، كالحافلة التي تُقلّه إلى المدرسة مثلا. وتتجلّى وحدته من خلال المعاملة السلبية التي يحظى بها من أفراد عائلته، أو يتوهّمها، والتي تنطوي على كثير من الحرمان والإقصاء. فهو يعتقد أنّ أمّه تهمله وتصرخ دائما في وجهه ولا تراعي شعوره، وقد ظهر ذلك من وجهة نظره، في حرمانها له من إلقاء نظرة أخيرة على جدته التي أحبّها، حيث "باغتته أمّه بنبأ وفاة جدّته، وأضافت بأنّه من الأفضل له أن لا يراها وهي جثّة هامدة ... كم تمنّى لو أنّ أمّه سمحت له بأن يقبّلها (جدته) مرّة واحدة، مرّة أخيرة قبل مغادرتها" (ص 10-11)، وكذلك في اعتبارها لأمتعة جدته خردة وأنتيكا أعطتها للجيران، إذ قالت له: "هيّا لا تسأل عن تلك الخردة ... وأجابته ببرودة أنّها أعطت كل أمتعة جدّته لجرانهم الأغنياء الطيّبين الذين يهوون جمع الأنتيكا" (ص 12-13)، وهي أيضا رغم اجتهادها كربّة منزل "لا تجد وقتا لتتكلّم معه" (ص 21). أمّا أبوه فقد كان مشغولا عنه وعن عائلته بمعركته الانتخابية، وعمله كرئيس للمجلس المحلي بعد فوزه، وقد كان يتصرّف وفقا لمصلحته الشخصية ومكانته في المجتمع، حتى في تعامله مع بيته وأولاده، فيما يدّعي كذبا أنّه ينطلق من مصلحتهم. فقد قال الأب لـ "إدوارد" الذي كان راقدا في المستشفى بعد محاولته الانتحار: "إنّه حرصا منه على مستقبله، أشاع في الحيّ والمدرسة بأنّه اشتبك مع مجموعة من الأطفال المتسولين بالقرب من الإشارات الضوئية القريبة من المدرسة" (ص 33). وأمّا إخوته السبعة فقد كانوا ينبذونه ويصرخون به ويُعاقبونه بسبب وبغير سبب، ولا يُفهم من الرواية أيّ سبب لتلك المعاملة.

حاول "إدوارد" أن يهرب من حياة مليئة بالبؤس، أو هكذا كان يراها، لا أحد فيها يريد أن يفهمه، سوى كلب الجيران ومعلم اللغة العربية، فلجأ إلى الهرب. هرب "إدوارد" من البيت إلى كلب الجيران، وإلى سطح المنزل، وهرب من المدرسة بعد الدرس الذي حدّثتهم فيه العاملة الاجتماعية عن العنف. شعر بوجودها أنّه محاصر، مخنوق، بعد فعلها المشين معه حين استدعته إلى مكتبها (ص 19). كل شيء يؤلمه، والألم يدفعه للهرب. إلّا أنّ كل محاولات الهروب تفشل. محاولة الانتحار هي نوع من الهرب أيضا، وقد فشلت. ومن المنطلق ذاته، لم يذهب إدوارد" إلى حفل تخرّجه. المحاولات الفاشلة مهّدت للهرب إلى الغابة التي ذكّرتنا بغاب جبران. ولكنّ "إدوارد" بعد ما يُقارب السنتين يكتشف أنّها ليست كذلك. الحياة فيها فشلت أيضا. فقدت الغابة رومانسيتها، وخاف "إدوارد" من الاصطدام بالجنود الذين احتلوا الغابة وقتلوا رفيقه الوحيد، الكلب. إذن خروج "إدوارد" من الغابة، كان هروبا أيضا. ولذلك تبدو حياته وتطوّراتها بعد الغابة، فيها الكثير من الافتعال الذي لا يستند إلى منطق، يقوم على تهيّؤات يراها "إدوارد" حلّا، أو علاجا لحالته النفسية التي تشكو الوحدة والرفض وتبحث عن الصُّحبة والقبول. فجأة، بعد وصوله للمدينة وما رافقه من سرقة وتغيير لشكله وهندامه، يُصبح مقبولا على الجميع. وفي ذلك إحالة واضحة إلى الانسلاخ عن الماضي. حتى عندما يُهاتف أمّه، يسمع صوتها ولا يُجيبها. يُصاحب مجموعة من الغرباء التقى بهم صدفة، إلى فندق "العش"، وجد القبول لديهم فقرّر العيش في الفندق. يتعرّف أيضا على المصوّر ويجد لديه قبولا وتفهّما. هنا تبدأ محاولات "إدوارد" للخروج من الضياع، تبدأ باستخراج بطاقة هوية من مكاتب الحكومة، ولكنّ الحبّ هو المنقذ الحقيقي، وقد وجده في عيني صاحبة العينين العسليتين حين التقت عيناه عينيها في لحظة كان فيها في أشدّ مناطق المدينة ازدحاما، غرست السهم في قلبه وغابت (ص 63). لم يقف مكتوف اليدين وفي لاوعيه مشاعر مكبوتة مكتومة، غرستها العاملة الاجتماعية منذ سنين، فلجأ إلى الحلول المؤقّتة: الصحبة والحبّ العابر المؤقّت والجنس العارض. وليس غريبا أنّ المشاهد الجنسية في الرواية، تعكس في معظمها جنسا داعرا. ألم تكن تلك هي العقدة التي سبّبتها العاملة الاجتماعية التي ضغطت بوجهه ناحية فرجها بيديها الاثنتين" (ص 19). هذا الجنس العارض الذي يُمارسه "إدوارد" في المدينة، هو جنس مؤقّت يُطفئ صراخ الجسد، ولكنّه لا يحلّ العقد النفسية التي ترسخت لديه. الحبّ الحقيقي هو الحلّ في رأيه، ولذلك ظلّ يتمنى أن يلتقي صاحبة العينين العسليّتين. وفي هذه الأثناء لجأ إلى الكتابة أيضا، فهي إن لم تكن ملاذا للخلاص، قد تُشكّل وسيلة للتواصل. في هذه الاثناء يعشق الفتاة الشقراء وتعشقه، يتبادلان الحبّ والجنس. فجأة اصبح مقبولا من الجميع. خاصة من النساء. يعشق كل فتاة جميلة تُصادفه، ويمارس معها الحبّ والجنس، في أمكنة وبأشكال أقلّ ما يُقال فيها، إنّها مرفوضة على المجتمع. لذلك قد نرى لجوء الكاتب وبطله إلى هذا اللون من الجنس، فيه فضح للمجتمع الذي خرج منه "إدوارد" قسرا، وفيه انتقام منه أيضا.
عندما يشعر الإنسان بالوحدة، من الطبيعي أن يبحث عن سُبل للخروج منها. وقد يكون ذلك باللجوء إلى الذكريات السعيدة، أو بتخيّل واقع لا يكون فيه المريض وحيدا. وإذا نظرنا إلى حياة "إدوارد" بعد خروجه من الغابة، نجدها تندرج في هذا الإطار الأخير، "يتخيّل واقعا مليئا بالصحبة والقبول"، يختلف عمّا كان عليه في المرحلة السابقة من حياته، قبل الهرب إلى الغابة، حيث كان "إدوارد" يُعاني من حالة نفسية، كان يعيش أو يتوهّم أنّه يعيش وحيدا.

الشعور بالوحدة، هو حالة نفسية فردية صعبة، قد يمرّ بها الإنسان بسبب خلل في النظام الاجتماعي الذي يعيش فيه. هذا الخلل ينعكس على حياة الإنسان وقد يُسبب له خللا في العلاقات مع الآخرين، فتضطرب نفسه وحياته، ويتولّد لديه الشعور بالإقصاء والاغتراب، فتضطرب كل نشاطاته وسيكون ذلك سببا في سلسلة من المشاكل لا حصر لها، تُؤدي إلى الانسلاخ حتى بواسطة الانتحار أحيانا. وهذه كانت بالضبط حياة "إدوار" قبل هروبه للغابة.
نفهم من الرواية أنّ "إدوارد" يعيش الوحدة النفسية بنوعيها: العاطفي والاجتماعي. قد يكون موت الجدّة هو ما كشف لنا الحالة، والوحدة العاطفية بشكل خاص، ولكنّه بالتأكيد ليس سببها. لذلك لا يفهم القارئ بالضبط، ما الذي دفع "إدوارد" إلى تلك الحالة. هل هو فعلا معاملة الآخرين له، أم هو توهّمه لتلك المعاملة التي تخلو من الاهتمام والحميمية؟ إذ أنّ كل العلاقات والمعاملات التي تلت موت الجدّة، هي استمرار وترسيخ للحالة، دفعها نحو التأزّم والوصول إلى ما وصلت إليه: أولا، إلى حالات الهروب المختلفة، وثانيا إلى الانسلاخ بالهرب إلى المدينة، والبحث عن الحلّ أو عمّا يفتقده "إدوارد" من العلاقات الحميمية التي تقوم على الاهتمام والصحبة والعاطفة.

علاقة "إدوارد" الحميمية بالكلب، كانت تأكيدا لإنسانيته في وحدته الاجتماعية، وكشفت نزوعه الرومانسي، بسبب عجزه عن أيجاد أصدقاء من البشر، لا في البيت ولا خارجه. اللهم إلّا تلك الحالة الشّاذّة، معلم اللغة العربية الذي ظهر فجأة واختفى سريعا، ولذلك كان لا بدّ من ظهوره مرة أخرى بعد فقد "إدوارد" للكلب، وهروبه إلى المدينة التي تختلف فيها قواعد اللعبة.

هرب "إدوارد" إلى المدينة وهو "يعلم تمام العلم بأنّه متوجّه نحو غابة من جنس واحد، لا يستطيع تمييز الوحوش من غير الوحوش فيها" (ص 62). في المدينة نشأت الحاجة إلى المادّة بكل تجلّياتها، وبشكل خاص الحاجة للنقود والجنس. فهل كان في كيفية التعامل مع كليهما، حلّا للمشكلة، أم فضحا للمجتمع وانتقاما منه؟ هذا هو الأصحّ في رأيي، لأنّ النقود عن طريق السرقة التي مارسها "إدوارد"، حتى وأن كان الرجلين اللذين سرقهما يستحقّان ذلك، السرقة والجنس بشكله الداعر، لا يصلحان لبناء عالم كالذي يبحث عنه الكاتب أو بطله! فما الذي يبقى أمامهما لبناء ذلك العالم، خاصة وأنّ الصحبة مهما كانت حميمية قد لا تدوم، فقد مات المصوّر، الإنسان الوحيد الذي اطمأنّ إليه "إدوارد" في المدينة، قتلته الحرب، قتلت الإنسان الوحيد الذي قَبِل بـ "إدوارد" كما هو؟ ... لم يبقَ أمامهما غير الحبّ! لذلك كان "إدوارد" دائم الترقّب لظهور صاحبة العينين العسليتين مرّة أخرى.

ظهور المعلم مرّة أخرى وفي المكان الذي ظهر فيه، حيث مارس الحضور من رجال ونساء، جنسا داعرا، يُؤكّد تعقيدات الحياة في المدينة، ورغبة المعلّم كذلك في فضح المجتمع والانتقام منه، فهو أيضا قد مرّ بتجربة صعبة حين فقد أفراد أسرته جميعا.

صاحبة العينين العسليتين، ظهرت في لحظة حاسمة، في منطقة شديدة الازدحام، وقبيل تغيير "إدوارد" لشكله وهندامه بحلاقة شعره وملابسه الجديدة. "وقف إدوارد في تلك اللحظة، في أشدّ مناطق المدينة زحاما محدّقا هو الآخر إلى عيني شابة تقود مركبة سوداء، تُطلق من عينيها شهبا ونيازك، تُصيب قلبه. كانت عيناها بركانين يثوران أمامه، بركانين بالرغم من هياجهما، شعر إدوارد بالطمأنينة والأمان ... غابت المركبة في الطريق وعاد يمشي على مهله مبتهجا، لأنّه عرف أنّ تلك الدقيقة كانت أجمل لحظات عمره إلى الآن" (ص 63). صاحبة العينين العسليتين، شغلت حيّزا كبيرا في قلب "إدوارد" وتفكيره. أحبّها حبّا جنونيا. "حاول أن يُفسّر سبب حبّه المجنون لصاحب العينين العسليتين ... حاول إخماده ... لكنّ صوت الحبّ في داخله كان يصيح بقوة" (ص 86). كل مشاعره الجياشة نحوها كانت إرهاصات لظهورها ثانية. ويتضح لنا أنّها هي أيضا كانت تبحث عنه. وهنا تتجلّى قمة قبول الآخر لـ "إدوارد". ظهر ذلك بوضوح في عنوان القطعة التي تقدّمت بها للمسابقة، وكانت بعنوان "أبحث عن غول أحببته" (ص 103)، فقد احبّته قبل تغيير شكله وهندامه. يلتقيان في حفل تسليم جوائز مسابقة الكتابة التي فازا فيها بالجائزتين، هي بالأولى وهو بالثانية. ولكنّه أنكر نفسه حين سألته ما إذا كان "هو نفسه الشاب الذي كان يركض قرب محطة الحافلات المركزية بملابس قذرة وشعر أشعث؟" (ص 106). افترقا مرة أخرى، بسبب الحالة النفسية والمشاعر المتناقضة التي انتابته حين صعد المسرح لتسلّم الجائزة ورأى بين الجمهور أمّه التي كان يفتقدها أيضا. ولكن لا بدّ من اللقاء وانتصار الحبّ. كما أنّ المصالحة مع أمّه تمرّ عبر الطريق نفسه.

بعد فراق دام أكثر من عام، وجد "إدوارد" في نفسه رغبة "في مكالمة صاحبة العينين العسليتين، والكفّ عن مجرّد التأمّل والتحمّل بفضل المخيّلة" (ص 121)، والتقيا من جديد، وعاشا فترة مليئة بالحبّ والعمل والكفاح من أجل تحسين ظروف الحياة والعمل. ولكن الكاتب لم يمهلهما كثيرا، فقد أعدم صاحبة العينين العسليتين، قتلها بنوبة قلبية بعد الصعوبات التي اعترضت طريق نضالها، ليعبّر بذلك عن صعوبة تغيير العالم، وليعود "إدوارد" إلى حياة التشرّد من جديد. ولكنّه لم ييأس، فقد أخذ مكان حبيبته في النضال، "خلف صاحبة العينين العسليتين برئاسة الحركة التي أفرزتها الصالونات الأدبية التي تجاوزت سمعة أعمالها حدود مدينة الأبراج بكثير، وخصوصا أنّ المشرّدين والعاطلين عن العمل هم أنفسهم من كانوا يهتمّون بإيواء مشرّدين وعاطلين آخرين" (ص 142). هذا الأمر يطرح بعض أفكار الكاتب بأنّ حياة التشرّد يجب أن تنتهي، ولكن على الإنسان أن يكون قادرا على العطاء، وأن يهتمّ بنفسه ولا ينتظر عطف الآخرين عليه واهتمامهم به.
ويحقّق الكاتب وبطله حلمهما بالكتابة. فالصحفية التي تسلّلت متنكرة إلى عالم "إدوارد"، وسمعت أفكاره الثورية، كتبت تقريرا نُشر في صحف عديدة، كان له أثره في نشر أفكار الكاتب وبطله، "وحمّس أصدقاءه المشرّدين والعاطلين عن العمل في مدينة الأبراج على مداهمة مقرّ نقابة العمال فيها، والكتابة على جدرانها عبارة سمعها بعضهم من صاحبة العينين العسليتين، تقول: لا شروط للعمل بعد اليوم، لأنّه لا شروط ولا حدود للعطاء" (ص 148). وهذا هو العالم الذي يحلم به الكاتب وبطله، كما لخّصه في الصفحة الأخيرة من الرواية: "صباح يوم ملامحه مثل ملامح طفل يمشي للمرّة الأولى، مثل عصفور يشاهد القفص من الخارج للمرّة الأولى. صباح يوم بات الكل ينتظر فيه إلى الحياة نظرة جديدة، نظرة من عين الحلم. صباح يوم سمع الجميع فيه أنّ الجيوش والمقاتلين في الشرق والغرب رموا أسلحتهم في النهر، وعادوا إلى منازلهم وهم يُحبّون بعضهم بعضا، ويكرهون النظام والخرائط والبنوك، صباح جميل انتظره الجميع طويلا أيام كان طفلا، صباح يوم لا أحد يلعن نفسه التي يحبّها أو من أحبّ فيه" (ص 149). وهكذا يتوقّع القارئ أنّ نفس "إدوارد" الملعون وكذلك نفس الكاتب قد هدأتا، لتنتهي روايتهما تلك النهاية الرومانسية بتحقيق الحلم: البطل باستيقاظه ذلك الصباح على عالم مختلف، والكاتب بكتابة الرواية ونشرها. وهكذا، استطاع عادل الزعبي، وبلغة تتدفّق بالمشاعر الإنسانية أحيانا، وتُعاني الجفاف والجمود أحيانا أخرى، استطاع أن ينعتق من همّ كان رابضا على قلبه، وأن يخرج من لعنة الوحدة التي كان يُعاني منها، إلى الناس بواسطة الرواية التي لم يجد غيرها طريقا آخر يتواصل به معهم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى